ثقافة وفنون

قصة قصيرة: مسحوق النبض

مصطفى الزيـــن

وأخيراً، هَلَّ أرباب الشركة الثلاثة من شرفة الإدارة على ممثلي العمال والنقابات المدعوين من كل الفروع المنتشرة عبر العالم، المنتظرين المتجمعين، بل الموزعين على مسافات من التباعد،حسب ما أوصت به منظمة الصحة العالمية، كما لو كانوا أشجار حديقة متسقة..وبعد تصفيقات هؤلاء وتلويحات الثلاثة الأعلون..إستمع الجمع المتفرق المنتظم إلى كلمات السادة وتهانيهم بمناسبة عيد العمال واستعراض المنجزات والنجاحات التي حققتها الشركة بتعاون وتناغم بين الإدارة وممثلي العمال والنقابات، ومن أهم تلك المنجزات كما أكد الرِبِّي جَامِيلَا أن الإدارة أصبحت قادرة على إلتقاط نبض العمال وإحساساتهم وحاجاتهم دونما حاجة إلى الكلام، فما بالك بسخافات التظاهرات ورفع الشعارات..تلك العادة البائدة التي كانت مضيعة للوقت ومجلبة لسوء التفاهم..فما على العمال إلا أن ينتووا في نفوسهم ونفوس ممثليهم حتى تلتقط الإدارة تلك النوايا وما تحدث به الأنفس الأمارة بالخير، فتلبي ..؛ بل إنها مستعدة أن تستبق تلك النوايا حتى قبل أن تتبلور.. وما إن همت أشجار الساحة بالتصفيق، حتى انبري السَّانْتْ پيير رَالْ،مبتسما ، يوقفهم قائلا إن نية التصفيق قد وصلت شاكرا، وأخبر الجميع أن هذا الاحتفال بفاتح ماي باعتباره عيد العمال وطبقتهم،سيكون آخر احتفال في التاريخ، بل سيتم حذف الأول من ماي نهائيا ، فيتم إلحاقه بشهر أبريل الذي سيغدو من واحد وثلاثين يوما، ينفتح بكذبة ويختتم بكذبة فنية يتبارى العمال والإداريون في اختلاقها.. وإن العيد الوحيد الذي سيتم الاحتفال به سنويا هو عيد الحب.
نوت الأشجار التصفيق ، ولكنها تذكرت الشعار الجديد:”إنما التصفيقات والمطالب بالنيات”..
ثم جاء الدور على الحاج بنعبو المناضل الاشتراكي سابقا، فخطب في الجمع المبارك المثبت كالتماثيل على قواعده، فطلب منهم أن يجربوا التعبير عن المطالب والشعارات باعتبارها آخر تجربة قبل انبلاج العهد والميثاق الجديد..فلم تسمع سوى غمغمات من تحت الكمامات المشدودة جيدا إلى الآذان والرقاب على الوجوه..فابتسم الجميع وصفق الأعلون كالديكة الفرنسية بأجنحتهم، ثم أمر الحاج الأسفلين أن يجربوا ، هذه المرة، النبض والانتواء الذي سيسمعه السادة بكل وضوح، ويتجاوبون معه بكل لطف وكرم..وهي تجربة لن تستغرق سوي ربع ساعة، سيغادرهم فيه الأعلون ليختلوا في اجتماع ، قبل أن يعودوا إليهم بعد نهاية التجربة..
والحقيقة أن الرجال ، والنساء الأشجار، ظلوا ثابتين ،ينوون وينتوون ؛ لم يتزحزحوا ولم يُزحزحوا الكمامات، بل لم يحركوا أيديهم وسواعدهم أبدا..ينوون وينتوون ، ويبحلقون بأعينهم في أعين البعض دون أن يتحركوا أو يتزحزحوا عن قواعدهم الثابثة قيد أنملة..وربما أن أهم ما كانت أنفسهم تحدثهم به هو كيف يتسمَّعون – هم معشر الممثلين والنقابيين-إلى نبض ناخبيهم من العمال؟
في داخل المكتب البيضاوي الفسيح جلس السانت پيير رال إلى رأس المائدة الأيمن، و جلس الربِّي جاكوب جاميلا، متورد الوجه كدجاجة بياضة وضاءة، إلى رأس المائدة الأيسر، بينما جلس المدير الحاج عبو بن عبو محتبيا في وسط المائدة بسلهامه الأسود وجابدوره الأحمر كما لو كان ديكا روميا متهيئا لان يَأْكُل أو يُأكل، وكان قد هيأ كل شيء كما أمره المالكان، بما فيه الأجهزة الدقيقة فائقة الذكاء التي ستوزع على الرجال المغروسين في الساحة ، لكي يجسوا بها نبض ناخبيهم ، ومشروع القانون الذي يتقاطع في تسميته مع تسمية كوڤيد19 والذي اقترح تسميته (كاغيد 20..)وينتظر مصادقة السيدين عليه وعلى باقي الرقم .. وأما الأجهزة التي ستجس نبض العمال ،فكما أمر ، قد أعدها وأعد خطة تثبيتها على السواعد العاملة..
غير أن الرجال الثلاثة لم يطلوا ، مرة أخرى ، على الحديقة البشرية، وإنما نزل إليهم أحد مساعديهم فوزع عليهم تلك الأجهزة الدقيقة التي تثبث على الرقاب كأذن ثالثة..فانصرفوا مهللين مكممين مزيدين غير مجردين.
لكن الربِّي جاكوب جاميلا انتبه إلى أن جهازه النانوي الذكي كان يلتقط صدى بعيدا شبيها بصدى دوي الانفجار العظيم ، فنبه صاحبيه إلى ذلك ، فلما أصاخوا السمع ، اندهشوا وتبلبلت نفوسهم وأذهانهم،فاضطروا أن يقضُّوا ليلتهم بيضاء بالمكتب حائرين متوجسين عاجزين عن تفسير ما سماه السانت پيير رال : مسحوق النبض.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube