ثقافة وفنونمستجدات

“جزيرة النسيان”الحلقة الثالثة للمبدع البجوقي

توقفتُ في الحلقة السابقة عند مشهد العجوز الكوبي الذي ناولني خريطة الكنز المزعوم الذي يحتوي على أسرار الثورة الكوبية، ورقة صغيرة لونها أصفر تشبه المخطوط وناولته دولارين .. وتستمر هذه الحلقة وأنا أجاري فضولي بالبحث عن الكنز وأسرار أخرى تخفيها الثورة….لم أصدق حكاية العجوز الكوبي كما لم أستطع مقاومة الفضول، قضيت اليوم الأول في التنقل بين الأزقة القديمة، أبحث عن أول موقع في الخريطة. قادتني العلامات إلى مكتبة مهجورة في أحد الأحياء الهامشية من المدينة العتيقة. كان المكان مليئًا بالغبار والمتلاشيات إلى جانب القمامة المتراكمة ، لافتة كبيرة تعلو باب المكتبة سقطت حروفها الأخيرة، تساءلتُ إن كان صدفة أن تسقط الحروف الأخيرة من اللافتة أو هي رسالة أخرى من العجوز الذي أرشدني إلى مكان الكنز المزعوم. توجد البناية في الزاوية اليمنى لساحة كبيرة يتوسطها جدار كبير تآكلت جوانبه بفعل الزمن وانعدام الصيانة، رائحة البول والقمامة تُزكم الأنوف، لافتة أخرى تشير أن الجدار بُنِيَ بعد الثورة تخليدا للشهداء الذين سقطوا في معركة تحرير العاصمة، ونبذة عن ملحمة صمودهم ، وفي وسط الجدار كتابات بالحرف العريض مقتطفة من خطابات شي غيفارا وزعيم الثورة الكوبية فيديل كاسترو ورسائل موجهة من الثوار إلى شعوب العالم تحكي عن نضالهم وأحلامهم بعالم أفضل. توقفتُ للحظات أرْنُو أمام الجدار الذي يُخلِّد الثورة وأحلامها، عادت بي الذاكرة إلى السبعينيات من القرن الماضي، إلى الجامعة وأحلامنا بعالم أفضل، تذكرت هندامي وأنا طالب بقبعة شي غيفارا، قاومتُ رائحة القمامة والبول وأنا أقف أمام هذا الجدار الذي يُخلد ثورة ألهبت شباب العالم في حينها، بدا لي لوهلة وكأن العجوز الكوبي الذي وجهني لهذا المكان يراقبني بابتسامته الغامضة من زاوية الزقاق المقابل، انتابني شعور بالغبن والحزن وأنا أحاول أن أفكك لغز خريطة ” كنز المخطوطات الكوبية ” أو بالأحرى أقاوم فهم مغزاها ومقاومة ألم اكتشاف سراب بُنيت عليه آمال وأحلام صنعت كينونتنا، أقاوم فهم رسالة العجوز الذي ناولني خريطة الكنز المزعوم وأرسلني إلى هذا المكان بقصد أو بدونه، انتابني شعور بأنني أطارد حُلمي وأمسك بسرابي. غادرتُ المكان وتركت ورائي الجدار الذي يُخلِّد ذكرى الثورة وشهداءها، واصلت طريقي نحو ساحة الكاتدرائية وصورة العجوز وخريطة الكنز لا تفارق ذهني، ربما لم يكن كاذبا العجوز الكوبي حين ناولني خريطة الكنز ونصحني بالبحث عنه، كنز كوبا هي ثورته التي لم يبقى منها إلا هذا الجدار وشعار بالبنط العريض باللون الأحمر يُزين سطح بناية قديمة وسط العاصمة ” الوطن أو الموت Patria o Muerte”. واصلت طريقي في شوارع هافانا القديمة يرافقني إحساس أنني بصدد عبور بوابة إلى عالم آخر، حيث تمزج الأزقة المتهالكة بين بساطة الحياة وصخبها الآسر. رغم البنايات التي تحمل آثار الزمن، بنايات متهالكة تفتقد لأبسط شروط العيش الكريم، والسيارات القديمة المهترئة بألوانها المثيرة، إلا أن الحياة هنا تتدفق في كل زاوية وتضج بالألوان وبالموسيقى وبالوجوه التي تبتسم كأنها تتحدى الفقر والجدران المتداعية، وغيرها من أسرار كنوز كوبا وثورتها . كان شبح العجوز يطاردني في جولتي ، يبدو لي أحيانا طيفه من بعيد، ظننتُ أنه يراقبني بابتسامته الغامضة ونظراته الثاقبة وأنفه المعقوف، كان صفير السيارات القديمة بركابها من السيّاح الأمريكيين والأوروبيين يقطع حبل تفكيري وبحثي عن كنوز باقي ثورات العالم أو ما بقي من أحلامها وسرابها وخرائط البحث عنها.. أحسستُ بالتعب وتوقفتُ عند مدخل إحدى العمارات القديمة، حيث المُتوقع أن ترى الصدأ فقط إلى أن تُفاجئك لوحات فنية تزين الجدران. هذه اللوحات ليست مجرد رسومات؛ إنها نوافذ صغيرة تعكس روح الإنسان الكوبي، بأحلامه وأحزانه، بفوضاه وجماله. واتَرْتُ قليلا أتأمل لوحة تُجسِّد امرأة تحمل كتابًا بنظرة متأملة، وأخرى تروي قصة أمومة تختبئ في رمزية الألوان. كيف لجدران فقدت قوتها أن تكون بهذا الصدق والعمق؟ إنه سؤال يطرحه كل زائر لهذه المدينة التي تروي حكاياتها بالفن والصوت والألوان..يُتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID