المصطفى القادري اليملاحيكتاب حرة بريسمستجداتمقالات الرأي

إسرائيل والهزيمة الإعلامية المدوية

بقلم المصطفى القادري ـ لندن

طالما اعتبرت دولة إسرائيل دولة نافذة في المشهد الإعلامي الدولي الذي يسيطر عليه بشكل مطلق المال اليهودي كما هو متداول لدى القاصي والداني. لكن شيئاما تغير خلال الأيام الأخيرة لتتلقى إسرائيل صفعات متتالية تسقط أسطورة التحكم في الرأي العالمي أو على الأقل تضعها تحت طائلة الإختبار.
فقد تتبعنا جميعا كيف تعامل الإعلام الغربي ـ كعادته ومنذ الدقائق الأولى لتنفيذ حماس لفصول عملية طوفان الأقصى ـ ، بمنهجية أقل ما يقال عنها أنها بعيدة عن الإحترافية والمسؤولية والتجرد الذي من المفترض أن تكون عليه وسائل إعلام عريقة في المهنية والإحتراف. فقناة البيبيسي البريطانية وغيرها انطلقت لتبرر الجرائم الإسرائيلية بشكل قبلي من خلال طرح مبرر مبدأ الدفاع عن النفس وتجريم أي تضامن مع الشعب الفلسطيني على اعتبار أنه تضامن مع حركة حماس الإرهابية بحسب وصفهم. بل الأنكى، فإن مجرد انتقاد لما سوف تقدم عليه القوات الإسرائيلية من قتل وتهجير وتدمير للبنى ومحاصرة الإنسان الفلسطيني هو معاداة للسامية وجريمة يمكن أن يعاقب المتضامنون بسببها.

القنوات الامريكية بدورها لم تبخل على الرأي العالمي بحملات مشابهة، بل تمادت لتنشر أخبارا زائفة عن ضلوع مقاتلي حركة حماس في قطع رؤوس الأطفال في محاولة لإعادة صور الإعدامات التي مارستها الحركات الإرهابية كداعش لبناء رأي عام أمريكي ودولي ودغدغة مشاعره وإعادة مخيلته إلى أحداث داعش في محاولة لخلق صورة مشابهة للفلسطينيين تبرر ما سوف تقدم عليه إسرائيل وحلفاؤها. أو اختلاق مشاهد تبين تعرض صحافييها لمخاطر القصف.

الإجماع الغربي على تجريم الجهر بالتضامن وإبداء أشكال الدعم للشعب الفلسطيني كان مقدمة لمحاولة إسكات الرأي العام وترهيبه من خلال تقديم النصائح وتحذير المواطنين بأوروبا من ارتكاب جريمة معاداة السامية أو دعم ونشر أفكار ومحتويات ذات صبغة ارهابية. هذا الإجماع المزعزوم تزلزت أركانه بفعل المظاهرات الشعبية في العديد من العواصم الأوروبية وبروز أصوات منصفة تدعو إلى محاكمة الأطراف الداعمة للإعتداءات الغاشمة على الشعب الفلسطيني وفقا للقانون الدولي. على سبيل المثال، حملة برلمانيين بريطانيين ومنظمات حقوقيية لمقاضاة الحكومة الغير الديموقراطية ورفع قضايا ضد وزيرة الداخلية البريطانية لقيامها بمصادرة حرية تعبير المواطنين خارج إطار القانون.

فرنسا التي لم تتخل بعد عن عقليتها الإستعمارية، ذهبت بعيدا إلى حد اعتبار القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السيدة مريم أبو دقة ذات الواحد والسبعين خريفا، كتهديد للنظام العام لوضعها تحت الإقامة الجبرية جنوب شرق فرنسا بعد صدور الأمر بطردها من الأراضي الفرنسية، مع تأجيل التنفيذ لعدم توفر الإمكانية في الوقت الراهن. يحدث هذا في دولة الأنوار التي طالما تبجحت بإدعاءاتها حول حرية التعبير والديموقراطية وحرية الرأي والصحافة ليتبين التخبط الذي تعيش على إيقاعه الديكتاتوريات الغربية المغلفة بديومقراطية الصوت والصناديق، وليتبين الهوس الإمبريالي الذي لازال يشكل مستنقعا يغرق فيه العقل السياسي الفرنسي.

مواقع التواصل الإجتماعي بدورها تعمل على مدار الساعة على مراقبة المحتويات المرتبطة بفلسطين وتجتهد في حذف وحجب كل ما من شأنه أن يضر بالمخطط الإعلامي القاضي بتسهيل عمليات القتل والتدمير والتهجير والحيلولة دون تكون رأي عام دولي مناهض يفضح الجرائم والمخططات على حد سواء، إلى الحد الذي أصبح المواطنون الغربيون يشمئزون من متابعة الإعلام ومنهجياته الخبيثة في لي عنق الحقائق الواضحة.

إلا أنه وبالرغم من كل الإمكانات الهائلة المخصصة لحملة إعلامية تواكب خطة عمل اسرائيل والدول الحليفة، نجد أن الفشل كان هو العنوان الأبرز، فوسائل الإعلام تلقت انتقادات حادة من مواطنيها إلى الحد الذي جعل المتظاهرين بالعاصمة البريطانية لندن على سبيل المثال، يحددون مقر البيبيسي كنقطة انطلاق للتظاهر دعما للشعب الفلسطيني وتنديدا بالتحيز المقيت لقناة وطنية تعتمد المال العام من ضرائب ومساهمات المواطنين كمورد وحيد للتمويل لضمان استقلاليتها. ومن الجدير بالذكر أن المظاهرة الإحتجاجية بلندن ساهمت في دفع البيبيسي لفتح المجال أمام ناشطين فلسطينيين للمساهمة في برامج محدودة والسماح لهم بإبداء وجهة نظرهم حول الملف والإعتداءات الأخيرة التي تطال أبرياء غزة من مواطنين عزل. كما أقدمت على نشر اعتذار رسمي بخصوص التغطيات المضللة للمظاهرات الداعمة لفلسطين بابريطانيا في مجاولة لحفظ ما تبقى من وجه الماء.

بالنسبة لوسائط التواصل الإجتماعي، فأصبحت غير قادرة على اخفاء التوجه العام الداعم للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بالرغم بالرقابة الشديدة على المحتوى والحذف المتواصل للحسابات و المحتويات، والغياب الشبه التام للمادة الإعلامية الصهيونية التي تعيش على ايقاعات الصدمة المترتبة عن الضرر البالغ الذي ألحقه طوفان الأقصى بالمنظومات الأمنية والإستخباراتية والإعلامية التي طالما بالغت في تقدير قوة الردع الإسرائيلية. الإعلام الإسرائيلي يعيش على إيقاعات الفوضى العارمة والتخبط حيال الأحداث. فبين نيران التبرير ونظريات المؤامرة وتبادل أصابع الإتهام أضحت الماكينة الإعلامية عاجزة عن تقديم الدعم النفسي للقادة والجنود على الجبهات وتخلفت عن ممارسة الدور التعبوي أمام شيوع الرغبة بالمغادرة لدى المواطنين الذين فقدوا الثقة في قدرات الدولة على ضمان سلامتهم واستقرارهم.

الفشل في توجيه وقيادة المعركة الإعلامية سيكون له تداعيات غير مسبوقة على مستقبل الكيان الإسرائيلي، أولها تعطيل مسار اتفاقيات التطبيع، بالإضافة إلى رفض أية محاولة لتهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم في اتجاه الدول العربية المجاورة، كما سيعزز موقف الدول المناهضة والرافضة لعمليات الإبادة الجماعية والتهجيير القسري والقتل اللامبرر للأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ وعزل. فبالإضافة إلى دول كالصين وروسيا وكوريا الجنوبية وإيران التي عبرت منذ الوهلة الأولى عن رفضها لتصرفات إسرائيل الخارجة عن إطار القانون الدولي، تنضاف دول أخرى إلى القائمة ككولومبيا وأوروغواي وغيرها، فاللائحة مستمرة في الإتساع أمام هول الأعمال الإنتقامية ضد المدنينن الفلسطينيين.

بالرغم من السيطرة المطلقة على وسائل الإعلام الدولي ومنصات التواصل الإجتماعي التي ترزح تحت سيطرة أجهزة الإستخبارات الأمريكية التي طالما عملت على ضمان ولاء الإعلام وتوجيهه ليصبح قوة داعمة للتوجهات الأمريكية والغربية ومساهما في توجيه الرأي العام سواء عن طريق اختراق مواقع القرار الإعلامي أو عبر التحكم المالي. فعمليات نشر الفضائع المكذوبة بهدف نزع الشرعية عن الطرف المعادي وتبرير ردود الأفعال لا يمكن اعتبارها خطأ تحريريا أو واقعة منعزلة ناتجة عن عدم تحقق صحفي أو موظف في قناة ما . إنما هي عمليات ممنهجة ومخطط لها بإحكام لتحقيق أهداف واضحة ومحددة بالإعتماد على أخر إبداعات علم النفس وتقنيات التواصل وحرفة صناعة الرأي داخل المجتمعات. بالرغم من كل ما سبق، يبدو أن إسرائيل ومعها الغرب الحليف على مشارف هزيمة اعلامية مدوية ينتصر فيها الدم الفلسطيني البرئ على سيف الإعلام لقاتليه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube