شخصياتمستجدات

مع غرامشي(12) تطور مفهوم اليسار (6)

مع غرامشي(12)

تطور مفهوم اليسار (6)

محمد المباركي

9 – الثورة الروسية عام 1917

بدأت الحركة الثورية الروسية منتصف القرن التاسع عشر، وتطورت ضد حكم القصر ألكساندر الثاني الذي خلف نيكولا الأول عام 1855.أول من قام بالعمل الثوري هم مجموعة من المثقفين الذين نادوا بتوعية الشعب قبل البدء بالعمل الثوري وكانوا ينشطون خارج روسيا أساسا كلاجئين بباريس. أمام القمع الشرس للدولة ستتحول الحركة الشعبية التي أسسها المثقفون الي حركة ثورية انقسمت عام 1879 الى تنظيمين، الأول ارادة الشعب أو الحزب الاشتراكي الثوري الذي اعتمد الارهاب كوسيلة للقضاء على الحكم الاستبدادي الروسي. والتنظيم الثاني هو التنظيم العمالي الذي سيعطي الحزب الاشتراكي الديمقراطي لاحقا وضمنه كان بليخانوف وفيرا زاسوليتش .

ولقد ساعدت عملية التصنيع الكبرى نهاية القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية، تجمع العمال في مراكز صناعية مهمة تسرب اليها الفكر الماركسي. كما ظلّت نزعة تأميم الأرض، كاستجابة لحاجيات الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة لساكنة روسيا، قائمة بشدة. في البداية كان ماركس متحفظا على امكانية قيام الثورة في روسيا الاقطاعية لكنه غير موقفه بعد فشل الأممية الأولي وخاصة كمونة/مجلس بلدية باريس، وتبنى إمكانية نجاح الثورة في بلد اقطاعي كروسيا. حيث يمكن للثورة الفلاحية أن تكمل الثورة العمالية.

بعد مخاض طويل وصراعات كثيرة داخل اليسار الاشتراكي الروسي، سيتبلور اتجاهين، الماركسيون الشرعيون الذين يتبنون النضال العلني الشرعي. واتجاه الاشتراكيين الديمقراطيين وكان ضمنهم لينين ومارتوف، نادوا بالنضال الثوي الغير الشرعي للإطاحة بالنظام الاستبدادي. وقد اشتد الصراع بين الكتلتين لما نشر لينين ومارتوف جريدة غير مرخصة عام 1900 و هي جريدة الشرارة “الاسكرا” لتحريض العمال و تنظمهم. لكن الخلاف ما برح أن قام بين لينين ومارتوف حول المسألة التنظيمية التي كانت تعكس وجهة النظر السياسية لكل منهما. هكذا تشكل اتجاهين في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي بلندن عام 1903. الاتجاه المعتدل بقيادة مارتوف و تروتسكي وكان أقلية وهو الجناح المنشفي، والاتجاه الثوري الذي مثله لينين و زنفييف و كمنيف و الذي سمي بجناح الأغلبية وهو الجناح البلشفي. والحقيقة أن فارق الاصوات بينهما كان جد ضئيل. وأن تسمية جناح لينين بالأغلبية ” البلشفيك” يأتي كون البلشفيك كانوا يطالبون بالأكثر أي الثورة. خلافا للمنشفيك الذين كانوا يريدون قيام الثورة عبر مراحل. لقد شرح لينين الخلاف حول الاستراتيجية والتكتيك بين الاتجاهين في كتاب ” ما العمل ” الشهير.

عدة عوامل مشتركة ساعدت على انتصار الثورة الروسية، منها انتفاضة العمال في المراكز الصناعية والفلاحين في البوادي والجيش في جبهات القتال. حيث تكونت مجالس داخل الجيش ترفض الأوامر وتقوم بالتسيير الذاتي ومنه قيام الثورة في أبريل بقيادة الاشتراكيين المعتدلين، لكن الاشتراكيين الثوريين وخاصة البلاشفة والمنشفيك رفعوا شعار السلم ونهاية الاقطاع واستطاع البلاشفة السيطرة على أغلب المجالس / السوفييت واقامة ديكتاتورية البلوليتاريا في السابع من أكتوبر عام 1917. الاطاحة بنظام الاستبداد بروسيا، جاء بمثابة اعلان نهاية الحرب العالمية الأولي وفتح الباب أمام امكانية قيام نظام اشتراكي ذا توجه ماركسي في بلد اقطاعي متخلف اجتماعيا. ان انتصار الثورة الروسية باسم المضطهدين لم يكن خاص بالشعوب التي كانت ترزح تحت الاستبداد الملكي الإمبراطوري الروسي، بل انتصار لكل الشعوب المضطهدة حيث ظهرت قوة ثورية تساند الشعوب المستعمرة وحركتها التحررية. وتمكنت الدولة الاشتراكية الأولى التصدي للثورة المضادة التي قامت بها القوى المتحالفة مع الدول الرأسمالية الغربية. يمكن القول، كما دشنت الثورة البرجوازية الفرنسية مرحلة جديدة من تاريخ الانسانية حررتها فيه من قبضة اللاهوت على العقول. كما أقرت إمكانية قيام دولة ديمقراطية علمانية، تقبل بالتعددية والتداول السلمي للسلطة. أما الثورة البلشفية في روسيا فقد فتحت الباب لتجارب اشتراكية باسم ديكتاتورية البلوليتاريا أي ديمقراطية عمالية تمثل كافة الكادحين تحت قيادة الحزب الواحد ذا التوجه الشيوعي.

ابان ثورة أكتوبر 1917 تكتل كل الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين في حزب واحد هو الحزب الشيوعي السوفييتي والذي تبني المنهج الماركسي المادي الجدلي والتاريخي. حيث هناك تسلسل في تطور أنماط الإنتاج والمجتمعات الناتجة عنها تشكل خلالها الشيوعية نهاية التطور الرأسمالي. مما تجدر الإشارة اليه، كون الثورة الروسية حصلت في بلد متخلف صناعيا وحدثت بسبب الحرب لا بسبب الأزمة الاقتصادية الرأسمالية المزمنة. الحرب التي دخلتها جيوش القيصر باستراتيجية حرب المواقع التي لم تكن مؤهلة لها كما كان حال الحلفاء في الواجهة الغربية. كما تمت الإشارة لذلك. ثم أن الدولة الناتجة عن ثورة أكتوبر 1917 لم يكن في مقدورها تطبيق الشيوعية ومحو الطبقات ولذا طرحت مراحل للوصول الى المجتمع الخالي من الاستغلال. لكنها نظرا لأخطاء سياسية وتنظيمية داخل الحزب الحاكم التي أدت الى تشكيل بيروقراطية زاحفة شلت المشروع الاشتراكي من أساسه، مما حال وتطبيق البرنامج الاشتراكي الذي انطلق من أجله. الميزة الفريدة لقيام نظام اشتراكي سوفييتي بروسيا ومجمل بلدان المعسكر الاشتراكي، أنه ظل يواجه النفود الامبريالي والاستعماري في العالم ويساند جبهات التحرر الوطنية والقوى الثورية.

غرامشي والثورة البلشفية

لما اندلعت ثورة أكتوبر 1917 بروسيا، وقف منها غرامشي متحفضا كونها لا تندرج والنسق الاديولوجي الماركسي الكلاسيكي، الذي يرى الثورة البلوريتارية تخرج من رحم الديمقراطية البرجوازية/الليبيرالية. وأن الشريحة المتقدمة من الشغيلة المجسدة في البلوريتارا الموكول لها الدور الطليعي والمحوري لتحقيق الثورة الاشتراكية. تحفظه جاء كون المجتمع الروسي كان لا زال يعيش مرحلة اقطاعية المطبوعة بنظام استبدادي الذي سيتطور عبر ثورة برجوازية قبل قيام الثورة الاشتراكية. كلن هو ذا التصور الرائج في الأوساط الاشتراكيين معتدلين كانوا أم ثوريين. لننا نراه يطور موقفه بضعة أشهر على قيام الثورة لمناصرتها والدفاع نها. وهو بذا يذكرنا بموقف ماركس لما تحفظ اتجاه الثورة الشعبية لكمونة / مجلس باريس عند انطلاقها، قبل أن يؤيدها لما رأى نوعية السلطة الديمقراطية عبر المجاليس / السوفييت كنوع متقدم و مباشر لتحمل المسؤولية والمحاسبة، ثم تخاذلت في الدفاع عن حوزة الوطن وكرامة الشعب الفرنسي وذلك بتواطؤها مع المحتل الألماني للقضاء على تجربة نيرة في تحرر الشعوب عبر الاعتماد على المقاومة و التنظيم الخلاق.

لكن تأييده للثورة البلشفية لم يكن دغمائيا، لذا نراه يدافع كأقلية الى جانب لينين عن مشروع السياسة الاقتصادية الجديدة مقابل سياسة الاقتصاد الحربي الذي اتبعته الثورة في بدايتها والتي لم تجعل حدا للمجاعة وتدهور الإنتاج الاقتصادي بشكل مريب. السياسة الاقتصادية الجديدة التي دشنها لينين عبارة عن مزج الاقتصاد الحر أو الليبيرالي بالاقتصاد الاشتراكي المبرمج. تجربة تعبر في العمق استحالة بناء الاشتراكية على أشلاء انتاج اقطاعي عتيق شأن نمط الإنتاج المتخلف الذي كانت تعرفه روسيا القيصرية. مع موت لينين عام1924 ستتوقف معها تجربة الاقتصاد المندمج ومعها دخول الاتحاد السوفييتي في نمد انتاج اقتصادي لا يسمح بتراكم فائض القيمة المولّد للرفاهية. بخصوص التجربة الاقتصادية السوفييتية كتجربة الاقتصاد الممركز قد قيل فيها الكثير. منها من انتقدها وأرجع سيي تقهقر المعسكر الاشتراكي اليه. ومنهم من رأى أن العامل السياسي وانعدام الحريات للنظام السوفييتي هو العامل الأساسي في اندحار تلك التجربة الاشتراكية الكبرى. والدليل الذي يقده البعض كون العامل الاقتصادي هو الرئيسي في نجاح التجربة الاشتراكية وليس العامل السياسي هو ما سارت عليه الصين بعد انتهاء التجربة الكلاسيكية بموت ماو تصيتون واشوان لاي والتجربة الجديدة التي دشنها تين سياوبين التي دون التنازل عن سيادة حكم الحزب الوحيد، فتحت أبواب الاقتصاد الليبيرالي والاستفادة من العولمة لتصبح الصين مصنع العالم تنافس اقتصاديا الدول الليبيرالية الغربية. لكن اذا رجعنا للمنهجية الغرامشية، التي تقر بالتعددية الثقافية السياسية داخل المجتمع، و منها التعددية السياسية، نجد أنفسنا لا نقر بسيادة العامل الاقتصادي عن العامل الثقافي أي السياسي و الاجتماعي. خلافا للصين نجد المجتمع الياباني والكوري الجنوبي يتماشيا والنهج الغرامشي بمعني أن هناك صراع طبقي مفتوح يلزم للقوى الاشتراكية فرض هيمنتها داخل مجموع الطبقات الاجتماعية للوصول الى السلطة. أما التجربة الكوبية فتلك تجربة نوعية خاصة يلزمها وقفه خاصة. كما هي أيضا التجربة المغربية التي سنحاول الالمام ببعض جوانبها لاحقا.

ملاحظة أخيرة بالنسبة لموقف غرامشي من الثورة الروسية، ذلك وكما عبر عن ذلك لما عالج مفهوم الكتلة التاريخية أو الكتلة الشعبية كما نعتها البعض، أن قيادة البلوريتاريا / الطبقة العاملة في بلد متأخر غالبيته من الفلاحين ناقصة ولا يمكنها سوى بناء نظام ديكتاتوري. بل يجب أن يكون هناك رابط عضوي بين الكتلتين المهيمنتين عبر توازن ثقافي بينهما. غياب هذا التوازن هو الذي أدي الى الحكم الفردي في الاتحاد السوفييتي وباقي بلدان التي حكم فيها الحزب الواحد.

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube