مستجداتمقالات الرأي

ابتسامة من خلف الكمامة(44) : العصا في أكلة البطاطس،وبذور الديموقراطية

مصطفى الزيـــن

عطفاً على ابتسامة أمس الحانقة حول “التربية والمربَّى المخزني” ،أجد نفسي مدفوعا إلى استرجاع أحد النصوص التربوية الجميلة مما تلقَّتْه أجيالنا في ابتدائي أواخر الستينيات..من القرن الماضي؛ وهو نص “أكلة البطاطس ” البوكماخي الذي لا يُنسيناه حتى الألزهايمر اللعين ؛ وذلك لمتعة البناء ، والبنية القائمة على التدرج نحو قمة يعتليها الفأر ، والتداعي نحو السفح حيث يقيم الطفل والأم.. بينا يغيب الأب..، الذي لا يقيم إلا في خلفية التحكم عن بعد ، فهو صاحب البطاطس الإلزامية .
ومن قوة بلاغة ذلك النص،أننا إن أردنا تلخيصه، فلن نلخصه بأوجز من متنه ،وهو كما أستعيده من الذاكرة ( وأعتذر عن استبدال الجزار بالسكين والحداد) :
قالت الأم لولدها: كلِ البطاطس . قال الولد: أنا لا آكل البطاطس.
قالت الأم للعصا : اضربي الولد. قالت العصا:أنا لا أضرب الولد .
قالت الأم للنار : احرقي العصا قالت النار : أنا لا أحرق العصا..
قالت الأم للماء : أطفئ النار. قال الماء: أنا لا أطفئُ النار.
قالت الأم للبقرة :اشربي الماء. قالت البقرة: أنا لا أشرب الماء.
قالت الأم للجزار: اذبحِ البقرة. قال الجزار: أنا لا أذبحُ البقرة.
قالت الأم للحبل: اشنقِ الجزَّار. قال الحبل : أنا لا أشنق الجزار.
قالت الأم للفأر : اقرضِ الحبل.
قال الفأر : نعم،أنا أقرض الحبل..
[ ها!..،من هنا ،من الفأر، يبدأ التداعي!]
فيقول الجزار: نعم،أنا أذبح البقرة.. وتقول البقرة : نعم أنا أشرب الماء ..والماء : نعم ، أناأطفئ النار ..والنار :نعم، أنا أحرق العصا..فتقول العصا : نعم ، أنا أضرب الولد..فيقول الولد : نعم ،أنا آكل البطاطس..

من منا، من تلك الأجيال/الأطفال، كان يرفض أكل البطاطس حتى تستدعى من أجله العصا ؟ والنار والماء والبقرة والجزار والحبل والفأر ؟ ؛ فقد كنا نأكل ونلتهم أي شيء مطبوخا أو نيئا،وكانت الأشياء طبيعية طيبة لذيذة. وتعلمنا ، من خلال الكسكس ، أكل حتى اللفت والجزر والكرنب كالأرانب..؛ وكان جيلنا يأكل كل شيء ، ويأكل ،معه وقبله وبعده ، العصا “التي خرجت من الجنة” ،كما كان يقال لنا..ولهذا ،كنا نعتبر هذا الولد الذي يرفض أكل البطاطس ولدا أخرق معتوها يستحق أن يضرب بالعصا..ولكنا كنا نجد هذا النص ،في بساطته و”شعريته” ، ألذ من البطاطس والمغارس ؛أسياخ اللحم المشوي التي لم نكن نذوقها إلا في عيد الأضحى.
ولم نتساءل:لماذا لم تتقبل الأم رفض الولد أكل البطاطس؟ ألم يكن من خيار آخر أمام الولد؟ لمَ الترهيب دون الترغيب؟ لمَ الترهيب بالعصا؟ وترهيب العصا بالنار؟..وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى ترهيب الحبل بالفأر الذي لا يتردد في قَبول قرض الحبل؟

كنا نقول: ابن حرام هذا الفأر وأمثاله من القوارض، لا ترفض،بل لا تتردد في قرض أي شيء..
لم نكن نعلم أنه سيأتي علينا، وعلى الأجيال بعدنا ، وقتٌ يجبُ فيه أن نرفض أكل البطاطس ومقاطعتها ،لا لأنها أصبحت ، اليوم، غالية لاهبة، كما هي حال الطماطم والبصل..وكل الخضر والفواكه..والحاجيات ؛ ولكن لأن البطاطس-ودعنا نتَّخِذْها نموذجا و عنوانا ورمزا- لم تعد لذيذة شهية ؛ لأنها لم تعد طبيعية(Bio)،وإنما تمت هندستها وتعديلها في مختبرات “الأعداء”المجرمين..وها نحن نُكره ، بالعصا وبالنار والماء والبقرة والجزار والحبل، وبالفأر على التطبيع معها ،وأخذها بالأحضان..فحتى لو رفضت عصا قواتنا المخزنية ضربنا وإكراهنا على تناول “البطاطس” المستوطنة المسرطنة..فإن النار ستحرقها،وإن أبت النار،فإن الماء مطفئها،وإن أبت خراطيم المياه المفرقة المشتتة ، فإن البقرة الضاحكة المفَرنسَة (المفرنِسة) ، وأمها التي حاولنا مقاطعتها ، مستعدة لشرب المياه، وإلهاب فواتيرها ،وإن أبت البقرة الضاحكة-وهي لن تأبى شرب أرباح مياهنا-فإن الجزار الحاج الديبشخي مستعد للتظاهر بذبح تلك البقرة ،أو استبدالها من أخرى تركية (مسلمة زعما هههه)،وإن أبى الجزار الديبشخي أن يذبح أو يتظاهر بذبح البقرة، فإن الحبل ،الذي هو في رقة ودقة ورهافة ومرونة “شعرة معاوية”مستعد أن يَشنقهُ، أو يستبدله بجزار آخر ،ينطق العربية محرفة مبعثرة الأحرف؛ وإن أبى الحبل الشَّعَري الأموي القرشي أن يشنق الجزار الديبشخي أو “الديباخضر”أو “الديبازرق”..، فإن “الفأر”العولمي مستعد ، من صندوقه ،لقرض الحبل الأموي ، وتفتيته وتبديده ؛ بل إنه لمستعد لفتل وبرم وتضفير حبل القروض وإملاءاتها، ووضع أنشوطتها في أعناق الدباشخة الجزارين من مختلف الأصناف والألوان ،وأعناق البقرات الضواحك المفرنِسات ،أو المترِّكات..، وأعناق أصحاب خراطيم وعددات المياه والضياء ..وفي أعناق أصحاب النيران وآلياتها المستوردة المسعرة، وعلى الرجال العصي الصغيرة، والعصوات الكبرى..وفي أعناقنا ، نحن جميعا رافضي أكل هذه البطاطس ومشتقاتها كالتشيپس ، وأخواتها.. والتي تأمرنا الماما المعلومة بأكلها ،وإلا..وإلا..
وإذن فإن “الفأر العملاق القارض الرهيب ” هو من يتحكم في قرض كل الحبال، حبل/شعرة معاوية السياسي ، فيشده ويوتره حتى ينقطع، وحبل الاجتماع ،وحبل المودة والرحمة والرحم..؛ يقرضها بما يفرضه من عزل وتكميم وحظر وبروتكولات..
وهو الفأر العظيم الذي يفتل ويضفر حبال القروض أنشوطاتٍ حول رقاب الدول والمؤسسات والشركات المتوسطة والصغرى، فيلتهمها، أو حول رقاب الأفراد حبالا أنشوطية مدهونة بالتسهيلات والأقساط .. فيكبلهم ، وهو من يرغم الجزار على ذبح تلكم البقرة إن لم تشرب الماء،إن لم يطفئ النار ،إذا هي لم تحرق العصا، إن رفضت العصا المخزنية ضربنا إن رفضنا أكل مربى/كونفتير بطاطس الماما فرنسا (وخالاتنا) ،و أبينا الذي في الخفاء..
مَن ِالداهية الذي كتب وكرس نص أكلة البطاطس الرهيب ، الذي يتربع على قنته ، أوقمته ، ذلك الفأر العولمي العملاق القارض المقرض الرهيب؟ هل كان المرحوم أحمد بوكماخ يرى الجولة الثانية من هذه “اللعبة”، عندما تتغير البطاطس ، ،وتتغير أكلة البطاطس وتصبح مربّى رهيبا متقادما ،مسرطنا من تلك البطاطس المعدلة جينيا، المصنعة في حدائق المستوطنات السرطانية الرهيبة؟
ورغم هذا ، سنجد العلاقة متينة بين البطاطس والديموقراطية ،كما في هذه الحكاية في الختم:
يحكي أحد العراقيين من ثلاثينيات القرن الماضي أن مُزَارعا زعيما محليا، جاءهم يوما ببذور غريبة وطلب من الفلاحين زرعها..وعندما سألوه ما تكون هذا النبتة أخبرهم أنها تسمى البطاطا ،فشرعوا في
زرعها ،وكانت النتائج باهرة.. وبعد سنة ،جاءهم ،وأخذ يخطب فيهم حول الديموقراطية ومحاسنها، وضرورة تجريبها في البلاد ..فأعرب له الفلاحون عن استعدادهم لزرعها ،كما البطاطا من قبل، فما عليه سوى تزويدهم ببذورها .. وهكذا أصبحت الديموقراطية مكونا من مكونات هذا المربَّى الذي نتجرعه مكرهين.
صفرو

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube