احمد رباص

صورة المعلم المغربي بين المثال والواقع

أحمد رباص

مما لا شك فيه أن صورة المعلم في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر ذات وجهين كما لو كانت عملة الغرض من تصريفها إغراق الحامل لها في بحر من المفارقات. لمزيد من التحليل، أقول إن للمعلم في مجتمعنا صورتان: صورة مثالية وصورة واقعية.
يبدو المعلم في الصورة الأولى محتلا مكانة رفيعة موروثة عن الثقافة العربية الإسلامية التي عكست من خلال إيلائه تلك المكانة تقدير الأمة العربية للدور الذي يقوم به في تعليم وتربية الأجيال.
واذا نظرنا مليا في الواجهة المثالية من صورة المعلم بصفة عامة، نجد أن طبيعة عمل المعلم تختلف عن طبيعة عمل المهندس والطبيب والإداري.إلخ. تتجلى هذه الخصوصية في كون المعلم يتعامل مع إنسان له عقل لا بد أن يغذيه بالعلم، ونفس لا بد أن يصقلها بالأخلاق، وطباع لا بد أن يهذبها بالأدب، وجسم لا بد أن يقويه بالرياضة، وذوق لا بد أن يرتقي به عن طريق مزاولة الفنون وأوجه النشاط المفيد.
إن الوقوف قليلا عند هذه البطارية من المهام في محاولة للتأمل قد يفضي بنا مباشرة إلى الواجهة الواقعية لصورة المعلم، إذ أن إنجاز تلك المهام يحتاج إلى صبر وأناة وتحمل ومؤهلات ومقدرات يمكن اكتسابها بعد تكوين ذاتي وإعداد مهني خاص..لكن الواقع المرير حكم على تحقق الشروط الأخيرة بأن تعترضه صعوبات كثيرة وعقبات شتى..
وفي نظري، يعود هذا الامتناع إلى عوامل كثيرة لعل أكثرها تجليا غلبة الجانب المادي النفعي على الجانب المعنوي الثقافي في حياتنا المعاصرة التي ركزت على تنميط الفرد وفق معايير مجتمع الاستهلاك من أجل الاستهلاك. طبيعي، والحالة هاته، أن يحدث نفور مروع ومقلق من القراءة، حتى بالنسبة لمن توفرت لهم إمكانات العيش الرغيد.
الواقع مرير فعلا، غير أنه لا قدرة له على إخفاء مجالي مرارته..مهارة واحدة تكفي لتجعله شهيدا عن نفسه؛ ألا وهي مهارة تسجيل الوقائع في الذاكرة وإعادة حكيها في قالب فني بسيط. الواقعة الأولى عشت أحداثها وأنا ما زلت أتابع دروسي النظرية والعملية في مركز غاندي لتكوين المعلمات والمعلمين..ففي منتصف السنة التكوينية تلك، حدث شجار وعراك وتلاسن بين مدير المدرسة التطبيقية التابعة للمركز وبين أحد معلميها، على خلفية استنكاف الأول عن إمداد الثاني بالرد الإيجابي من الإدارة الوصية على طلبه التقاعد النسبي والسكوت عنه لمدة طويلة احْتسِبتْ منذ اليوم الذي وردت فيه المراسلة.
القضية وصلت للبوليس..في الغد، حضرت لجنة من الشرطة القضائية لتباشر التحقيق الأولي في هذا النزال الذي يحكى أنه شهد محاولة المعلم قتل المدير برميه من الطابق الثاني لإحدى عمارات المدرسة التطبيقية، لولا أن معلمة صرخت صرخة مدوية نبهت المعلم الهائج لخطورة الفعل المقبل عليه، فتمالك أعصابه وعادت قدما المدير لتلامس الأرضية الإسمنتية لممر الطابق الثاني.
في اللحظة التي حلت أثناءها اللجنة واجتمعت بالمعلميْن المتشاجرين بحضور مديرة المركز، مررت بالصدفة أمام مقر إدارة المدرسة التطبيقية فوجدت ثلاثة طلبة يصيخون السمع إلى ما يجري من استنطاق لمعرفة الحقيقة التي لا تكون حجة في بعض الأحيان. وقفت مع أصدقائي الطلبة لأتطلع مثلهم الى ما يجري في الجلسة المغلقة بين مختلف الأطراف..فجأة، خرجت مديرة المركز وهي تقول غير عابئة بحصورنا: “مالو؟ أش بغا يكون؟ ياك غير معلم..” كان ضمير الهو المستتر في ملفوظها يحيل على المعلم الذي تمرد على المدير وعنفه.
الواقعة الثانية أكدت لي بالملموس أن الصورة المثالية للمعلم تلاشت معالمها وكساها الضباب الكثيف في ذهن المعلم ذاته قبل غيره، نظرا لوقوعه تحت ضغط المتطلبات المادية المتزايدة في هذا الزمن الرديء..ففي لحظة ضاعت بين تفاصيل كتاب حياتي عن سنواتي الخمس الأولى، استمعت إلى مفتش يتحدث لجلسائه في المقهى عن معلم بطريقة إيجابية وكأنه يتحدث عن أحسن نموذج للمعلمين صادفه في حياته.
في بداية حديثه، ظننت أن موضوعه سوف يتمحور حول نجاح المعلم في أداء المهام المشار إليها آنفا، لكن تبين لي فيما بعد أن الصورة المثالية للمعلم خضعت في ذهن المفتش بدوره لتشويش خطير. علاش؟ لأنه كان معلما وما يزال,,.الإنجاز العظيم والباهر الذي قام به المعلم – في نظر المفتش الذي لا يخفي إعجابه به – هو أنه تعاطي لشراء الخرفان الحديثة الولادة لأجل الاعتناء بها ومقابلة نموها وبيعها في السوق وهي سمينة وازنة ذات قرون بارزة..ختم المفتش حديثه بأن المعلم دار لا باس من هاد المشروع وجمع أموالا طائلة اقتنى بجزء منها بقعة أرضية في مدينة خريبكة وبنى عليها منزلا من عدة طوابق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube