احمد رباصتربية وعلوممستجدات

الحرية العلمية والحرية السياسية في البيولوجيا الاجتماعية: نقد أطروحة إداوار ويلسون

ترجمة وتقديم: أحمد رباص

من هو إدوارد أوسبورن ويلسون (بالإنجليزية: Edward Osborne Wilson)؟: عالم أحياء أمريكي ولد في برمنغهام، ألاباما، الولايات المتحدة في 10 يونيو 1929. اشتهر ويلسون بعمله في مجالات التطور وعلم الحشرات وعلم الاجتماع الحيوي. ويعد من أبرز المتخصصين في حياة النمل واستخدامه للفيرومونات كنوع من وسائل الاتصال. ويعد ويلسون واحدا من العلماء الأكثر شهرة على الصعيدين الوطني والدولي. وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم ودرجة الماجستير في علم الأحياء في جامعة ألاباما (توسكالوسا)، حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد. ويعمل ويلسون حاليا كأستاذ فخري وأمين عام لمتحف علم الحيوان المقارن في جامعة هارفارد. وويلسون هو واحد من اثنين فقط حصلا على الجوائز في مجالات العلوم في الولايات المتحدة، حيث حصل على الميدالية القومية للعلوم، وجائزة بوليتزر في الأدب 1979، والتي حصل عليها مرتين. وقد كرمته الأكاديمية الملكية السويدية، التي تمنح جائزة نوبل، بجائزة كرافورد، امتيازا له على تغطيته لمجالات البيولوجيا وعلم المحيطات، والرياضيات، وعلم الفلك. وكما هو معلوم، فقد أصدر ويلسون مؤخرا كتابا بعنوان ” وحدة المعارف ” حاول فيه بسط مجموعة من الأفكار في اطار البيولوجيا الاجتماعية. نقدم لكم في ما يلي ترجمة لمقال مونيك شوميليي-جندرو Monique Chemillier-Gendreau وهو عبارة عن قراءة نقدية لكتاب ” وحدة المعارف “.

تقتصر اهتمامات البيولوجيا الاجتماعية على الدوائر في فرنسا فقط. صحيح أن هذا التيار غير ممثل بشكل جيد لدى جانب من علماء الأحياء ، ونتيجة لذلك ، لا يتوفر سوى على أصداء قليلة في فروع المعرفة الأخرى, ومع ذلك (من وجهة نظر نقدية)، لا يمكن اعتبار هذا المذهب تافها لأنه يواصل طريقه عبر المحيط الأطلسي بنجاح غير متوقع هنا. لقد حذر مؤيدو ما أعتبره إيديولوجيا خبيثة في الولايات المتحدة نفسها، في الآونة الأخيرة، من تحقيق اختراق ثانٍ، يبدو أنه غير مقبول أكثر من ذلك. إن الرهانات الإيديولوجية ذات طبيعة بحيث يبدو من الضروري إدخال النقاش الى أوروبا لأنها تسمح بتعميق جوانب معينة من التفكير في السياسة.
يمكننا أن نركز تفكيرنا بشكل مفيد على كتاب “وحدة المعارف” لإدوارد ويلسون، حيث نجد فيه أطروحات البيولوجيا الاجتماعية التي يمكن وصفها بأنها لينة، بينما تبعا لنفس التمشي استدعى المؤلف ممثلي العلوم الأخرى، وخاصة العلوم الاجتماعية ، ليغرقهم في القالب المنهجي الذي بناه باحثون في مجال العلوم الطبيعية. كل هذه الأطروحات تثير شعوراً حقيقياً بالقلق الذي من الضروري وضعه موضع سؤال.
وحتى لا أنساق الى الإعجاب بالنجاح ظالمكتبي لمؤلف ويلسون، أقول فجأة إنه في مجمله ثرثار، متوافق جدا مع صاحبه ومطبوع بعناد مفرط للاقناع اعتمادا على أطروحات غير مكتملة تعتبر فيها الحدوس نتائج علمية، نظرا لغياب تجريب كاف. يسجل العالم اللبيولوجي الذي يتكلم تحفظا متطرفا، مشوبا بالعداء تجاه العلوم الاجتماعية، التي يكشف بالطريقة التي يتحدث عنها أن معلوماته عنها ناقضة إلى حد كبير. ليس من نافل القول التوقف للحظة أمام واقعة أن عالم أحياء أمريكي مشهور يصف الوضع في العلوم الاجتماعية بأنه يائس. ننتظر من الطبيب، كما يقول، أن يعالج السرطان ويقوم العيوب الوراثية عند الولادة. وبالمثل، يتوقع من علماء الاجتماع ” أن يخبرونا عن كيفية التخفيف من حدة الصراع العرقي، وإحلال الديمقراطية في الدول النامية، وتحسين التجارة الدولية “.
والحال أنه بينما التقدم، يقول متابعا، واضح وحاسم في العلوم الطبية، فهيو ضعيف جدا في العلوم الاجتماعية وغارق في طوفان من النزاعات الإيديولوجية. ويرفض الباحثون (الذين سيتعلمون مع الارتياح بأنهم يتمتعون بقدرات فكرية كبيرة) الاعتراف بأن المعرفة محكومة بنظام تراتبي. إنهم يحبون الفوضى التي يأخذونها كخداع مبدع ويدافع البعض منهم عن حركية اجتماعية مناضلة. لقد فشلوا في بناء سرودهم على الحقائق الفيزيائية للبيولوجيا البشرية وعلم النفس، في حين “من المؤكد أن الثقافة تأتي من هناك ولا تسقط من السماء”. من عجيب المفارقات أن هذه التقييمات تعتمد على التوقعات النبوية أكثر من الاستنتاجات العلمية. ترتكز ترنيمة التقدم البشري على تقدم العلم، منظورا إليه من خلال مماثلة ضمنية كافتراض شامل يستحق التقدم في المجتمعات. فالأوضاع السياسية والاجتماعية (الناتجة) عن الحروب والتفاوتات والمجاعات والمجازر أو الإبادات الجماعية، التي تتضخم في أشكالها المعاصرة، تُترك جانباً كما لو أنها يمكن أن تنزل إلى “مكان آخر” لا علاقة له بالتقدم.
انما بخصوص الحرية تكون التناقضات أكثر بروزا. يمكن للمرء أن يقرأ في نفس الكتاب: ” ليس لدينا عمليا أي روابط مباشرة بين جينات معينة والسلوكيات الكامنة وراء السمات الكونية “. “نحن النوع الأول الحر حقا “. ولكن قبل بضعة صفحات تم التأكيد على أن: “جميع الظواهر الملموسة، من النجوم إلى المؤسسات الاجتماعية، تقوم على عمليات مادية يمكن اختزالها إلى قوانين فيزيائية “. وحين يحدث الارتباط بين العلوم، “سوف ندرك أنه مجموعة من الخوارزميات التي يوجه نشاطها المشترك العقل في أمزاجته وخياراته “. بين الرؤية التي تحتفظ فيها الحرية الإنسانية بمكانها والرؤية الأخرى حيث تصبح الحتميات الوراثية جائحة طالما ” لا شيء يفصل مسار التاريخ البشري عن التاريخ الطبيعي”، يكون القارئ عاجزا لأنه لا شيء يقال عن هذه الحرية الإنسانية التي تحدد تاريخ المجتمعات إلى درجة جعلها تختلف اختلافا عميقا عن التاريخ الطبيعي. ومع إدراكه لندرة المعلومات ذات الصلة ومجابهته للصعوبة، يجادل ويلسون قائلاً: ” يبقى (ضروريا) القيام بهجوم نهائي ضد أنظمة أكثر تعقيدًا من العقل والسلوك “. الشك لم يعد مسموحا به. مع الهجوم النهائي، يتعلق الأمر في الواقع بحرب. بحكم أنها خيضت انطلاقا من نتائج معترف بها على أنها متناثرة وغير كافية، فإن هدفها هو التقديم المنهجي للعلوم الاجتماعية إلى العلوم الطبيعية.

  • الاستقلالية المنهجية غير القابلة للاختزال لكل علم
    يتم صوغ طلب في صيغة أمر موجه إلى العلوم الاجتماعية، وهو عبارة عن الانتقال من كل المعارف إلى إضفاء طابع الرياضيات عليها في إطار من الاختزالية. هذا الاختزال، الذي تم تجاهله في ما يسمى بأشباه العلوم، يرجع إلى تقسيم الطبيعة إلى مكوناتها الطبيعية. من خلال القياسات التي تستخدم مقاييس مقبولة عالمياً، سيكون من الممكن رسم التعميمات التي لن تكون غامضة والتي تدرك الطريقة الوحيدة للدخول في أنظمة معقدة لا يمكن اختراقها. وبالتالي، يجب علينا في علم الاجتماع السياسي أو النظرية القانونية، أن نتوافق مع هذا التمشي الذي هو شرط “الصمود” المتوقع. ومع ذلك سوف يستنتج أن الطبيعة هي ما يجب تقسيمها الى مكوناتها الطبيعية. إذا لم تختزل المجتمعات إلى ظواهر طبيعية، فكيف يمكن التعامل معها؟ لا شك في أننا يمكن أن نمارس الاختزال على الظواهر الثقافية. البصيرة السياسية انطلاقا مما يطلق عليه البعض علم الاستطلاعات تستخدم كلها لأجل ذلك. لكن القوانين الصادرة غير مؤكدة، علما بأن كمية المعلمات وتغيرها أمران لا يستهان بهما. ونتيجة لذلك، فإن النتائج، كما نعلم، عشوائية للغاية. وفي نفس الاتجاه، يسعى العلم الاقتصادي والمالي إلى تحقيق القدرة على التنبؤ.
    لكن تأثير آلان جرينسبان Alan Greenspan على تقلبات سوق الأسهم (البورصة)، وبالتالي على الاقتصاد الأمريكي، هل هو نتيجة لمعرفة الخبراء بالاحتياطي الفيدرالي أو هو بسبب نوع من الكاريزما سينفد بعده أو ربما حتى معه؟ سيتم الاتفاق على أنه في هاتين الحالتين ، يجب على الباحثين مواصلة وتحسين نماذجهم التحليلية. لكن إسباغ البعد الطبيعي المنهجي على الظواهر الاجتماعية ليس مقنعاً. لكن خيبات أمل المتنبئين الانتخابيين أو البورصويين حاضرة هنا للتخفيف من حدة الإصرار. ويجب النظر بحذر في المحددات ” الطبيعية ” للظواهر السياسية. بعض علماء السياسة، تحت تأثير كتابات لابوريت Laborit، تقدموا بفكرة أن مقر غريزة الهيمنة قد تم تحديده في الغدة النخامية تحت الطبقات البصرية. لكن ذلك بدا مزحة أكثر من رأي علمي. في الواقع، يتم تجاهل سلسلة من الصعوبات المنهجية الخاصة بالعلوم الاجتماعية وبشكل خاص في مجال القانون والسياسة من قبل البيولوجيا الاجتماعية ولا يمكن أن تحصل على أي دعم منها.
    سوف نأتي أولاً على ذكر حالة النزعة الوضعية القانونية، وهي الحالة التي يمكن من خلالها إجراء تحليل للقاعدة القانونية في الحقل المختزل للقاعدة نفسها دون الأخذ بعين الاعتبار جميع المحددات الخارجية. الفقهاء ككل سعداء. بالنسبة إلى علماء السياسة، فإن التيارات التي تتعدى النتائج التجريبية للبحث قد وجدت حدودها. لن يتم تجاهل الحاجة إلى اتباع أكثر الأساليب العلمية صرامة، ولكن نتائجها ليست قابلة للاستغلال دون مساهمة النظريات. وفي النظريات، هناك افتراضات قيمة. من المستحيل تطوير المبحث فقط بمعاينات للواقع.
    يؤدي مطلب ويلسون حينئذ إلى مفارقة: هو نفسه قائم على نزعة وضعية علمية شمولية بسبب مطالبته بإخضاع التسلسل التراتبي للعلوم الأخرى (وبالتالي العلوم السياسية والقانون) إلى استنتاجات العلوم الطبيعية. يجبر النزعة الوضعية القانونية على أن تصير مشوهة. لم تعد صلاحية القاعدة مطابقة لمعايير عليا رسمية: من المرسوم إلى القانون، من القانون إلى الدستور. إن صحة المعيار محددة بشكل مفرط لتتوافق جوهريًا مع الاستنتاجات العلمية. من أجل عدم التشريع ضد الطبيعة، ينبغي على المشرع أن يستفسر عن الأسس الطبيعية للسلوك.
    وبطبيعة الحال، فإن التطور المشترك جينات / ثقافة ، وهو الفرضية التي طورها ويلسون في مؤلفه المذكور، بعيدا عن توضيح الأمور، يعزز هذه الصعوبة لأنه يقحم بُعدًا زمنيًا. كيف يمكننا أن ندرك أن عملية تطور معينة هي قيد التقدم، وبتأثير الثقافة على السلوكيات، يتطور التحول الجيني؟ وما هي الاستنتاجات التي يمكننا استخلاصها بالنسبة للمشرّع؟ إذا كانت هناك آلية وراثية لتعاطي المخدرات، بغض النظر عن وقت حدوثها في التطور الوراثي، فهل يستطيع المشرع أن يحظر استخدام المخدرات؟ هل يمكن أن نطلق آلية معكوسة، كأن ندخل جين النفور من المخدرات؟ هل يمكن أن يكون القانون في أصل هذا الانقلاب؟ هذا ما لا يمكن اعتباره من اختصاص فقهاء القانون الوضعيين الذين لا يدرجون الموضوعات غير القانونية في تحليلاتهم.
  • أزمنة العلوم
    من ناحية أخرى، تلكم نقطة ذات طابع منهجي يمكن من خلالها التوصل إلى اتفاق جزئي على الأقل مع ويلسون، في إطار الرغبة في إقامة علاقات أكثر بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. ولكن عندما يقول إننا وصلنا إلى مرحلة لم تعد تتواصل فيما بينها، يكون هناك جهل فظيع بالأوضاع الملموسة، لا سيما تلك المتعلقة بالقانون البيئي. فأن نتمنى أن تتواصل أكثر مع بعضها البعض (وهو ما يتعين الانخراط فيه)، لا يعني بالضرورة إرادة دمجها تحت مبدإ الهيمنة على بعضها البعض أو الدفع بأن وجود ثقافتين علميتين يشكل عائقا.
    تكمن الصعوبة الحقيقية اليوم في المواجهة الدرامية بين المعرفة والسلطة وعلاقتهما بالزمن. من الترابط بين المجال العلمي والمجال السياسي-القانوني في (جو) من عدم اليقين والشك نشأ مبدأ الحذر. ومن ثم لا يمكننا القول إننا لا نتحدث عن كلا الجانبين من المجالات العلمية الرئيسية. لكن ظروف هذا الحوار لا تزال شاقة لأن على صانع القرار أن يقرر. المجتمع يستدعيه للقيام بذلك، على الرغم من أن العلمي لم يثبت بعد معرفته على وجه اليقين. ناهيك عن حقيقة أن المعرفة العلمية نفسها، وهي في حركة دائمة، تقلل من المخاطر التي تم تحديدها من قبل، ولكنها تزيد أيضًا من احتمالية الخطر من خلال فتح إمكانات جديدة للتدخل البشري مع عواقب غير متوقعة. تتحاور العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية مع بعضها البعض، ولكن إيقاعاتها تتصادم. ويمكن لنا بالتالي أن نناقش في هذا الصدد جميع القضايا الرئيسية في عصرنا، بما في ذلك تغير المناخ أو الكائنات المعدلة وراثيا.
    يوضح مثال تغير المناخ وقرارات السياسات المتعلقة بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري حدود الاختزالية العلمية. قبل مؤتمر كيوتو في عام 1997، حيث تطلبت الضرورة السياسية العاجلة صياغة حل لهذه المشكلة، جرت محاولة نهج الاختزالية: تحليل أوضاع كل دولة، وحتى كل شركة، من وجهة نظر كل من الحقائق الملموسة (الانبعاثات الناتجة) والإمكانات (ما هي التخفيضات الممكنة وما هي الزيادات الحتمية تبعاً لاحتياجات التنمية؟). لكن المعطيات العلمية تعوز أكبر عدد من البلدان من حيث الانبعاثات الفعلية. بالنسبة إلى تلك التي قد يكون من العدل التصريح بها لكل بلد، فأين معايير تحديدها؟ ونتيجة لذلك، تكون حصص البلد تعسفية أو غائبة إلى حد كبير. والمنطق الذي أدى إلى تفويض التجارة في التصاريح القابلة للتداول يفتقد للأسس العلمية بشكل خاص. يمكن للبلدان التي ينبعث منها القليل (مقارنة بماذا؟) الآن أن تبيع حقوق الانبعاثات (المفترض أنها غير مستعملة) إلى البلدان التي من المؤكد أنها ستتعدى بكثير الانبعاثات المعقولة. العدالة لا تكسب الكثير من ذلك. لا سيما تلك التي يجب أن ننشئها مع الأجيال القادمة.
    هنا يظهر جانب آخر من الصعوبات المنهجية: الحقيقة العلمية أو الحقيقة القانونية-السياسية يجب أن تواجها مسألة الموضوعية. الصعوبة صارخة في المثال الذي ذكرناه للتو، ولكنها تأتي في جميع الأوقات من الممارسات الاجتماعية التي تؤدي إلى اتخاذ قرار قانوني أو سياسي، كما هو الحال في التحليلات العلمية التي أجريت عليها. هناك هوة في هذا الصدد بين افتراضات ويلسون والعلاقات المعقدة للغاية بين الموضوعية وبين الذاتية ضمن العلوم الاجتماعية. هو يؤكد أنه من الممكن التوصل إلى حقيقة موضوعية. إنه يستبعد الاكتشافات المستقبلية حول كيفية عمل الدماغ البشري. ومع ذلك، يجب أن تكون مسألة الموضوعية، في القانون، مختلفة تمامًا. إنها مسألة سحب، في أي لحظة، وسائل التعسف من وكيل السلطة الذي يقول الحق. كما أنه عندما يكشف التعسف عن توتر بين طرفين، أي عندما تكون ذاتياهما معرضة للعنف، يجب تخفيض هذه الذاتيات لصالح الحل الذي سوف يكتسي الموضوعية، بعدما فرض نفسه من خلال القاضي. إجراءات، وسائل ما يسمى دولة القانون – مبدأ الشرعية، احترام حقوق الدفاع، إلخ. – لا تسهم في غزو موضوعية مطلقة نعثر عليها كما لوكانت كأسا مقدسة، ولكن لفتح حيز من الموضوعية، دائمًا ما يكون هشا ونسبيًا.
    غير مبال لهذه الجوانب من قضية الموضوعية الاجتماعية، يكون ويلسون، وهو مسلح باليقين، على استعداد ليدفع بالذات الى فئة الموضوع المبرمج بالكامل وبالتالي ليزيل التمييز بين الذات والموضوع. والأكثر صعوبة في هذا المجال (وحيث يكون الادعاء بالموضوعية خادعاً بلا شك) هو استحالة وخطورة إضفاء الموضوعية على الذات. بعض الأنظمة القانونية فعلت ذلك من خلال العبودية أو أشكالها. وعندما كتب ويلسون، متحدثا عن مشروعه، : ” هذه المهمة تؤكد أن النظام هو ما يلوح في الأفق وليس الفوضى “، يكون ذلك مدعاة للشعور بالخوف. في هذا النظام المعلن، هل ستظل هناك ذوات؟ كل نظام قانوني يعيّن بين الأفراد الأحياء أولئك الذين هم رعايا الحق وأولئك الذين ليسوا كذلك. وقد أدى التقدم الناجم عن إعلان حقوق الإنسان الى اعتبار أن كل كائن بشري له شخصية قانونية وأن القانون لا يميزبينها (الحقوق) سوى بدرجات متفاوتة من الأهلية القانونية، ولكن هذا لم يكن كافيا لحل بعض المشاكل بطريقة مرضية (بميم مضمومة)، مثل الوضع الاعتباري للجنين. بالإضافة إلى ذلك، يقرر كل نظام قضائي في مفهوم الذوات الجمعية والأشخاص الاعتباريين. والمجموعات التي لا تقع ضمن هذه الفئات ليست بذوات.
    هل هناك موضوعية؟ بالتأكيد لا ولن تكون بأي حال مطلقة. الذين ليسوا بذوات ويطالبون بأن تكون لهم ذوات يظهرون دائمًا ويؤكدون على كون الموضوعية مستحيلة، حيث إنهم موضوعات-ذوات تتلمسن النظام لتغييره مرورا من فئة إلى أخرى. وينطبق هذا بشكل خاص على الشعوب التي تكافح من أجل الاعتراف بها. وهذا هي الأسئلة الأكثر صعوبة في القانون الدولي. من ناحية، لأن الموضوعات الرئيسية المشار إليها باسم الدول لها علامة معينة، هي السيادة. من ناحية أخرى، بسبب عدم وجود مبدأ مركزي وتراتبي. في الواقع، لا توجد سلطة مؤسسة تعلن عن هذه المجموعة كذات للدولة وترفض أن يصبح الآخرون كذلك بدورهم. صحيح أن مجلس الأمن يضطلع بهذا الدور بشكل متزايد دون أن يسند له ذلك حقا. وهكذا يواجه المجتمع الدولي صعوبة مركزية: فبموجب أي قاعدة أساسية يقرر (صيغة المبني للمجهول) أي الجماعات البشرية يمكن أن تستفيد من اعتراف الدولة؟ ما هي المعايير التي ينبغي أن تفصح عنها هذه القاعدة الأساسية؟
    لا يذكر ويلسون هذه المشكلة على هذا النحو. لقد أشار، كما قلت سابقاً، إلى الحاجة إلى التخفيف من النزاعات الإثنية ضمن الأسئلة التي يتوقع (صيغة المبني للمجهول) أن تحلها العلوم الاجتماعية. والحال أن مستقبل القانون الدولي برمته يوجد هنا على المحك. هل سنعود إلى حقيقة أنه في أصول النظرية الدولية، منذ القرن السادس عشر، جرت تسمية حق الناس، بحق بين أشخاص أيا كان ارتباطهم الوطني؟ أم سنبقى في العلاقات القانونية بين الدول لفترة طويلة؟ ونعيد طرح السؤال: كيف تصبح مجموعة من الناس دولة؟ يقول ويلسون انطلاقا من الصفحات الأولى: “يجب أن ننتمي إلى قبيلة”. قبيلة. هناك الكثير (من القبائل). لكن في الصفحات الأخيرة، يتفق مع الدول المتحضرة (sic) على عولمة قبيلة بني آدم من أجل الأهداف الأكثر نبلا ودواما لصالح البشرية. لا شيء في كتابه يشير إلى أن البيولوجيا يمكن أن تساعدنا في هذا المجال.
    إنها تقوم بذلك، (ولكن هذا لا يظهر لدى ويلسون) عندما تفسح المجال لمسألة الأجناس ويؤكد أن “الأفراد من المجموعات العرقية المختلفة قد توجد بينهم تشابهات جينية أكثر من الأفراد الذين يتم أخذهم من داخل نفس المجموعة “(التقرير الأخير عن تسلسل الجينوم). ولكن في ما وراء ذلك، إنما يجب ضمن الإنسانية ككل معالجة مسألة الوضع القانوني للفوارق التي هي في المقام الأول فوارق ثقافية. إن أزمة السيادة، التي سوف نعود إليها، تغير تدريجياً البيانات الهشة التي قام عليها رويدا رويدا صرح القانون الدولي. كانت فكرة أن الدولة، في سيادتها، تمثل العالم الاجتماعي للمجموعة، وهي الفكرة التي تدعمها الفلسفة الهيغلية، (كانت) لفترة طويلة رواية نشطة. إلا أن دول اليوم عادت بعنف إلى دأبها على اظهار خصوصية تعبر عن ذاتها، بالنسبة لكل دولة، من خلال سيادة دشنها ونافسها الفكر الناشئ حول الكوني / كوني.
    بعد أن تجاهل كل هذا الجانب من الأشياء الذي لا تسعفه العلوم الدقيقة والنزعة الاختزالية إلا بقدر ضئيل وحيث أن جدلا مرنا وفلسفة في الحرية هما دون شك أكثر فائدة، أعاد ويلسون، بعد ذلك، تأهيل العنصرية. بالنسبة له، فإن المشاعر الأخلاقية المتولدة عن السيرورة الجينية تجد حدودها الخاصة: “إن الوجه الخفي لميلنا الفطري إلى السلوك الأخلاقي هو كراهية الأجانب. الحميمية واجتماع المصالح هما من الأهمية الحيوية بمكان في المعاملات الاجتماعية. تطورت المشاعر الأخلاقية حتى أصبحت انتقائية. لقد جرت الأمور دائما على هذا المنوال. لدينا صعوبة في الوثوق بغربائنا وشفقتنا متناقضة “. بالنسبة له، العنصرية وكراهية الأجانب شر لا بد منه.
    بنبرة قطعية فيما يختص بمسألة الشعوب وتماهيها الجزئي على الأقل مع أراضيها، كتب يقول: “إن الغزو والدفاع عن الأراضي من طرف القبائل ومعادلاتها الحديثة، الدول القومية، يجسدان الكوني الثقافي “. مجتمعات الرحل والمجتمعات المستقرة والزراعية والصناعية والمجتمعات السيبرانية اليوم، لئن كانت كلها مختلفة جدا من حيث علاقتها بأرض الواقع، تشملها على هذا النحو معاينة واحدة. ثم جاءت محاولة تفسير مضن للتطور الذي ربما أدى ببعض الأنواع إلى تطوير أو عدم تطوير الدفاع عن الأرض كسمة وراثية. هذا لا يرشدنا إلى مبادئ العدالة التي من شأنها أن تجعل من الممكن تأسيس حقوق الشعوب (التي كانت متباينة في السابق) على أقاليم متميزة ومحدودة. لا الاختلافات المفترضة ضمن الطبيعة البشرية (أعراق أو أجناس)، ولا الحدود الطبيعية التي اقترحتها الجغرافيا استخدمت حتى الآن كدعامة موضوعية لمسألة ظلت بيذاتية.
    يجب أن نعود أخيرا، من أجل تصفية الحساب مع السبل المنهجية الخاطئة المفتوحة في مشروع ” وحدة المعارف ” إلى كون الاختزال واستخدام الرياضيات قاصرين عن تناول هذه التحديات الكبيرة التي تواجه العلوم الاجتماعية. يأتي التوضيح المتنور من الحاجة الأخيرة في تاريخ القانون الدولي إلى تحديد الأراضي البحرية بين الدول. فيما يتعلق بالحدود البرية، نعلم أن الحكومات قد تخلت عن محاولة إيجاد مبدإ جوهري يبرر الطريق، وبالتالي المشاركة. فهذه الأخيرة، عندما يتم تعريفها من قبل دولتين، لا يكون لديها سوى إلزام توافقي. وفي حالة فشل المفاوضات وتقديمها إلى القاضي الدولي، فلن يكون لدى الأخير سوى معايير قياسية غير تلك التي تنص عليها الاتفاقيات السابقة. ولكن في منتصف القرن العشرين، أبانت الدول عن نهم لايشبع تجاه الحدود البحرية لأسباب اقتصادية، طاقية بالأحرى، ولكن أيضا لدواع استراتيجية. كان يعتقد حينها أن الوضع يختلف عن الحدود الأرضية، حيث يمكن أن يعالج بشكل مختلف.
    وقد جرت محاولة تحديد، بشكل مسبق، المبادئ العامة للعدالة التي لن يبقى سوى تطبيقها باستخدام الاختزالية. الاختزالية، في هذه الحالة، تقتضي تقسيما خياليا لشواطئ الدول المتجاورة في سلاسل أو نقاط حتى تطبق عليها الصيغة العامة. خلال فترة أولى، بالنسبة لدولتين تقعان جنباً إلى جنب على الشاطئ، لم تكن المسألة تتعلق بتقليص المسافة بعيدا نحو عرض البحر. ادعاءات ما كان يسمى المياه الإقليمية ذهبت إلى بضعة أميال في البحر: ثلاثة أو ستة، وليس أكثر من ذلك. يبدو اذن أن المبدأ الهندسي للتساوي في البعد سوف يفي بالغرض. ستكون الحدود هي خط الوسط، حيث تكون كل النقاط متساوية من النقاط الأقرب إلى السواحل المعنية. إذا كان الساحل مزاحا ومقطعا بعمق، يتم تمييز رسمه بواسطة خط وهمي يسمى الخط الأساس. ومع ذلك، تم تمديد المطامع في البحر في الستينات إلى مساحات أكبر تسمى الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الحصرية. الأول من المفترض أن يكون معطى من الطبيعة. ولكن بما أن الأخيرة غير عادلة مطلقا، فقد تقرر مضاعفة الجرف القاري إلى حد يصل إلى مائتي ميل بحري في عرض البحر حيث سيكون لجميع الدول حقوق، فضاء بدون مرجع طبيعي يسمى منطقة اقتصادية حصرية. وتبقى مسألة الحدود بين دولتين متجاورتين.
    هل يمكن أن يستمر التساوي في البعد في الوفاء بالغرض؟ لم يعد الأفق البحري المقابل للشاطئ يقاس بخمسة أو عشرة كيلومترات كما في الفترة السابقة، بل بثلاثمائة وستين. لنأخذ خريطة مفصلة لأي جهة من العالم وبركارا ثم نرسم خط الوسط، يمكن بسهولة قياس الصعوبات. الأولى ستكمن في اختيار النقاط. إذا كان هناك أرخبيل كامل من الجزر، كيف يمكن التعامل معها؟ وإذا كان هناك مصب كبير للغاية، فعلى أي ارتفاع نقوم بإغلاقه بخط وهمي سيتم استخدام نقاطه كدعامة لرسم الخط الوسط؟ وأخيرًا، وبافتراض أن هذه المشكلات سويت، سيظهر لعدد كبير من التشكيلات الجغرافية الطبيعية، أن الخط الوسط غير عادل. وقد اضطرت اللوائح الدولية إلى اللجوء إلى وضع معيار موجز عام: التوصل إلى حل عادل وإحالة مهمة إيجاد وسائل لتحقيق ذلك على الدبلوماسيين أو القضاة. هذه المسارات لا تستبعد الإجراءات الرياضية من حيث المبدأ. خط التساوي في البعد غالبا ما كان مؤشرا قيما. ولكن يجب تصحيحه بشكل عام لدمج عوامل أخرى. إجراءات رياضية أخرى قد تظهر مجددا مثل تناسبية المجالات البحرية المعنية على طول سواحل الدولتين. لكن لا توجد صيغة رياضية توليفية تترأس دور العوامل المختلفة في القرار النهائي.
    يوضح هذا المثال إلى حد كبير أن تمشي ويلسون غير ملائم. إرادة السيطرة على المناطق البحرية ليست وراثية. ليس لديها حتى الآن عمق ثقافي. هذه مشكلة حديثة: بالكاد ربع قرن. ولا يمكن توفير صيغة المشاركة المطلوبة حاليًا بالكامل بواسطة الرياضيات. فكيف، والحالة هاته، تعذر الاتفاق على أنه، إذا كان من الضروري أن يتم الحوار بين علم وآخر، فإنه من الضروري بنفس القدر القيام بذلك دون نزعة استبدادية. المشاكل التي يتعين علينا حلها، سواء تعلق الأمر في العلوم السياسية بنوعية الديمقراطية أو الطبيعة وشرعية الدولة، أو في القانون الدولي بالصعوبات التي ذكرتها للتو، أو كذلك في مجال القانون الاقتصادي الدولي بمفهوم “الأسعار العادلة” للمواد الأولية الاستوائية، تسلط عليها المناهج العلمية الضوء أحيانا، ولم تجد حلا نهائيا.
    ذلك لأنه يوجد في القانون، كما يوضح جيدا رونالد دوركين Ronald Dworkin في ” امبراطورية القانون “، القواعد والمبادئ. لا يمكن إيجاد معيار لكل شيء. هناك اذن المبادئ. مع المعايير، نجد أنفسنا في منطق المطابقة. مع المبادئ ، نجدنا في منطق قياس الوزن. يتم تحديد التناقض antinomy اعتمادا على الوزن. لا يتم التخلي عن المبادئ الأخرى، ولكن كل واحد منها يوزن بشكل مختلف.
  • الحرية من منظور العلم؟
    يستند البناء الحالي للقانون والسلطة على مبدأ سيادة الدولة. هذا المبدأ متعدد الوظائف: فهو يضمن استقلالية المجموعة المعنية تجاه الخارج. من المفترض أن تحل مسألة العنف ما دام أنها تجعل من الممكن التمييز بين الإكراه الشرعي، إكراه القانون والعنف غير الشرعي الذي جرى قمعه من طرفه (القانون). هذا الخط الفاصل بين النوعين من الإكراه، المتطابقين ماديًا، منطقي فقط لأن القانون هو القانون السيادي ويستمد سلطته من السيادة. لكن السيادة، هذا المبدأ المتمثل في تحويل العنف إلى قانون، هو بحد ذاته مبني على لغز يمكن من خلاله تقديم أشكال مختلفة من التوضيح بالتتابع أو في بعض الأحيان بالتوازي. لفترة طويلة، ودون أن يتم إجلاؤه كليًا، كان اللغز ببساطة هو الإله. لكن العقلانية، من خلال التخلي عن هذا المجال، واجهت بدائل مختلفة. كان أولها استبدال الطبيعة بالله.
    يمكن تبرير السيادة بالخاصية الطبيعية للمجموعة التي تشكلت كدولة، والقوانين المنتجة ذاتها سوف تكون مستوحاة من احترام الطبيعة. هذا التيار من القانون الطبيعي، الموجود في القرن الثامن عشر، لا يختلف حقاً عن تيار الحق الإلهي من حيث أن لغز السيادة وتبرير السلطة، في كلتا الحالتين، يكونان مقترنيين بمرجع من خارج المجتمع. ولفترة طويلة، بسبب عدم وجود الاتساق الكافي في معطيات علم البيولوجيا، ظلت في الواقع المقاربة الطبيعية لاهوتيية. بموازاة ذلك، شقت السيادة التعاقدية طريقها. معها، لم تعد المسألة هي إسناد السيادة والقانون إلى مرجع من خارج المجتمع، بل هي العثور عليه في داخله، في ميكانزماته نفسها. السلطة كديمقراطية، القانون كتعبير عن الإرادة العامة، الإكراه القائم على المصلحة العامة، كل ذلك يجسد محاولات أخرى لتسوية مسائل التنظيم الاجتماعي تبعا لمنطق من داخل المجتمع ضمن كل دولة ذات سيادة. عندئذ، تعبر المجموعة عن حريتها في مشروعها المجتمعي. لكن الاضطراب المضاعف الراديكالي يجبرنا اليوم على تجديد المقاربات.
    إن خريطة الشعوب التي تم تأسيسها بصورة شرعية لتكون دولا أصبحت مضببة في كل لحظة، وغدت المشاكل العرقية، ولو لم يكن يعرف مصدرها، تثار أكثر فأكثر، ما يجعل السيادات المتنازع عليها تفقد فعاليتها. لكن قبل كل شيء ها قد تم بشكل سري وبوضوح أكثر الآن، داخل أوروبا، وضع قانون ملزم بدون دولة، بدون سيادة إذن. إن أساس هذا القانون – توجيهات وتسويات أوروبية إلزامية – اتفاقي بحت، لكن الاكراه الناجم عنه يجهد نفسه من أجل العثور على شرعيته. فإلى صعوبة المساحة المشروعة لتطبيق القانون تضاف صعوبة أخرى، مرتبطة بتقدم الحضارة التكنولوجية والعلوم: أخذ جديد بعين الاعتبار للطبيعة. إذا كانت العلوم قد شهدت عددا لايستهان به من المشاكل السياسية والقانونية المطروحة، فإنه ليس من المؤكد أن الإجابات موجودة فيها (العلوم) على الرغم من الأمل القوي الذي يغذيه البعض في هذا الجانب. يجب على الانسان الاجتماعي اليوم إعادة النظر في مسألة نطاق المجموعات المكونة من تشريعات السلطة المستقلة المشرعة، يجب عليه إعادة التفكير في شرعية هذه القوة والاستجابة للتحديات الجديدة في علاقاته مع الطبيعة.
    هذه الإشكاليات تبعدنا بشكل كبير عن البيولوجيا الاجتماعية التي كانت ذريعة لهذا التأمل لأنها تتجاهلها على الرغم من مطالبتها بتوحيد جميع مجالات المعرفة. إعادة تقديمها تشدد على عدم تماسك مشروع طموح للغاية. ويلسون معادي جدا للإرادة العامة التي يصفها بالتجريد الفارغ المؤدي إلى الشمولية. وهو ساذج تمامًا عندما يقول إن الجينات التي تهيئ لتبني سلوكيات تعاونية قد أصبحت سائدة بين عموم السكان. “الأهلية الأخلاقية يمكن أن تكون موروثة، لكن يجب أن يضاف أن التاريخ يظهر أن الأفراد المتعاونين يعيشون على العموم حياة أطول وينجبون أطفالا أكثر.” . باختصار تلك رغبة تيودور روزفلت – “من الضروري إعطاء الأولوية لإنجاب الأشخاص المؤهلين “- سوف تتحقق شيئا فشيئا. يعكس هذا الفكر الهيمنة الغربية، لأن بعض الجهات من العالم ومآسيها (وسط وغرب أفريقيا، البلقان) مستبعدة بالضرورة من التحليل. هذه هي المناطق التي تعج فعلا بالبشر الذين لا يعتبرهم روزفلت بكل تأكيد مؤهلين. لا، مسألة أسس السلطة لن تحل بواسطة التوريث المتدرج للطباع التعاونية وعلى خلاف ذلك علينا أن نأخذ في الاعتبار تصاعد الأشكال المعاصرة للهمجية أو تنامي الاستبعاد في الديمقراطيات المتقدمة.
    ولكن على الرغم من ذلك فإن ويلسون يدعونا إلى سؤال حقيقي عن دور الطبيعة وعما نعرفه عن ممارسة السلطة وتحديد القانون. لا شيء يسمح لنا بتخيل الجنس البشري خاضعا تمامًا لتأثير الصدفة من خلال تقدم العلم، حسب أمنية كوندورسيه Condorcet ، الذي تصور أنه تخاص من كل قيوده. بالمقابل، يظهر انخفاض معين في حالات الطوارئ التي لها بالضرورة عواقب في العلاقات بين الأفراد والجماعات. في الوقت الحالي، ولأننا لا نعرف ما هي الحتميات الوراثية التي تؤثر على سلوكنا ، فإننا نعتبر جزءًا كبيرًا من هذه العناصر نتيجة لإرادتنا الحرة الفردية. من هنا، نستخلص نتائج سياسية بل وقانونية ذات أهمية كبيرة: من الحرية وممارستها تنبثق على جميع مستويات القانون ميكانزمات تحديد الخطأ والمخاطر والنتائج المترتبة عن القانون المدني والجنائي (المحلي والدولي) وقانون التأمينات. ” كل فعل كيفما كان (ارتكبه) انسان، تنص المادة 1382 من القانون المدني، وألحق ضررا بانسان آخر يرغم من تسبب خطأه في حدوثه على إصلاحه”.
    على افتراض أننا نتقدم في اكتشاف الارتباطات الدقيقة بين بعض الجينات وبعض السمات الشخصية للشخصية التي تحفز سلوكيات معينة ، فهل سيكون من الضروري إعادة كتابة هذه المقال؟ هل نستنتج من ذلك غياب المسؤولية، كما هو الحال اليوم مع الخبرة الطبنفسية في بعض المحاكمات الجنائية؟ يمكن لنا أن نتصور العواقب المحتملة للقانون الجنائي الدولي الأخير. إذا كانت هناك جينة لغزو الأراضي، أو لماذا لا، جينة للاغتصاب الجماعي، فأين الأسس القانونية لعمل المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة أو رواندا؟ حتى الآن يمكن تبرئة الإنسان من مسؤوليته بموجب مبدأ الضرورة، رغم أنه يخضع لشروط تقييدية نسبياً. ولكن بصرف النظر عن الحالات الطبنفسية المعترف بها، فإن الضرورة الملحة كانت خارجية بالنسبة للفرد. يعيد ويلسون فتح حوار قديم كان يُعتقد أنه انتهى من خلال إعادة طرح مشكلة “الضرورة الداخلية”. كان الفرد قد تصرف تحت تأثير جيناته. وعلاوة على ذلك، فإن الخط الذي يفصل الخطأ عن الخطر في مواجهة حدث ضار يجد نفسه غير واضح. وما هي ثورة قانون التأمينات التي سنتجه نحوها، إذا كان ما رأيناه حتى الآن ثمرة طوارئ مبرمجة في مكان ما؟
    نحن ندرك مدى الاهتمام الذي توليه شركات التأمين للتقدم العلمي وللشروط الجديدة الموضوعة على وجه الخصوص في عقود التأمين على الحياة التي لم يتم إبرامها في ظل نفس الشروط إذا كان مقدمو الطلبات يحملون جينات معينة. هنا تكمن الصعوبة في التموقف في انتظار نتائج البحث العلمي دون تداع إلى الآثار غير المتوقعة. إن حريتنا تظهر في الوقت الراهن كمساحة غير محددة حقاً، الشيء الذي لا يتم دون نوع من الابتهاج، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يقدرون الحرية. في المقابل، صحيح أن ما يصنعه الآخر بحريته، وهو ما لا يمكنني استباقه لأنه غير محدد، يترجم بالنسبة لي من خلال أشكال الطوارئ. وينطبق الشيء نفسه على الظواهر الطبيعية التي لا يزال تنبؤنا بها بعيدا عن متناولنا. هل هذه هي فقط الحتميات الخفية التي سوف ينيرها العلم تدريجيا؟ هذا هو افتراض ويلسون، لكنه في الوقت الحاضر لاهوتي وغير علمي.
    تعيدنا قراءته إلى السؤال: هل الطوارئ، على أية حال، جزء من حالة طوارئ غير قابلة للاختزال، عنصر أساسي من العالم؟ هذا يبقى سؤالا فلسفيا. هل يجب أن نفرح بوجود ما نسميه بالحرية؟ أو نندم على ذلك كما فعل تشيخوف في La Cerisaie عندما جعل كبير الخدم في الفندق يقول: ” لقد كان ذلك قبل المصيبة “. ” عن أي مصيبة تتحدث؟ سأل جيف “. ” انها الحرية، أجاب كبير الخدم “، مشيرا هكذا الى إلغاء العبودية. كل يجيب نفسه بنفسه، وهنا أيضا يوجد استخدام الحرية. ولكن إذا كان من الصعب التعامل مع الحرية في النظرية السياسية، فبسب وجود تضاد ليس دائما قابلا للاختزال بين الحريات الفردية وتحرر الجماعة. الإرادة العامة ليست أبدا هي جماع الارادات الفردية، كما أن المصلحة العامة ليست هي جماع المصالح الشخصية. لا مناص من سلسلة من الآليات المؤسسية، ولكن قبل كل شيء لا بد من قفزة نوعية تقوم بها عملية ترميز، كي تُفرض مصالح دوما جزئية ذاتها على العالم الاجتماعي كقيمة مشتركة وتخفي موقف الهيمنة الذي تحقق.
    لكن خصوصية المجال السياسي حتى الآن ارتبطت بهشاشة هذه الخيمياء. ولأن كل أقطاب الخصوصية لديها ادعاءات باستحقاقها للكونية وأن الصراع بينها لم يتخذ في شأنه قرار، فلا يمكن للديمقراطية أن تميز الا بهذا الصراع، يعني بقواعد اللعبة التي تعوق التحرر الفعلي لأحد الأطراف. التقدم العلمي طمس هذه الخطاطة العويصة وهنا بدون شك تكمن، خلف ايديولوجيا البيولوجيا الاجتماعية، إشكاليات علينا أن نكون حذرين تجاهها. تنشأ إمكانات جديدة بسبب العلم. فهي في متناول قلة من الناس: العلماء وبعض صانعي القرار الذين يتمتعون بحرية استخدامها أو عدم استخدامها. عندما صرح ويلسون بأنه إيجابي جدا أن النوع يقرر من الآن في شأن وراثته الخاصة به، فهذه حرية ملغومة، لأن بمجرد ما تصبح ممارسة حتى تنغلق على نفسها، ومقابل مجموعة من أصحاب القرار الذين مارسوا هذه الحرية سوف يرى الملايين حريتهم مقيدة بالحتميات الوراثية الجديدة التي خضعوا لها، حتى لو رغب فيها الآخرون.
    لذا تكون الديمقراطية على المحك في هذه الحالة، وكذلك دور القانون وطابعه كمعبر عن الإرادة العامة. إن المجموعة الرمزية، المتمحورة حول مفهوم السيادة، والتي كانت بمثابة إسمنت للمجتمعات الوطنية من خلال ممارسة اللغة والتاريخ المشترك والبناء الثقافي تعاني في كل مكان من حالة نكوص. ويقترن الخلل في هذا البناء الرمزي بإفرازات العنف التي لا تدخر أي منطقة في العالم. وخلافا لأوهام البعض، فإننا لن نعيد بعد الآن نسج المجموعة الرمزية العائدة الى هذه المجموعة أو تلك ممن تشتغل في بعض الدول (دون أن تكون نمطً اشتغال كونيًا وسلميًا ). تتطلب الآن أسئلة القانون والديمقراطية إيجاد حلول مؤسسية أو أداتية على نطاق عالمي، وهذا لن يحدث بدون تطوير ترميز جديد للإنساني، الانسان البيولوجي والاجتماعي في نفس الوقت. إنها تشق حاليا طريقها بصعوبة لأن الضمير العالمي هو سؤال أكثر من كونه حقيقة. يجب أن تشمل هذه الرمزية الجديدة للإنسانية، دون خيال بروميتوسي، كل الإمكانيات الحقيقية للعلوم: لا كارثة، هذا ما نتمناه، ولا عصرا ذهبيا ، لأن لا شيء من هذا القبيل يرتسم (في الأفق).
    هكذا تبدو لي المسارات التي تنفتح أمامنا. يجب علينا أن نقبل بكون البيولوجيا تجبرنا على طرح أسئلة جديدة ولكن بالتأكيد لا نقبل الإجابات الخطرة التي اقترحتها البيولوجيا الاجتماعية.
    المصدر الإلكتروني:
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube