حيمري البشير

واقع الأطفال في ألمانيا

نشرت صحيفة التاتس الألمانية ملفًا مهمًا يسلط الضوء على مشاكل تجاهل الأطفال والمراهقين ما يهدد مستقبل المجتمع. وفي هذا الصدد، يتفق كل من الباحث في علم الاجتماع علاء الدين المافعلاني والأخصائي النفسي الاجتماعي هارالد فيلزر في نقد حاد لوضع هذه الفئة في المجتمع الألماني. فيلزر، الذي يركز على الصحة النفسية والاجتماعية، ويرى أن الأطفال يعيشون في مجتمع يتجاهلهم باستمرار، حيث أصبحت حياتهم مليئة بالضغوط والتحديات التي تفوق قدرتهم على التكيف.

يتفق المافعلاني وفيلزر على أن الأطفال في ألمانيا هم أقلية مهمشة. من منظور المافعلاني، يُعتبر الأطفال والمراهقون في المجتمع الألماني “غرباء هيكليًا”، حيث لا يوجد مكان حقيقي لهم في النظام الاجتماعي الحديث، سوى داخل الأسرة. يرى المافعلاني أن هذه الوضعية تعود إلى تراجع دورهم الاجتماعي نتيجة لتغيرات هيكلية عميقة في المجتمع. فعلى الرغم من أن غالبية الألمان يُقرون بأهمية الأطفال، إلا أنهم نادرًا ما يترجمون ذلك إلى سياسات فعلية تدعم حقوقهم ورفاهيتهم.

من جانبه، يضيف فيلزر أن الفقر الاجتماعي والتهميش النفسي يفاقمان معاناة الأطفال. يلاحظ أن المؤسسات التربوية أصبحت مليئة بالضغوط والمشاكل الهيكلية، مما يضع الأطفال في بيئات تعليمية غير مستقرة. كما أن نقص الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال يؤدي إلى تزايد القلق والمشاكل النفسية لديهم. وبذلك، يتحول التعليم إلى مجرد عبء على الأطفال بدلًا من أن يكون فرصة للنمو والتطور.

المافعلاني يلفت الانتباه إلى أن الأزمات المتتالية، بدءًا من الأزمة المالية وصولًا إلى جائحة كوفيد-19، قد زادت من التحديات التي يواجهها الأطفال. فخلال الجائحة، أُغلِقت المدارس وتم تهميش حقوق الأطفال بشكل غير مسبوق. في ذلك الوقت، رأى المافعلاني أن الأطفال أصبحوا يشكلون مجموعة صغيرة جدًا، ما جعل من الممكن إهمالهم في ظل تأثيرات الجائحة على المجتمع الأكبر.

من ناحية أخرى، يرى فيلزر أن هذه الأزمات قد تركت آثارًا عميقة على الصحة النفسية للأطفال، حيث تزايدت مشاعر العزلة والضياع، وهذا يؤدي إلى تأثيرات سلبية طويلة المدى على تطورهم النفسي والاجتماعي. يعتقد فيلزر أن الأطفال اليوم لا يتلقون الدعم الكافي لمواجهة تحديات المستقبل، ولا يوجد برنامج متكامل لدعمهم سواء على المستوى النفسي أو التعليمي.

المفارقة التي يطرحها كل من المافعلاني وفيلزر هي أن الشباب اليوم، رغم أنهم يعيشون في مجتمع يعترف بأنهم مستقبل الأمة، لا يثقون في النظام السياسي. يشير المافعلاني إلى أن الكثير من الشباب بدأوا يميلون إلى دعم الأحزاب الصغيرة، مثل حزب “التيار” و”حزب الرفق بالحيوانات”، مما يعكس ابتعادهم عن السياسة التقليدية. ويرى أن هناك هوة كبيرة بين رؤية الشباب للمستقبل وبين الواقع السياسي الذي يواجهونه.

في نفس السياق، يعكس فيلزر هذا التوجه من خلال تساؤله عن مدى فاعلية النظام التعليمي في تحضير الأطفال لمستقبلهم في ظل تغييرات اجتماعية واقتصادية حادة. يشير إلى أن الجيل الجديد ينشأ في عالم يختلف تمامًا عما يعرفه كبار السن، حيث يتسم بعدم الاستقرار والفوضى، سواء في السياسة أو في التعليم. هذا الفراغ الكبير في الرؤية المستقبلية يدفع الأطفال والشباب إلى البحث عن بدائل سياسية، مثل الحركات الاحتجاجية التي ظهرت في السنوات الأخيرة مثل “Fridays for Future”.

رغم هذا الواقع المظلم، يقدم كل من المافعلاني وفيلزر بصيصًا من الأمل. يرى المافعلاني أنه من الضروري أن يتغير نهج المجتمع في رعاية الأطفال، وأن يتم إدراج حماية حقوق الأطفال في الدستور، بحيث تكون حقوقهم محمية على مستوى المؤسسات الرسمية. يقترح أيضًا ضرورة وجود “مجالس المستقبل”، وهي هيئات تضم شبابًا من مختلف الأعمار للتمثيل في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم.

أما فيلزر، فيؤكد أن الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من سياسة الدولة، مشددًا على أهمية وجود دعم نفسي واجتماعي مستمر لهم. كما يعتقد أنه يجب إعطاء الأطفال والشباب مساحة أكبر للمشاركة في الحياة العامة واتخاذ القرارات التي تؤثر على مستقبلهم.

في النهاية، يشير المافعلاني وفيلزر إلى أن أزمة الأطفال والمراهقين في ألمانيا ليست مجرد مسألة محلية، بل هي مسألة تتعلق بمستقبل المجتمع ككل. إن تغييرات كبيرة في البنية الاجتماعية والاقتصادية تتطلب تغييرات مماثلة في طريقة التعامل مع حقوق الأطفال وتربيتهم. من خلال إشراك الأطفال والشباب بشكل أكبر في الحياة العامة، يمكن بناء مجتمع أكثر استقرارًا ورفاهية لجميع أفراده، وليس فقط للأجيال الأكبر سنًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID