احمد رباصاقواس

المعنى في فينومينولوجيا إدموند هوسرل

أحمد رباص

أ- المعنى كنوع مثالي
إن ما يحفز النزعة اللابسيكولوجية عند هوسرل في Recherches logiques هو الاعتقاد بأن المنطق لا يتعامل مع الأفعال العقلية، بل مع معان مثالية موجودة في محتوياتها. لكن فيم يتمثل بالضبط هذا المعنى؟ يحاول البحث الأول من الكتاب المشار اليه قبل حين الإجابة عن هذا السؤال. يبدأ هوسرل بأن حلل طيه مفهوم “العلامة”. تساعدنا العلامات في المقام الأول على التواصل. مثلا، نتلفظ بجملة ومن خلالها “نظهر” لمخاطبنا بأن حكمًا معينًا حدث في داخلنا. من أجل كل ذلك، لا يشكل هذا الفعل العقلي (فعل الحكم) بالنسبة لهوسرل معنى لهذا الملفوظ. إن وظيفة الإحالة إلى شيء ما، والتي تشكل الوصمة المميزة للعلامات، لا تتماهى مع وظيفة الدلالة. لكي تحصل علامة على معنى، لكي تشكل ” عبارة ” بشكل صحيح، هناك حاجة إلى شيء أكثر من مجرد تجسيد فعل عقلي. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن العبارة قد تفقد معناها بمجرد توقف استخدامه للتواصل مع الآخرين.
على الرغم من أن معنى العبارة لا ينحصر في الفعل العقلي الذي يتجلى في هذه العبارة، فإن الوعي ليس غريباً بالمرة عنه. وفقا لهوسرل، يتم منح المعنى لعبارة ما بفضل “فعل الدلالة”، “فعل القصد”. من هنا، تكتسب العبارة علاقة بشيء ما. هذا لأن فعل الدلالة “مقصود”: فهو يهدف إلى شيء ما. يجب عدم الخلط بين معنى العبارة وبين هذا الشيء. بواسطة فعل الدلالة، نحن نهدف إلى شيء ما بقول شيء ما في شأنه، وما قد نعنيه قد يكون مختلفا من فعل إلى آخر. هكذا قد يكون لبعض العبارات معان مختلفة ومع ذلك تشير إلى نفس الشيء. هذه، مثلا، هي حالة العبارتين الاسميتين: “المنتصر في يينا” و “المنهزم في واترلو”، وكلاهما يحيل إلى نابليون، ولكن عن طريق معان مختلفة. ما يميز هذه الأفعال المقصودة، التي هي أفعال الدلالة المرتبطة بهاتين العبارتين، هو “مادتها” (Materie). هذه الأخيرة هي ما يعطي للفعل توجهه إلى شيء ما، بحيث نهدف إليه بهذه الطريقة أو بتلك، وليس بطريقة أخرى.
كل اسم يسمي شيئا معينا وهذا لا ينبغي الخلط بينه وبين معنى هذا الاسم. ماذا عن الملفوظ؟ يجب أن نميز بين ما يقوله الملفوظ وبين الذي قال عنه الملفوظ . مثلا، في الملفوظ “انهزم نابليون في واترلوو”، الذي قيل أنه انهزم في واترلوو هو نابليون، لكن ما قيل هو أنه انهزم في واترلو. لدينا هنا شيئان، أو بالأحرى شيئيتان، أي شيئان بالمعنى الواسع للكلمة. لدينا، من جهة الشيء الذي يدل عليه الملفوظ – نابليون – ومن ناحية أخرى، المتضايف الشيئي للملفوظ أو ما يمكن أن نسميه أيضًا موضوع الملفوظ – انهزم نابليون في واترلو. موضوع الملفوظ هذا هو ما يسميه هوسرل ” الوقائع ” (Sachverhalt). كل ملفوظ ذو معنى له متضايف شيئي من هذا النوع لا يجب الخلط بينه وبين معناه. عندما يتحقق ذلك، تكون هذه الحالة واقعية.
الكلمة أو الملفوظ يعني شيئًا، فهو يحيل من خلال قصد معين للدلالة إلى متضايف شيئي. ولكن هناك حالات يظهر فيها فعل الدلالة مرتبطا بعبارة غير قادرة على استهداف أي شيء كان، لأنه لا يمكن بشكل قبلي أن يوجد فيها أي شيء يطابق هذا الهدف. هذه هي، مثلا، حالة عبارة “الدائرة المربعة” التي، وإن كانت ذات معنى، تجمع بين معنيين متناقضين ولا تبدو لهذا السبب أنها تحيل إلى أي شيء. في هذه الحالة، يقول هوسرل، يكون قصد الدلالة غير “مستوفى”، هناك هدف في الفراغ. في المقابل، يكون قصد الدلالة مستوفى عندما يكون شيء معطى متوافقا معه بشكل حدسي. هذا العطاء الحدسي للشيء يمكن أن يتم بواسطة الإدراك، مثلا عندما أدرك شخصا مسمى باسم، ولكن يمكن أيضا أن يتم بواسطة الذاكرة، إذا كان ذلك الشخص غائبا، أو بالخيال ، إذا كان الشيء المسمى بهذا الاسم خياليًا. ما توضحه حالة عبارة مثل “الدائرة المربعة” هو أن معنى العبارة لا يتطابق أبدا مع المعطى الحدسي لمتضايفه الشيئي، ما دام أن “الدائرة المربعة” ذات معنى، لكن فعل الدلالة المترابط معها لا يمكن أبداً أن يتحقق بشكل حدسي.
إذا لم يتم تحديد المعنى بالمعاش المتجلي من خلال العبارة، ولا بمتضايفه الشيئي، ولا بالمعطى الحدسي لهذا المتضايف، فكيف يتم تمييزه؟ نحن نريد قول أشياء معينة من خلال العبارات التي نستخدمها. هذا هو بالضبط حقيقة أن عباراتنا تريد قول شيء يجعلها ذات معنى. لكن المعنى يمكن أن يكون هو نفسه في العديد من أفعال الدلالة. عادة ما نريد أن نقول الشيء نفسه عندما نستخدم نفس العبارة. حسب هوسرل، يجب فهم هذه الوحدة لمعنى العبارة نفسه بطريقة مشابهة لوحدة الأحمر المثالي الذي يتم توكيده بظلال فردية مختلفة من اللون الأحمر. وحدة المعنى، اذن، مثالية من ناحية، بمعنى أنها خالدة. من ناحية أخرى، هي محددة بحيث تكون نفس المعنى الذي نجده في العديد من أفعال الدلالة، وبشكل أكثر دقة في مادتها.
ب- المعنى كشيء مقصود
على الرغم من أنها ذات معنى، فإن العبارة مثل “الدائرة المربعة” تجمع بين معنيين متناقضين فيما بينهما. من هنا، لا شيء يمكن أن يأتي لاستيفاء قصد الدلالة المتضايف معها. يبدو أن هذه القصد يهدف إلى شيء ما. عندما يتحدث شخصان عن الدائرة المربعة، يبدو أنهما يتحدثان عن الشيء نفسه. هذه الصعوبة التي أثارتها نظرية المعنى في Recherches logiques يمكن مع ذلك التغلب عليها بسهولة إذا ما ميزنا “الشيء المقصود” المستهدف بفعل الدلالة عن “الشيء الخالص والبسيط” الذي يأتي في النهاية لتحقيق هذا الهدف بشكل حدسي.
هذا بالضبط ما فعله هوسرل في كتابه Leçons sur la théorie de la signification الصادر عام 1908. لنأخذ كمثال العبارتين: “المنتصر في يينا” و “المنهزم في واترلو”. كلاهما يسميان نفس الشخص، وهو نابليون، لكنهما لا تسميانه بنفس الطريقة. نحن إذن لا نتعامل في الحالتين مع نفس الشيء المقصود: في الأولى، يتعلق الأمر بنابليون باعتباره منتصرا في يينا، وفي الثانية، بنابليون بوصفه منهزما في واترلو. في حين أن الشيء الخالص والبسيط الذي هو نابليون مستقل عن الوعي، وهذا ليس هو الحال مع الأشياء المقصودة التي هي نابليون كمنتصر في يينا ونابليون كمنهزم في واترلو. وفقا لهوسرل، يمكن لهذه الأشياء المقصودة أن ترقى الى دلالات. إنها تشكل ما يسميه بالدلالة “الفينومينولوجية” أو “الكينونية” للعبارات التي ترتبط بها، في تعارض مع الدلالة “الفينومينولوجية” (الظواهرية) أو « phansique »، التي ليست شيئا أخر غير الدلالة بمعنى وحدة مثالية مثبّتة في العديد من الأفعال المانحة للدلالة، والتي شرحناها في القسم السابق.
الدلالة بالمعنى الفينومينولوجي “موضوع مقولاتي”، شيء يترجم بطريقة ما الطريقة التي يستهدف بها الموضوع الخالص والبسيط. إنها موضوع مقولاتي بحيث يتم تشكيلها من خلال نشاط عقلي مقولاتي.
يمكن للتمييز بين المعنى الفينومينولوجي والمتضايف الشيئي الخالص والبسيط أن يمتد إلى حالة الملفوظات. لنأخذ مثلا الملفوطين: « a b » et « b a ». كلاهما لهما نفس المتضايف الشيئي الخالص والبسيط، وهو ما يسميه هوسرل “وضع الأشياء” (Sachlage) الذي يعني أن a أكبر من b. يجب تمييز هذه الشيئية الخالصة والبسيطة عن حالة الأشياء التي هي a أكبر من b وعن حالة الأشياء التي هي b أصغر من a، وهما موضوعان مقولاتيان مختلفان وتشكلان المعنيين الفينومينولوجيين للملفوظين: “a b ” و ” b a “. هوسرل يدعو هنا “وضع الأشياء” ما أسماه “حالة الأشياء” في Recherches logiques.سوف يحتل ظهور المفهوم الفينومينولوجي للمعنى مكانًا فريدًا في التطور الفلسفي لهوسرل. سينتهي به الأمر ليس فقط الى ازاحة المفهوم الظواهري للمعنى، ولكن أيضا الى توليد المفهوم المركزي ل”noème” (الموضوع القصدي لهدف الفكر) (انظر القسم [5.د])، الذي يشكل مسودته الأولى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube