*كلمات* .. في أن الانفصال والتطبيع وجهان لخراب واحد

—————————-
*الجزائر في قبائلها والقبائل في جزائرها*
أحمد ويحمان
× ليس ما أقدم عليه المدعو فرحات مهني، بإعلانه من باريس ما سماه “الدولة الفيدرالية للقبائل”، حدثًا معزولًا ولا نزوة شخصية في منفى سياسي طويل . نحن أمام مشروع قديم يتجدّد، تعود جذوره إلى لحظة تاريخية معروفة، حين أدركت الحركة الصهيونية العالمية وحلفاؤها الغربيون أن الطريق إلى الهيمنة لا يمر فقط عبر الاحتلال المباشر، بل عبر تفكيك الدول من الداخل، على أسس إثنية وعرقية ودينية ومذهبية. وليس عبثًا أن يُعاد اليوم تحريك هذا المشروع في توقيت بالغ الدلالة، يتزامن مع مجازر الفاشر في السودان، ومع عودة منطق التقسيم بوصفه “حلًا إنسانيًا” لأزمات صُنعت أصلًا بفعل التدخلات الخارجية. فالتاريخ، لمن يريد أن يتعلم، لا يكرر نفسه صدفة. *مشروع قديم : من السودان إلى المغرب الكبير* في سنة 1966، كانت الخرائط تُرسم في الخفاء . فقد خططت وعملت الحركة الصهيونية العالمية، عبر أحد جنرالاتها البارزين؛ دافيد بن عوزيل المعروف بلقب “طرزان”، على تقسيم السودان. وهو المشروع الذي سيجد طريقه لاحقًا إلى التنفيذ، قبل أن يصبح “طرزان” نفسه ممثل رئيس ما يسمى دولة جنوب السودان، سلفاكير، لدى مجرم الحرب بنيامين نتانياهو. وفي السنة نفسها، 1966، جرى تكليف الصهيوني جاك بيني، صهر الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، بالإشراف على تقسيم الأقطار المغاربية على أسس إثنية وعرقية: عربي / أمازيغي / زنجي. فوضع تصوّرا ورسم خططا وشرع في مشروعه، وفي هذا السياق تحديدًا، وُلدت ما سُمي بـ “الأكاديمية البربرية” في باريس، لا بوصفها فضاءً ثقافيًا بريئًا، بل كأداة إيديولوجية لإعادة هندسة الهويات وتفجيرها من الداخل. من يفهم هذا السياق، يدرك أن ما نراه اليوم ليس إلا آخر الحلقات من مسلسل قديم . *من باريس إلى الكنيست : المسار لا الصدفة* ليس جديدًا أن يُعلن فرحات مهني أطروحاته من عواصم الغرب . لكن من الضروري التذكير بأن هذا المسار كُشف منذ وقت مبكر . ففي سنة 2012، أعلن الرجل ما سماه “دولة القبائل” من داخل الكنيست الصهيوني، إلى جانب نائب رئيس الكنيست آنذاك داني دانون، الذي سيصبح لاحقًا ممثل الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة . وهذه الواقعة ليست تفصيلًا عابرًا في سيرة رجل انفصالي . إنها وثيقة سياسية . فمن يطلب شرعية “دولته” من مؤسسة تشريعية لكيان استيطاني عنصري، قائم على الاغتصاب والإبادة، لا يمكنه الادعاء بأنه مشروع تحرر أو ديمقراطية. وهنا تتكامل الصورة : *الانفصال بوابة، والتطبيع مآل.* *”الهوية” سلاح مدمر حين تُفصل عن الوطن* وليس غريبا أن يصرح فرحات مهني، عندما سئل مرة عن أولويات الدولة الجديدة التي يترأسها في المنفى، بأنها : الاعتراف ب ” دولة إسرائيل ” والاعتراف ب الشذوذ الجنسي أو ما أسماه ب ” المثلية الجنسية ” ! يحاول الخطاب الانفصالي دائمًا الاحتماء بالثقافة واللغة والهوية. لكن التاريخ علّمنا أن الحقوق الثقافية لا تتحقق بتفكيك الأوطان، بل داخلها. فالقبائل ليست نقيض الجزائر، كما أن الجزائر ليست سجنًا للقبائل كما يروج الخطاب الإنفصالي . العلاقة بينهما علاقة وحدة وتاريخ مشترك، ومقاومة مشتركة، ودماء امتزجت في مواجهة الاستعمار الفرنسي، رحم الله الشهيدات والشهداء، وعلى رأسهم صديقنا القبائلي، صديق والد مهني المقاوم .. رحم الله صديقنا الزعيم التاريخي ” عمي لخضر بورݣعة ” . وكما نقول، بحق، إن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، وهو القول الصحيح الذي يُسقط كل أطروحات التقسيم، يصح اليوم، وبالمنطق نفسه، أن نقول :الجزائر في قبائلها، والقبائل في جزائرها.أما تحويل الخصوصية الثقافية إلى مشروع سيادي منفصل، فليس سوى إعادة إنتاج لمنطق استعماري قديم، بواجهات جديدة، وشعارات “حقوقية” تُستعمل حينًا، وتُرمى حين تنتفي الحاجة إليها. *حين يلتقي الانفصال بالتطبيع* ليس من قبيل الصدفة أن تتقاطع الأطروحات الانفصالية في منطقتنا مع شبكات الضغط الصهيونية في الغرب. فالمشروع الصهيوني، في جوهره، لا يعيش إلا على تفتيت محيطه، وتحويل الدول إلى كيانات ضعيفة، متناحرة، تبحث عن “الحماية” خارج حدودها. ومن هنا نفهم لماذا كان الكنيست فضاءً مرحِّبًا بإعلان “دولة القبائل”، ولماذا تُفتح المنابر الإعلامية الغربية لبعض الأصوات الانفصالية، في الوقت الذي تُغلق فيه أمام صوت المقاومة، والوحدة، والسيادة.*آخر الكلام* كنتُ قد ناقشتُ هذه المسألة غير مرة مع صديقي المناضل ماندلا مانديلا، وكان النقاش صريحًا ومسؤولًا. لم نصل إلى اتفاق نهائي، لكننا بلغنا ما هو أعمق وأهم : حسن الإنصات، والتلاقي حول المبدأ العام، أي أن الأطروحات الانفصالية، مهما تذرّعت بالثقافة أو الحقوق، تفتح الباب واسعًا أمام الاختراق الصهيوني، وتخدم – موضوعيًا – منطق التفكيك لا التحرر.وهو المعنى نفسه الذي لمسته، قبل أيام فقط، خلال لقاءاتي في أوروبا مع مسؤولين دبلوماسيين كبار من أمريكا اللاتينية حول هذا الموضوع بعينه .. اختلاف في المقاربات، نعم؛ لكن تقاطع واضح حول خطورة تحويل الهويات الجزئية إلى مشاريع سيادية مفصولة عن السياقات الوطنية، وحول أن الانفصال والتطبيع يسيران في الاتجاه نفسه، حتى إن اختلفت لغتهما وشعاراتهما. الانفصال يُفكك الجغرافيا،والتطبيع يُفكك البوصلة،والنتيجة واحدة: خراب واحد، مهما اختلفت الرايات. *الجزائر في قبائلها، والقبائل في جزائرها.* وكل من يبحث عن “دولة” في الكنيست الصهيوني، لن يجد إلا نفسه خارج التاريخ .—————————-× باحث في علم الاجتماع ورئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع



