ثقافة وفنونمستجدات

قصة قصيرة: طريق بلا معالم

سليم رشيد المغرب

الظلام دامس حالك والطريق موحش مقفر والمعالم غائبة. وظِلاَّ شبحين من الماضي يتكلمان كلاما قديما قدم الحقيقة والوهم.

س: لم أعد أذكر منذ متى ونحن نمشي في هذا الطريق. ولا أي يوم نحن، كنت دوما أَعُدّ أيام الأسبوع شوقا في بلوغ عطلة نهاية الأسبوع. اليوم لم أَعُد أدري أهي البداية أم النهاية؟

ع: ماذا يغير في العالم إن سمينا اليوم ثلاثاء أو خميس أو جمعة؟ إن هي إلا تقسيمات وتسميات ابتدعها الإنسان بحثا عن نفسه كي لا تضيع في اللازمان واللامكان. ألم تنتبه يا صديقي أننا قد صرنا منذ مدة خارج الزمان والمكان؟ لا يوم ولا أسبوع ولا شهر. بل لا ماضي ولا مستقبل، ليس هناك إلا حاضر أبدي لا ينتهي. واقع ثقيل يكثم الأنفاس، يُهيأ لي أحيانا أنني كنت دوما بنفس السن. أني وُلدت هرِمًا بنفس الوجه، بنفس الهم ونفس الأوجاع ونفس الرتابة، أتوق أحيانا لأكون غير ما أنا، أي شيء إلا أنا: طير، جحش، تراب أو سراب، طيف خفيف خفة النسيم أو خفة الأحلام. إن الحاضر اللانهائي دمر كل شيء في. محا كل أزهار ذاكرتي. نسيت الماضي ومن أكون. نسيت المستقبل بأحلامه الجميلة الوردية، لقد تخليت أسفا عن كل شيء، لم أعد أذكر مني إلا شيئا واحدا: الرغبة في الوصول إلى نهاية هذا الطريق اللعين، وأنا متأكد أننا سنصل.

س: وما أدراك أننا سنصل؟

ع: لأننا اقوياء ولأننا طيبون ألا ترى أننا نستحق ذلك؟ مستحيل أن يخيبنا الله أو يخزينا!

س: ولكنني حينما أتذكر هيئات الذين سبقونا الى هذه الطريقة وهلكوا، أعتقد أن أبداننا أضعف بكثير من أبدانهم، كما أنني لا أظن أنني أَطْيَبُ خلْقِ الله أو أستحق الخير أكثر من غيري، لطالما قالت عني أمي أنني إنسان سيء ولا أرعاها كما يجب، وفي العمل حينما كنت أَكِدُّ وأجتهد كانوا يقولون عني أنني اتظاهر أمام رب العمل لأتقرب منه كيما أحتفظ بعملي ويُطردوا هم…لربما كانوا على حق من يدري؟ كما أنني أتذكر يوم تشاجرت مع عمي. لن أنسى ما ردده على مسامعي: لقد قال عني أنني أسوأ من صادفهم. لماذا في رأيك قد يقول عني ذلك؟ هل من المعقول أن يخطئوا جميعا في حقي؟

ع: لا يجب أن يتسرب الشك إلى قلبك يا صديقي وإلا هلكنا جميعا، لا يهمك الآخرون، لا يهمك رأي الآخرين فيك، اليوم يجب ألا تسمع إلا صوت إرادتك وصدى مشيئتك.

س: حتى لو جاريتك وفرضنا جدلا أنني إنسان طيب، لماذا قد يساعدني الله دونًا عن باقي الطيبين التعساء؟ ما هي الضمانة؟ قد أعاني وأقاسي وأتألم ثم أهلك خائبا مخذولا، لم يعرف الحب، لم يلثم أزهار البرية، لم يشم أريج النسيم العليل. فالحياة اختبار يا صديقي.

ع: لا تُدخلني في متاهات عقلية عدمية بائسة لا طائل منها. أنا أومن أننا طيبون وأن الله لن يُخَيّبنا وأننا سنصل. وأرفض أن أموت على قارعة طريق مجهول مقفر. إنها لميتة أسوء من نفوق كلب متشرد أجرب. لا يمكنني أن أصدق أن كل أحلامي كانت مجرد سراب. لا أستطيع أن أتقبل أنني في النهاية من البؤساء الذين طالما قرأت عنهم وذرفت عنهم دمعا من بعيد. صحيح أنه يمكن أحيانا ألا تكافئ الحياة المجتهد. يمكن بسبب حظ عاثر أن من جَدَّ لم يَجِد وأن من زرع لن يحصد، لكن ليس لهذه الدرجة وهذه الوقاحة. ليس بعد كل العمل الذي عملت والسهر الذي سهرت…هذا غير معقول وغير مقبول بتاتا. هذا يجعل الوجود فعلا فعلا بلا معنى. لا خيار اليوم أمامي إلا أن أصل لنهاية هذه الطريق حتى أرى النور.

س: وماذا بعد يا صديقي؟ لماذا تُصِر على الوصول لنهاية الطريق؟ ما الفائدة؟ ما الغاية؟ سنضحك قليلا ونستريح نزرا يسيرا. ثم بعد سنين سنموت هرمين مريضين وحيدين وسط الظلمة. الطريق المظلم ليس هنا فقط يا صديقي. الحياة كلها نفق مظلم.

ع: لا تحاول أن تثنني وتثبط عزيمتي، سأستمر على كل حال، سأصل سأكلم الناس ويكلمونني. سأفترش ذاكرتهم الدافئة ثم يمكنني بعدها ان أغادر وأرحل بسلام.

س: عن أي ذاكرة تتحدث؟ أغلب الناس لم يروا ما رأينا. ومهما تحدثنا لن يفهمونا. فأنت تدرك عجز الكلمات وقصورها. الله نفسه بكل قدرته عجز عن إيصال ما يريد، وتفرق الناس من بعده شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون. لن يفهم الناس كلامنا مهما صرخنا. بما يفيد إذن افتراش ذاكرة مقفرة صماء لا تستوعب روحنا ومعانينا؟

ع: إذا استمريت في دَأْبِك، ستصبح تهديدا لوجودي. ولا أستطيع أن أتقبل ما يهدد وجودي طويلا. ستصبح جزءا من الطريق المظلمة وسأدوسك بقدمي لأستمر. فحذار. لا ترتد عن الحياة أو تكفر بمعانيها ، لا تشكك فيها وفي دواعيها. لستَ أنت من يحدد لي الحقيقة. أنا من يحدد حقيقتي. من حقك أن تراني ساحرا، أو مجنونا نرجسيا متضخم الأنا يهذي، لكن إذا كان الجنون يوصل لنهاية الطريق فهو ثمن بخس. وإذا كان العقل يؤدي للهلاك فلا حاجة لي به.

س: هلاك ماذا يا عزيزي؟ لقد انتهينا قبل ان نبدأ قبل أن نولد، إنها الحقيقة.

ع: حقيقتي الوحيدة أن أصل. إنها الحقيقة المطلقة الوحيدة التي تحدد باقي الحقائق، وبعدما أصل سأتبول على جثت كل أولئك الذين قالوا عني لا أستحق الوصول. سأصير أنا الخير أنا القوة. من يصل يا عزيزي يصير هو الخير. من يصل يصير هو الحق. من يصل يصير هو القوة. إنه من يكتب التاريخ. سأقهرهم جميعا بحقيقتي ساعتها، وسأُدخلهم متاهات الحيرة وسراديب الشك في حقيقتهم، سأجعلهم يسلكون طريق الظلام التي سلكت ولكن في أعماق أعماق أنفسهم.

س: لا أدري. بقدر ما أنا مدرك للحقيقة بقدر ما تتوق نفسي للإيمان بيقينياتك المريحة، عقلي يرفض -بِعَدمية قاتلة- كل الأوهام، ويخبرني أننا لن نصل إلى أي شيء في هذا العالم وليس هناك أصلا شيء، وقلبي يتمنى عكس ذلك ويحتاج ليقتات على بعض السراب وقليل من الأوهام.

ع: لا تتمنى يا عزيز وثق بي. سنصل، فذلك كتاب لا ريب فيه.

Poème de Machado
Voyageur, le chemin C’est les traces de tes pas C’est tout ; voyageur,
il n’y a pas de chemin, Le chemin se fait en marchant. Le chemin se fait en marchant. Et quand tu regardes en arrière Tu vois le sentier que jamais Tu ne dois à nouveau fouler

Voyageur ! Il n’y a pas de chemins Rien que des sillages sur la mer.
Tout passe et tout demeure Mais notre affaire est de passer
De passer en traçant Des chemins sur la mer


أيها المسافر ، الطريق هو آثار خطوتك؛ أيها المسافر لا يوجد طريق، الطريق تصنعه الخطوات. وعندما تنظر إلى الخلف ترى الطريق الذي لن تسلكه مرة أخرى. أيها المسافر لا يوجد طريق فقط خيوط ترسمها السفينة على سطح الماء ثم تتبدد. كل شيء سيمر كل شيء سيبقى. ويبقى هدفنا هو العبور. العبور برسم خطوط على وجه البحر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube