المرأةمستجدات

سعيدة المنبهي الشهيدة التي كتبت إسمها بالدم

مجيد مصدق

مرت 44 سنة على استشهاد سعيدة المنبهي على يد النظام الذي ارتكب في حقها جريمة سياسية لا تقبل التقادم…
لا يزال اسمها واحدا من الأسماء التي ألهمت أجيالا من المناضلات والمناضلين، لا تزال أيقونة لمرحلة كفاح، وقفت في وجه الشمولية والاستبداد بكافة عناوينه، وبجميع تشكلاته وتمظهراته، كانت ولا تزال رمزا للحركة الطلابية واليسارية، وما قدمته من شهداء في سبيل تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في سبيل اجتثات النظام السياسي الاستبدادي.
بعد حصولها على الباكالوريا بمراكش، سنة 1971، سافرت إلى العاصمة الرباط، لمتابعة دراستها الجامعية، وستحصل بعد ذلك على إجازة في الدراسات الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس. لم تتأخر كثيرا حتى التحقت بالمركز الجهوي للتربية والتكوين بذات المدينة، فأصبحت أستاذة بالسلك الأول، تدرس اللغة الفرنسية بإعدادية الخوارزمي في الرباط.
بدايات انخراط الشهيدة المنبهي في العمل النضالي كانت في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، تزامنت هذه الفترة (1972-1973) مع الحظر التعسفي للمنظمة الطلابية من طرف النظام،في تلك الفترة وبعد مخاض دام نحو ثلاث سنوات من العمل السري أعلنت منظمة “الى الامام” عن نفسها سنة 1972 بزعامة أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي،لتلتحق سعيدة بالمنظمة التي حظرها النظام أنداك، مما جعل العمل السري طريقها للوصول للجماهير والتواصل معهم.
في وقت خيم فيه القمع الأسود وساد الاستبداد، انتفضت سعيدة المنبهي ضد النظام القائم وصرخت بأعلى صوتها في وجهه بمعية رفيقاتها فاطمة عكاشة (أول مهندسة كهربائية بالمغرب زوجة الصافي احد معتقلي المجموعة انداك) وربيعة لفتوح (التلميذة الطنجوية المختطفة في عمر الزهور خطيبة محمد السريفي معتقل هو ايضا ضمن المجموعة) والمناضلة السيدة بييرادي ماجيو، الإيطالية المساندة والمدعمة لمناضلي الحركة الماركسية اللينينية بالمغرب والمتعاطفة معهم، كلهن صرخن رافضات الظلم والاستغلال مؤمنات بضرورة التضحية من أجل غد أفضل.
فقد عاينت الشابة سعيدة المنبهي الفلاحين يزرعون والعمال ويبنون ويشيدون وينتجون، لكن لاحظ لهم في المكاسب والمغانم في مجتمع تهيمن عليه الطبقية كنتاج لطغمة حاكمة مستبدة،عميلة للامبريالية والرأسمالية،وسمعت الصراخ في مآثم،وما أكثر المآثم في وطن الآلام والسجون والقمع والاختطاف والاغتيال، في مغرب سنوات الجمر والرصاص..ولم تتردد الى جانب رفيقاتها ورفاقها في رفع التحدي في وجه النظام القائم وآلته القمعية.
طريق النضال السري سيقود سعيدة المنبهي بمعية ثلاث مناضلات بالمنظمة،هن بييرا ديماجيو.(pierra di magio ) وفاطمة عكاشة وربيعة لفتوح الى الاختطاف من طرف زبانية الليل يوم 16 يناير 1976، وتمت قيادتهن إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف،حيث مكثن هناك لثلاثة أشهر تعرضن، خلالها لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، ثم نقلن بعد ذلك إلى السجن المدني بالدار البيضاء.
حوكمت الشهيدة الى جانب رفيقاتها ورفاقها في محاكمة يناير 1977 الشهيرة الى جانب 138 معتقلا-ة-بتهمة المس بامن الدولة،ووسط قاعة المحكمة نددت بالاستبداد الجاثم على الانفاس، وبالقمع المزدوج الممارس في حق المراة المغربية، وصفقت لها القاعة،كما انتفضت خلال هذه المحاكمة ضد انتهاكات حقوق الدفاع،وبذلك
ساهمت بمعية رفاقها في قلب الكفة، فأصبحت محاكمة للنظام القائم عوض محاكمة معارضيه والمنتفضين ضده والمتصدين لتجاوزاته.عند النطق بالاحكام نعث المعتقلون بصوت واحد القضاء الجالس بالفاشيست،كان نصيب سعيدة 5 سنوات سجنا اضافة الى سنتين بتهمة القدف في هيئة القضاء الجالس.بعد المحاكمة تم إبعاد المناضلة “بييرا دي ماجيو” تلافيا لاي ضجة دولية حول ظاهرة الاعتقال السياسي.
أثناء الاعتقال فرض على الشهيدة سعيدة مع رفيقتيها فاطمة عكاشة وربيعة لفتوح العزلة بالسجن المدني بالدار البيضاء. فخاضت الشهيدة بمعية عدد من المعتقلين والمعتقلات مجموعة من معارك الأمعاء الفارغة،خرجت منها سالمة، لتتوج هده النضالات بالإضراب اللامحدود عن الطعام في 8 نونبر 1977، وذلك للاعتراف بهم كمعتقلين سياسيين وأيضا لتحسين ظروف سجنهم وفك العزلة عنهم،من خلال المطالبة بسن قانون المعتقل السياسي، دام اضرابها 34 يوما،أجهد جسدها الذي لم يعد قادرا على التحمل،نقلت بعدها إلى المستشفى، ومنع عنها تناول الماء والسكر، لتفارق وبسبب الإهمال الطبي العمدي الحياة يوم 11 دجنبر 1977 بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، وهي في سن 25 سنة، لتخط بدمائها آخر قصائد الوفاء “سأموت مناضلة”.
لم تقو ظروف الاعتقال القاسية أن تنسيها الاهتمام بمحنة الشعب وقضاياه، وكلفت نفسها بتتبع وضعية السجينات وقضية المرأة، إذ كتبت دراسة قيمة من وراء القضبان تعرضت فيها للدعارة والرذيلة والرشوة والفساد من زاوية ارتباطها بالنظام السياسي القائم بالمغرب، والذي ظل وقتئذ يعمل على نشرها وتشجيعها في ظل سلطة لا وطنية يعاني فيها الشعب من البؤس والشقاء، وذلك بعد أن تلقت شهادات عشرات النساء معتقلات الحق العام، قذفت بهن الظروف وراء القضبان.ومن وراء هده القضبان الحديدية الصدئة، وخلف الأسوار الإسمنتية العالية، استرخصت الشهيدة سعيدة المنبهي حياتها ضريبة لقناعتها بضرورة جلاء الظلم والاستبداد إلى الأبد عن الوطن.
كانت سعيدة شاعرة رهيفة الاحساس،كتبت شعرها بالدم، ضمّنته آهاتها وكللته بالحلم والهم والغم،كلماتها ليس ككل الكلمات، كلمات كتبت بدماء الأظافر حسب ما رواه رفيقها المعتقل الشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي ترجم بعض أعمالها من الفرنسية الى العربية، كلمات كتبت تحت نير العذاب، عذاب السجان القاسي، وعذاب الدخول في الاضراب عن الطعام، قد لا تعتبر سعيدة معركة الأمعاء الفارغة عذاب، لكن اعتبرته طريق نحو الشهادة، استشهاد سينير الدرب نحو مغرب لا صوت يعلو فوقه غير الصوت كداح الوطن والمضطهدين.بدأت سعيدة تكتب الشعر بالاظافر والدم، على حائط الزنزانة، كانت تكتب ولا تنقح لانها لم تكن تفكر في اضواء الشهرة، ولا في المخبرين وجواسيس اللغة، كانت تؤرخ المحنة العادية، وتفتح قلبها على مصراعيه للطيور المطاردة.. للاطفال الموشومين بالفاجعة.. للنساء الثاكلات اللواتي جردهن الاستغلال والقهر من اثداء العطاء.. للنجوم المسافرة من قلعة منفى على طول وعرض الوطن الكبير.كانت تكتب باظافرها في غبش الزنزانة ولا تابه بامراض الابداع. القصيدة رئتها الثالثة التي تستنشق بها رائحة غابات الحرية.. عرق السواعد التي تنشر الخيرات والتي تبترها احيانا انياب آلات الراسمال،
كانت القصيدة اليومية عينها الثالثة التي ترقب بها تراث المستقبل.وتمر الاشهر كسرب من القوافل الضمأى التي شدت رحالها الى ينابيع الفرح، وسعيدة تكتب باظافرها على حائط الزنزانة.. تكتشف رويدا رويدا من خلال المعاناة وممارسة الحقد والحنان.. من خلال الرؤيا المشحونة بحدة الواقع وعناده.. تكتشف العلاقات الخفية التي تربط اعضاء القصيدة برحم الثورة.. بصراع الطبقات، هكذا بدات القصيدة تتحول من لحظة تاريخ غنائية الى عملية كشف وتطوير، تتوحد خلالها سعيدة والقصيدة والمشروع الذي ادى بها الى غياهب المعتقل السري.. ثم السجن العلني… تداخلت المكونات وتشابكت في نسيج غريب وأليف في نفس الوقت.. يبهر بالنظارة،اصبحت سعيدة شاعرة لانها اكتشفت سر انسانيتها وكفاحها كامراة ومناضلة.. لانها اكتشفت بهاء تجربتنا الانسانية.في هذه اللحظة بالذات جاءالموت فقابلته سعيدة ببسمة الواثقة من نفسها،
وعلى فراشها الاخير.. خرجت للحظة من غيبوبتها العميقة لتكتب بالدم كلمتين بسيطتين.. كلمتين رقيقتين حادتين في آن معا.. لهما طعم الرصاصة والقبلة.
كتبت سعيدة.. “ساموت مناضلة”.. ثم دخلت من جديد في غيبوبتها اليقضة النهائية لتلتحق بركب شهيدات وشهداء هدا الوطن.
خلال فترة سجنها،تقول سعيدة على لسان والدتها :خلال زياراتي لها بالسجن، كانت سعيدة تردد رغم كل الحواجز المفروضة،
إنني هنا يا أمي من أجل العيش الكريم لشعبي. إن معنوياتي عالية باستمرار. إن المستقبل لضحايا الاضطهاد الطبقي والاستبداد السياسي… إنني لا أخاف القمع… إنني أؤمن بقضيتي، قضية كل الجماهير”.
صرخت سعيدة المنبهي: يا شعبي تحرر.. فسجنوها، ومن كل أصناف العذاب والتنكيل أذاقوها، وما تبرأت من قناعاتها.. لرد فعل الشعب انتظرت.. لكن لا حراك للشعب المسكين المدجن والمشغول باللهث وراء لقمة عيش مرّة، هذا في وقت زرعوا الرعب في خيرة بناته وأبنائه، لكن معرفتها لتاريخ هدا الشعب الذي لا يقبل الخضوع أو الخنوع أو الانبطاح سيثور يوم ما عندما يجد القاطرة التي ستقوده الى طريق الثورة والتغيير، عاشت سعيدة المنبهي فتاة ثائرة حرة وماتت شهيدة.
تقول والدة الشهيدة،الراحلة السيدة الهيلالي
“كنت أحاول لقاء سعيدة بالمستشفى طيلة وجودها هناك، لكن دون جدوى، رغم ذلك أصررت على لقائها.. استعطفت المسؤولين إلى أن سمح لي بعضهم برؤيتها عبر شباك صغير.. لازلت أذكر لقاءها الأخير ليلة استشهادها.. قالت لي: “تشجعي يا أمي، إنني لن أتنازل عن إيماني وقناعاتي.. لقد اتفقت مع رفاقي على حل الإضراب لأن وضعيتي الصحية لا تسمح لي الآن بالاستمرار فيه..” فقبلت يدي وقلت لها: “سأحاول رؤيتك غدا.. عدت صباح يوم الغد ومعي بعض الطعام والملابس لكني وجدت أمامي نَغْيَ الاستشهاد
لقد استشهدت سعيدة المنبهي في سن الزهور وعمرها لا يتجاوز 25 ربيعا، لتصبح أول شهيدة في سجون النظام، ورمز للمرأة المغربية المناضلة الثائرة على الظلم.والتي علمتنا معاني الصمود والتضحية والوفاء.
وحفرت إسمها في ذاكرتنا الجماعية كشهيدة للحرية والكرامة،انتصبت كالجلمود مناضلة، وسقطت شهيدة دفاعا عن الكرامة،متصدية للظلم والاستبداد، مجردة من أي سلاح ما عدا حلمها بغد أفضل.استشهدت سعيدة من أجل مغرب جديد، مغرب المغاربة الأحرار
…من اجل شعب تواق الى الحرية الفعلية والديمقراطية الحقة والمساواة والعيش الكريم…
نختم هده الآهات بإحدى القصائد التي جادت به قريحتها الشعرية يوم 26 شتنبر 1977قبل استشهادها بأسبوعين.

“حلم في واضح النهار”

“هل تعلمين يا صغيرتي
لقد كتبت لك قصيدة
لكن لا تعاتبينني
ان انا كتبتها بهذه اللغة
التي لا تفهمينها
لا باس يا صغيرتي
عندما تكبرين
ستفهمين ذلك الحلم
الذي رايته في وضح النهار
وستحكين بدورك
قصة تلك المراة العربية السجينة
في وطنها
عربية حتى شعرها الابيض
وعيناها المخضرتين
يبدا الحلم يا صغيرتي
عندما ارى حمامة
والطيور التي تبني أعشاشها
فوق سطوح السجون
انني احلم ببعث رسالة الى ثوار فلسطين
لا عبر لهم عن مساندتي
وحتمية النصر
احلم بان لي اجنحة
كالحمام
كالخطاطيف
أعبر الاجواء
في طريقي الى اريتيريا
الى ظفار
اليدان محملتان بالسلاح
والاس بالاشعار
اريد ان اكون مسافرة
على ظهر السحاب
ببدلتي الحربية
فاقاوم “بينوتشي”
في ادغال الشيلي
التي تغنى بها نيرودا
اه يا حلمي
ارى افريقيا حمراء
ولم يبقى فيها اطفال جياع
احلم بان القمر سيسقط من اعلاه
(لينزع من العدو)
احلم بالقمر سينزلني في فلسطين
انني اناضل من اجل نصرة
كل الشعوب المكافحة.’
*المجد والخلود للشهيدة سعيدة المنبهي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube