ثقافة وفنونشخصيات

القاص و الكاتب المغربي المتألق حسن برما في سرده الرائع لقصته القصيرة كأس الغائب

كأس الغائب÷÷ حسن برما

كان يعرف أن المركب اقترب من مرسى النهايات، التفت إلى الخلف، لم ير سوى الضباب وبقية من سؤال هزم سائل الحسناء المعلوم، متى كانت بداية الضياع ؟ ومتى استسلم لمرارة الخيبات ؟ لا لوم سوى عليه ، ترك الأيام تسرق الغد منه، حلم أن العالم يتغير، آمن بالحب كي يعيش الحرية، جرب العناد، تناسل جشع الوحوش وضيّعوا عنه حاضر الإدانة. كثيرا ما تساءل دون رغبة في الحصول على جواب، ما وقع قد وقع، فما جدوى العودة لانزلاق المنطلقات ولا ممحاة تمحو عثرات البداية الساذجة ؟ وغصات الاستفاهامات العبثية، لو لم يقرأ فرويد وماركس وسارتر وكامي وماركيز وغوركي ؟ لو لم يقرأ خطاب الدكتاتور وسيكولوجية الإنسان المقهور والحقيقة الغائبة ؟ لو لم يعشق فيروز ومارسيل وأميمة والعاشقين ؟ لو كان قد قرأ ظلال القرآن وجاهلية القرن العشرين وعذاب القبر؟ كيف كانت ستكون حياته الآن؟ منذ عقود، في نفس الموعد والمكان، صار عبدا لطقس يومي يحضن حمقى الوهم الكبير داخل القلعة، مع كأس الحسناء المكللة بالبياض ، لا وقت لديه للندم وتأنيب الضمير وجلد الذات ، الكأس الأولى تحية سريعة للغط السائب والعتمة الملغومة والسفر اليومي في طقس الإدمان والانسحاب، فلماذا القيام بهذه التفاهات وطقس الغياب لا يتبدل؟ أخذه قطار الحب صدفة، توقف به في محطات مهجورة محاطة بالغبار والأشواك، لم يبال بخواء المصير، ظل وفيا للعبور الهارب نحو رحبة الخذلان والنسيان، وخارج سكة الخيبات، تناسلت العذابات، فشل ونحس وهزائم بالجملة، وبياض الفقدان انتظر ضحاياه على قمة سكنتها أقنعة شر وافتراس. مع الكأس الثانية، حان وقت الإقلاع نحو ذاكرة الخيانات المرصودة، أخذ راحته في الجلسة فوق الكرسي، استعد لبداية المحاكمة دون أسوار، وحيدا وسط الغناء المبتذل وجوقات السكارى واعترافات ضحايا العواطف الساذجة، وتصالح مع اليومي الهارب. مع الكأس الثالثة ، ملأ شبكة الكلمات المتقاطعة انتقاما من الكلام الزائد وتأويلات سائبة خدعته وجعلته يعتقد في الأحلام، ومع الكأس الرابعة قرر الإضراب عن الصمت، شرع في الحديث عن الصهد وصعوبة التنفس والاختناق. الهاوية اختارت ضحايا الانتظار الأحمق، وضياع الفكرة حتمية لمن شاء الابتلاء بالأوهام، لا جدوى من الندم على فرص ضاعت في الغفلة، ولا فائدة من عتاب خواءٍ عمّر طويلا . تذكر وقت الخروج من النفق، كان متلهفا لاحتضان ضوء الحياة، لكنه وجد نفسه على بعد خطوة من السقوط في منحدر خطير ، تردد للحظات ، استحضر الإحساس المر بضجر العودة لمسار البدايات الفاشلة، انصاع لجاذبية المنحدر والهلاك بالتقسيط .. والنتيجة ، جلوس يومي في حانة كائنات مكتئبة وجدت نفسها على هامش ما يجب أن يكون.. لا صحة لا حب لا أمان، ولا أمل سوى التعايش مع وجود ممل لا معنى يهديه الشغف اللازم . في هذه القلعة المغلقة على روتينيتها، لا حاجة للوقت بعقرب يقوده لنهاية مكررة، خواء داخلي يأكل النفوس المرصودة للعبور المحايد .. ولغط وبوح وندم وتأوهات وساعة عطلانة دون تأثير يذكر. لكن ذاكرته سجن قاس منعه من التحرر من سجان لا يرحم، كلما فكر في الخلاص من معتقل الحلم المجنون أعاده سوط الذكريات لنفس الزنزانة بربوة اللعنة الغامضة. الآن فقط اعترف بغبائه المركب، صدق فخاخ حقارات استأجرت مخبرين ومخبرات نصبوا شباك غدر مبين، ووجهوا الطعنات بما يلزم من أحقاد. في حياة أخرى، يولدون وينالون ما يرغبون فيه، وداخل العتمة، سقط المنحوس في جوف الكأس، أفلت فرصة النجاة من مصير المنبوذين، جره القعر نحو الأسفل، عاش وسط الظلمة ولم ينس الاستسلام لتبعات الأسف والندم.ــ يتبع ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube