حملة شي جين بينغ ضد الفساد

بقلم: د. إدريس الفينة
منذ صعوده إلى قمة السلطة في الصين عام 2012، دشّن الرئيس شي جين بينغ واحدة من أوسع حملات مكافحة الفساد في التاريخ الحديث، ليست فقط من حيث عدد المسؤولين الذين طالتهم، بل أيضًا من حيث رمزيتها ودلالتها السياسية العميقة. انطلقت الحملة بخطوات رمزية متقنة، كحظر تقديم كعكات القمر الفاخرة، وهي حلوى تقليدية في احتفالات منتصف الخريف، لكنها كانت قد تحوّلت إلى غطاء ناعم للرشوة والمحسوبية. هذه التفاصيل الدقيقة لم تكن عشوائية، بل شكّلت أول ضربة استراتيجية موجهة إلى رموز الامتيازات البيروقراطية، وإعلانًا مبكرًا بأن زمن “الذباب والنمور” – صغار وكبار الفاسدين – قد ولّى.كانت هذه الرمزية مهمة على مستويين. أولاً، أوصلت رسالة واضحة للشعب بأن القيادة الجديدة ستبدأ بمعالجة الفساد الذي يراه الناس ويلمسونه في تفاصيل حياتهم اليومية. وثانياً، مهدت الطريق لضربات أعمق وأكثر جسارة، طالت مسؤولين كبارًا لم يكن يُتصوّر المساس بهم في العقود الماضية، بما فيهم تشو يونغ كانغ، عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي سابقًا، وبو شيلاي، النجم السياسي الذي كان يطمح لخلافة القيادة.في خلفية هذه الحملة تقبع قواعد النقاط الثمانية، التي أُقرت أواخر 2012، كإطار سلوكي جديد للنخبة الحاكمة، تمنع البذخ في السفر والولائم والسيارات الحكومية، وتفرض على المسؤولين أن يكونوا أقرب إلى الناس، وأبعد عن الأبهة والمظاهر. وقد كُلّفت لجنة الانضباط المركزية، الذراع الحزبية الرقابية، بمتابعة التنفيذ، ليس فقط عبر العقوبات، بل كذلك من خلال آلية الفضح العلني. فكل من خالف هذه القواعد، مهما بدا الذنب صغيرًا، يُعلن اسمه ويُنشر خبر العقوبة ضده على الملأ.لكن هذه الحملة، وإن ارتدت لبوس الإصلاح الأخلاقي، لا يمكن فهمها بمعزل عن مشروع شي جين بينغ لبناء سلطة مركزية راسخة. لقد استُخدمت الحرب على الفساد كأداة لإعادة رسم خريطة الولاءات داخل الحزب الشيوعي الصيني، وتصفية مراكز النفوذ المنافسة، وفرض الانضباط الكامل على النخبة السياسية. فالرسالة التي فُهمت في كل أروقة الدولة كانت: “لا حماية بعد اليوم، ولا خطوط حمراء تعصم أحداً من الحساب”.لقد حققت الحملة نجاحات حقيقية في إعادة ضبط السلوك السياسي والإداري: تراجع الإنفاق العام على المناسبات الرسمية، انخفضت المواكب، واختفت مظاهر الاستقبال الفخم، وتحولت ثقافة النخبة نحو الحذر والتقشف والانضباط. كما ارتفعت نسبة رضا المواطنين عن أداء الحزب، وبدأت الصين تقدم نفسها في الخارج كنموذج “للإصلاح من الداخل”، في مواجهة الفساد المزمن الذي ينخر أنظمة كثيرة في الجنوب العالمي.ومع ذلك، لا بد من التذكير بأن مكافحة الفساد في الأنظمة السلطوية ليست دائماً بريئة. فهي كثيراً ما تخفي أجندة سياسية لتفكيك المعارضة الداخلية وتمكين الحكم الفردي. وما يميز حملة شي هو أنها جمعت بين البعدين: الإصلاح من جهة، وترسيخ الزعامة من جهة أخرى. لم تكن مجرد حملة موسمية أو تطهير مؤقت، بل عملية إعادة هندسة للنظام السياسي من الداخل، عبر سلاح يبدو للوهلة الأولى أخلاقياً، لكنه في العمق أداة ضبط وتحكم استراتيجية.اليوم، وبعد أكثر من عقد على إطلاقها، لا تزال الحملة قائمة، وقد باتت جزءاً بنيوياً من آليات الحكم في الصين. لقد علّمت النخبة درساً في أن الولاء لا يُقاس فقط بالشعارات، بل بالامتثال الدقيق لما تمليه القيادة المركزية، وأن كل سلوك يُراقب، وكل تجاوز يُحاسب. وهكذا، صارت كعكات القمر – الحلوى البسيطة – عنواناً لتحوّل سياسي عميق، يختصر كيف تُمارَس السلطة في الصين: بصرامة ناعمة، تجرّم ما يبدو تافهاً، لتُخيف من تسوّل له نفسه ارتكاب الأكبر.ولئن نجحت هذه الحملة في كبح جماح الفساد الظاهر، فإن تحدي المستقبل يكمن في ما إذا كانت قادرة على تأسيس ثقافة حكم نزيهة ومستقرة، أم أنها ستظل أداة تحركها الضرورات السياسية أكثر من المبادئ المؤسسية. فهل ستبني الصين مؤسسات رقابة دائمة ومستقلة، أم ستظل تحت رحمة قرار الفرد القوي؟ ذلك سؤال لا يزال معلقاً، لكن إجابته سترسم ملامح السياسة الصينية في العقود المقبلة.
