فضاء الأكادميينمستجدات

ألمعية لعمامرة بين صناعة العداء وانتحار الدبلوماسية!


د. محمد الشرقاوي
أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة


بجرّة قلم مستسلمةٍ إلى منطق القطيعة في منطقة جوار متداخل تاريخيا وجيوستراتيجيا، يقول وزير خارجية الجزائر رمتان لعمامرة “قررت الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المغربية ابتداء من اليوم (14 أغسطس)”. ويعزو هذا القرار إلى تسعة تبريرات تتراكم فوق بعضها بفعل وتيرة الانطباعات السلبية المتوالدَة في شيطنة الجار المغرب، وتتعقب ثمانية وخمسين عاما من علاقات جوار متقلب الأطوار بداية بتداعيات حرب الرمال عام 1963، ولوم مندوب المغرب في الأمم المتحدة عمر هلال على “انحراف خطير جدا وغير مسؤول” بسبب حديثه عن “حق تقرير المصير لشعب القبائل الشجاع”. وثمة مآخذ أخرى من أهمها انزعاج الجزائر  مما تعتبره “تعاونا بارزا وموثقا” بين المغرب ومنظمتي “ماك” و”رشاد”، وقناعتها بحدوث “عمليات تجسّس كثيفة تعرض لها مواطنون ومسؤولون جزائريون من قبل الأجهزة الاستخباراتية المغربية” من خلال استخدام تكنولوجيا بيغاسوس الإسرائيلية”، ونهاية بإسقاط شبح “مؤامرة إسرائيلية مغربية” بما أسماه السيد لعمامرة “قيام السلطات المغربية بمنح موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية في المنطقة المغاربية وتحريض ممثلها على الإدلاء بتصريحات كاذبة وكيدية ضد دولة جارة”، كناية عن تلويح وزير خارجية إسرائيل يائير لابيد بوجود “تعاون جزائري إيراني” خلال تصريح أدلى به في المغرب.
تسعةُ محاورَ تبريريةٍ اجتمعت في تصريح لعمامرة وفق مقولة “ما أفاض الكأس”، وذلك بمنطق انتقائي متدرج في تركيب السببية الكبرى meta-causality لإعلان القطيعة بين الجزائر والمغرب صيف هذا العام. وتبدو بمثابة “كاتالوج” جديد لأصناف قديمة وأخرى مستحدثة لهذه السببية المركّبة بالجملة من أجل عزلة دبلوماسية قد تتجاوز في حدّتها، حسب تقديرات بعض النخب العسكرية والأمنية في الجزائر العاصمة على ما يبدو، ما انطوت عليه القطيعة التاريخية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، أو ديناميات حرب باردة إقليمية مسكوت عنها، أو ما يستدعي إقامة منطقة منزوعة السلاح في المستقبل.
أنثروبولوجيا العداء على خلاف منطق الأزمات الطارئة على العلاقات بين الدول، إن فشلت الدبلوماسية أحيانا في احتوائها مسبقا أو حلّها، لا يستقي القرار الجزائري مرجعيتَه من حدث مسبّب رئيسي أو ما يعرف بالحدث الزناد trigger event، ولا يجسد راهنيةَ الخلاف مع الجيران في مسألة رئيسية بعينها، على خلاف قرار المغرب قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر في السابع من مارس 1976 والذي عزته الرباط إلى اعتراف الجزائر بقيام “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” التي أعلنتها جبهة البوليساريو. وبين 1976 و 2021، يتكرر الموقف الذي ينمّ عن خلاصات انطباعية وتشبّع بصناعة العداء من قبل الطرف الآخر. 
يستند الموقف الجزائري اليوم إلى أنثروبولوجيا العداء القديم الجديد وإعادة هندسته وتسويقه أكثر من واقع الخلافات الراهنة بين الجارين. وغدا ما حدث خلال حرب الرمال بمثابة خميرة سياسية يتم استجلابها الآن بعد قرابة ستين عاما تحت وطأة ماضوية جامدة لا يعمل بها منطق العلاقات الدولية المعاصرة. ولم يعد تطور الفكر السياسي يجتر تركة أزمات ولّت أو يتخندق داخل معلبات سرديات تاريخية. ومن أهم الأمثلة في هذا السياق أن القاذفات الألمانية كانت تدكّ مباني باريس خلال الحرب العالمية الثانية فيما وجد الجنرال شارل ديغول ملاذا آمنا لدى ونستن تشرشل في لندن. وفي عام 1963، وقف الجنرال ديغول جنبا إلى جنب مع المستشار الألماني كونراد أديناور لتوقيع معاهدة الإليزيه، وانطلقت الدولتان في ريادة المجموعة الاقتصادية الأوروبية قبل تأسيس الاتحاد الأوروبي عام 1993. ولم تعد مآسي الحرب القديمة تتحكم في تصورات الطبقة السياسية أو العسكرية لا في باريس ولا في برلين، ولا حتى في سرديات الإعلام المحافظ في البلدين.
هي خميرةُ عداءٍ متوارثٍ يحتفظ بها المطبخ السياسي في الجزائر جيلا بعد جيل. وهي في بعدها السيكولوجي العام تكريسٌ مقصود للصدمة المختارة chosen trauma في تمديدها عبر الزمان والمكان وتوظيف السببية الجاهزة على الرف، أو كما قال لعمامرة عن حرب “خلفت ما لا يقل عن 850 شهيدا جزائريا ضحوا بحياتهم من أجل الحفاظ على السلامة الترابية لوطنهم الذي ساهموا قبل ذلك في تحريره.” 
هي صدمة مختارة توازي في رمادية الشعور الجماعي الذي تتوارثه الأجيال المغربية ما تثيره ذكرى “المسيرة الكحلا”، عندما طردت السلطات الجزائرية 350 ألف مغربي وجزائري من أصول مغربية من أراضيها صبيحة عيد الأضحى يوم الثامن عشر من ديسمبر 1975. 
يتجاهل قرار الجزائر القطيعة مع المغرب اليوم بشكل جارف حقب الانفراج والتعاون بين الجارين، كما كان الحال في فبراير 1989 عندما حضر الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد إلى مراكش، إلى جانب معمر القذافي وزين العابدين بن علي وأحمد الطايع، للتوقيع على اتفاقية قيام الاتحاد المغاربي مع الملك الحسن الثاني، وإن خيم الصراع على الصحراء وقتها بظلاله على العلاقات بين الرباط والجزائر العاصمة.

 

عندما لا يحضر لعمامرة في عباءة وزير الخارجية!


يغيب النَّفَس الدبلوماسي الاحترافي، وتحضر النزعة الانفعالية المشبعة بالصور النمطية السلبية في تركيب ملامح “شيطان مغربي”، وكيف تصبح الانطباعات المسمومة قائدة الأزمات، في تصريح مطّول لم يكن بصياغة السيد لعمامرة ولا من بناة أفكاره، ولا تتماهى تركيبته اللغوية والدلالية مع القاموس السياسي التي ينطلق منه عادة في تصريحاته في أديس أبابا أو القاهرة أو واشنطن أو في محافل دبلوماسية أخرى.
تتجلّى المفارقة الضمنية الأخرى في أن هذا القرار غير الدبلوماسي بقطع علاقات الجوار لا ينبؤ حقيقة عن أسلوب هذا الدبلوماسي المتمرس منذ أربعين عاما. فقد كان سفير بلاده لدى إثيوبيا وجيبوتي ومنظمة الوحدة الأفريقية في الثمانينات، ورئيسا لمجلس أمناء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فمندوبا إلى الأمم المتحدة، وسفيرا لدى الولايات المتحدة في التسعينات، قبل أن تولّى منصب مفوض الاتحاد الأفريقي لشؤون الأمن والسلم. وقد فاتحه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قبل قرابة عامين بشأن تعيينه مبعوثا شخصيا له إلى الأزمة الليبية لولا معارضة الولايات المتحدة.
هو بكل المقاييس دبلوماسي متشبع بفلسفة الدبلوماسية الجادة في سعيها لاحتواء التحديات وتمسكها بإحداث تغيير إيجابي ونهج عملي في إدارة العلاقات بين الدول والشعوب. والدبلوماسي المحترف عادة لا يقبل أن يركن إلى فكرة سدّ الجسور، أو الجموح إلى صدّ الأبواب، أو ينحني أمام العواصف السياسية العاتية، أو يقنع بفرضية “هذا ما كان بالإمكان”. ولا يقبل الدبلوماسيون المتمرسون أن تتحكم فيهم مزاجية القطيعة ورمي المفاتيح، بقدر ما تزداد لديهم النشوة والتصميم على الإمساك بالثور من قرنيه، وتأكيد أنهم فرسان المصارعة الدبلوماسية في الميدان، والتوصل إلى تركيب حلول محتملة، وتصريف الأزمات، وتحديد مخارج لها، على فرضية أن العمل الدبلوماسي علم وفن ومجال للابتكار في آن واحد. فقد وصف أوتو فون بسمارك، المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية عام 1871، الدبلوماسية بأنها “التفاوض اللامتناهي على التنازلات المتبادلة بين الدول.”
يبدو أن لعمامرة الذي يقبل الانطواء ومجاراة قرار قطع العلاقات مع المغرب حاليا لا يمت بصلة للعمامرة الآخر الذي كان قبل أسابيع قليلة رجل الدبلوماسية المكوكية بين أديس أبابا والخرطوم والقاهرة في مسعى حثيث لتسوية النزاع حول سد النهضة ومصير مياه النيل التي تروي عطش الأراضي الزراعية ومولدات الكهرباء في عشر دول أفريقية. لقد حضر وزير الخارجية أمام الكاميرات لإلقاء القرار الرسمي بحكم دواعي المنصب، ولم يظهر لعمامرة الدبلوماسي الحقيقي الولوع بإدارة الأزمات وتحوير النزاعات. وجاء مشهد المؤتمر الصحفي من حبكة ما دار خلال الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن لمناقشة “إعادة النظر” في العلاقات بين الجزائر والمغرب بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون.


من يتحكم في المثلث الجديد؟


هي ثمانية أشهر عجاف تمادت في إضفاء مسحة سوداوية على العلاقات الجزائرية المغربية بين توقيع الاتفاق الثلاثي بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة، بعد موافقة الرباط على مقايضة التطبيع مع إسرائيل مقابل اعتراف الرئيس ترمب بمغربية الصحراء في ديسمبر الماضي، وقرار المجلس الأعلى للأمن قطع العلاقات مع المغرب في أغسطس الحالي.
بدأت كرة الثلج تتدحرج بفعل سردية أن الجزائر أصبحت عرضة ل”مؤامرة خارجية” تحاك على حدودها في الثاني عشر من ديسمبر الماضي ضمن تصريح رئيس وزراء الجزائر آنذاك. وكبرت تدريجيا إلى خطاب رسمي يستحضر شبح الخطر الإسرائيلي على دولة لا تزال تعد من دول المواجهة بعد مشاركتها في حربي 1967 و1973. وتزداد القناعة في مخيلة جل القيادات العسكرية والأمنية بوجود “عدو أزلي” في الجوار، وإن تعهد الملك محمد السادس بأن “ما يمسّ أمن الجزائر يمس أمن المغرب، والعكس صحيح”، وأن “الحدود المفتوحة، هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين”، في قبل خطابه قبل ثلاثة أسابيع من إعلان القرار الجزائري.
ثمة مفارقة تظلّ مغيّبة حتى الآن وهي أن كلا من الجزائر والرباط فقدت القدرة على التحكم في إدارة العلاقات الثنائية بينهما هذا العام بسبب استحضار الدور الإسرائيلي في تقديرات المسؤولين الجزائريين إلى حد الجزم بأن “المملكة المغربية جعلت من ترابها الوطني قاعدة خلفية ورأس حربة لتخطيط وتنظيم ودعم سلسلة من الاعتداءات الخطيرة والممنهجة ضد الجزائر.”
هو ميزانٌ مكسورٌ  بوجود كفتين لا تتقابلان، وفشلٌ غير معلن في التواصل المنشود والتفاعل وجها لوجه الذي ينبغي أن يكون خلال حقبة التصعيد بين أطراف الأزمة. فهذه جزائر تلوّح بأن “آخر هذه الأعمال العدائية تمثل في الاتهامات الباطلة والتهديدات الضمنية التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي خلال زيارته الرسمية للمغرب، بحضور نظيره المغربي، الذي من الواضح أنه كان المحرض الرئيسي لمثل هذه التصريحات غير المبررة.” وهذا مغرب يتعهد لأشقائه في الجزائر “بأن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن یأتيکم منه أي خطر أو تهديد لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا.”
تتعطّل مَلَكَة الحوار والإنصات بين الجزائر والرباط، ويتراجع مستوى الثقة في الآخر، وتغلب صناعة العداء المتخيّل على يقينية الجزائريين بمواقف المغاربة وثقة المغاربة بجيرانهم الجزائريين. فتخرج العلاقات الجزائرية المغربية من وضعها الطبيعي لقرون، وتحيد عن ثنائية التقابل واحتواء المواقف. فتصبح لعنة نتنياهو وكوشنير وشبح الطرف الغائب في تل أبيب هما اللذان يتحكمان في تعميق فجوة التنافر بين الجارين. هكذا تنتحر الدبلوماسية وتلطم الجيوستراتيجيا المغاربية بعد أن فقدت قدرة التحكم الذاتي في حاضرها ومستقبلها بكل أسف.


معضلة التفكير الجماعي المتطابق



خلال اجتماع المجلس الأعلى للأمن في الجزائر، تعددت القراءات التأويلية لمآل التقارب المغربي الإسرائيلي أمنيًا واستخباراتيا واستراتيجيا. وحاولت بعض الأصوات تضخيم الخطر المتخيل وليس الواقعي بالضرورة، وكأن الجزائر أصبحت وسط كماشة شرقها إسرائيل وغربها المغرب. وتحوّل النقاش إلى مزايدات انطباعية وانفعالية في أغلبها في “شيطنة” المغرب وترديد صدى “المؤامرة”. وكما هو الحال عند انغماس أي طرف من أطراف النزاع في التفكير العدائي، يميل ميزان الأحكام المعيارية نحو استعراض “مكارمنا ومحاسن سلوكنا” مقابل التلويح ب”خطاياهم ورذائلهم” ضمن معادلة “الذات الملائكية” ضد “الآخر الشيطاني” بإنتاج سرديات الاختلاف المتخيلة كإسقاطات تلقائية على ميزان العداء والتقابل غير المتوازن.
يلاحظ عدد من علماء النفس الاجتماعي وفض الصراعات وجود قرينة بين إنتاج العداء وتعزيز تماسك المجموعة خاصة في حقب التحديات الداخلية. فأوضح سيغموند فرويد في ورقته الشهيرة ، “لماذا الحرب”، لألبرت أينشتاين أنه من أجل تماسك المجتمع، فإن تحديد المجموعة الخارجية أمر بالغ الأهمية. ويجادل فرويد بأنه يمكن لأعضاء المجموعة إزاحة عدوانيتهم​، وبذلك، فإنهم يحرفون الدوافع المدمرة التي كانت موجهة في الأصل نحو أعضاء مجموعتهم إلى الخارج.”
يمكن وضع مرايا متقابلة لمعرفة كيف تتوالد السرديات والصور النمطية السلبية على هذا المنوال بين كافة أطراف الصراع. فثمة أناشيد وبسملات أيديولوجية متكرّرة تنفخ في استعراض القومية بأزياء ومساحيق وطنية وسرديات براقة مثل “نوايا المراركة” وضرورة تعزيز “الجبهة الداخلية” في مواجهة “المؤامرة الخارجية”، وبقية ما يلهي عن مواجهة أسئلة النقد وتحديات المرحلة، ويلهم الأنَفَة الجماعية المنفوخة بشعارات الوحدة المفترضة وترديد صدى الخطاب الواحد والنشيد الواحد في سباق “أنا الوطني الأكبر”. هكذا يعم التفكير الجماعي المتطابق groupthink كإجماع في الرأي في حضرة الرئيس تبون، ويتحوّل الشعور الجماعي إلى نشوة مشتركة بنفحة الروح الوطنية. هي صناعة العداء مغرية ومعدية في شيطنة “المراركة” دون نقد ذاتي أو مراجعة متريثة، قبل أن يأتي دور لعمامرة لاستعراضها في طقوس دبلوماسية رسمية.
تظل نقاشات المجلس هي الأصل في صناعة العداء، وتغدو الوزارة هي الفرع في تقديمه إلى الرأي العام الخارجي والداخلي. ومن حيث يدري أو لا يدري، يتحتم على السيد لعمامرة أن يكون لاعبا ضمن منظومة متراصة من الأدوات الأيديولوجية لدى النخبة العسكرية في صناعة العداء باعتبار أن الأيديولوجيا “لا يمكن أن توجد إلا من خلال وسيط مادي، هو المؤسسة أو الجهاز، ولا تنتج إلا عبر فعاليات وآليات وتقنيات هذا الوسيط”، كما يقول لوي ألتوسير.
ما بين اجتماع المجلس الأعلى للأمن وتصريح لعمامرة، تعاظمٌ غيرُ محسوب في التفكير الجماعي المتطابق، واحتراسٌ من الخروج عن الملّة الوطنية، ونفخٌ في قِربة المؤامرة دون روية سياسية. وقد تهدأ موجة الانفعالية بعد أشهر أو سنوات، وتولد قناعة جديدة بأن الاتكال على عداء متخيل وإسقاطات انطباعية على الجيران كان انسياقا مع موجة التصعيد من أجل القطيعة الدبلوماسية، وإدارة أزمة بأخرى. وهذه بدعة متداولة في سير العلاقات الجزائرية المغربية. 
لكن يستدعي تحليل هذه الأزمة الدبلوماسية الجديدة تفكيك بعض روافدها أيضا ضمن سلوكيات الطرف الأخر المغرب، بحكم جدلية الخلافات المتكررة وتشابه ديناميات النزاع مع  قوانين الفيزياء. وكما قال إسحاق نيوتن ذات يوم: “لكل فعل ردة فعل في الاتجاه المعاكس”. 
ألمعية بوريطة بين مناورة نيويورك وترك العنان لتصريحات لابيد  
عندما تتزايد المؤشرات على تدهور العلاقات بين الدول، تزداد الحساسيات السياسية والتأويلات التي تنال من مستوى الثقة بين الطرفين أو الأطراف. وتصبح احتمالات التصعيد واردة أكثر مما كانت عليه خلال فترات العلاقات العادية. ولا يبدو أن وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة وضع حسابات الأشهر الثمانية العجاف الأخيرة ضمن تقدير الموقف إزاء الجزائر إقليميًا ودوليا، وذلك في اتجاهين اثنين:
أولهما، تخطيط مناورة لإحراج الجزائر في الأمم المتحدة عندما قدم مندوب المغرب ورقة إلى أعضاء حركة عدم الانحياز يدعوهم لمعالجة ما وصفه بـ “تصفية الاستعمار في منطقة القبائل” في الجزائر و “تقرير المصير للشعب القبائلي”، فيما وصف منطقة القبائل بأنها “خاضعة للاستعمار الجزائري”.   قد تكون هذه الخطوة في تقديرات البعض في الرباط “ورقة واعدة” أو “مناورة ذكية”، أو “رد الصاع صاعين” بورقة القبائل إلى الجزائر  بسبب دعمها لجبهة البوليساريو. لكنها كانت زلة بكل المقاييس الدبلوماسية وسوء تقدير خاصة وأن مناورة نيويورك جاءت بين حدثين يدفعان في الاتجاه المعاكس: دعوة الملك محمد السادس لمبادرة الحوار مع الجزائر في نوفمبر 2018، والدعوة لفتح الحدود دون شروط في خطابه في 31 يوليو 2021.
لا يستقيم المنطق في دبلوماسية بوريطة بين إرادة ملك يودّ مدّ يد المصافحة والحوار مع الجيران الجزائريين ومسعى سفير من خلف الأطلسي لأن يحاجج سبعا وسبعين دولة في حركة عدم الانحياز ضد قناعة الجزائريين بوحدة سيادتهم. وقد يحاول رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني لاحقا التقليل من الأهمية السياسية لما لوّح به السفير هلال بأنه “ليس موقفا سياسيا للدولة المغربية”، أو أنه كان مجرد “ردّ فعل حجاجي على الجزائر”. وبغض النظر عن أي اجتهادات من هذا القبيل، لا يمكن التقليل من رمزية ما قدمه السيد هلال، ولا يستوي منطق الدبلوماسية المغربية بوجود قوتين تدفعان في اتجاهات متعارضة.
ثانيهما، يتكرر سوء التقدير في أداء الدبلوماسية المغربية مجددا عند استقبال وزير خارجية إسرائيل مائير لابيد دون وضع حسابات دقيقة لتصريحاته وتداعياتها من الناحية الرمزية والسياسية، وعدم رسم حد فاصل بين ما هو منفصل يخص إسرائيل وحدها، وما هو مشترك بين توجهات المغرب وإسرائيل. فجاء تصريح لابيد داخل المغرب مثيرا في دلالته الضمنية وقابلا لقراءات متباعدة، خاصة عندما قال “نحن نتشارك بعض القلق بشأن دور الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربا من إيران، وهي تقوم حاليا بشن حملة ضد قبول إسرائيل في الاتحاد الافريقي بصفة مراقب.”
هي عبارة تنم عن ضرب إيران والجزائر التي تعترض على وجود مندوب إسرائيلي في مقر الاتحاد الأفريقي بحجرة واحدة واستغلال السياق السياسي والجغرافي المغربي للترويج لها علنا. وزادت عبارة “نتشارك بعض القلق…” في تباين التأويلات حول وجود تنسيق مسبق بين بوريطة ولابيد، أو وجود قرينة متسقة في موقفي إسرائيل والمغرب. فراج استنتاجٌ في الجزائر العاصمة بأن “بوريطة هو من وجه لابيد إلى استخدام هذه العبارة”، وأن هناك نية مكتومة لديه في “جرّ حليفه الشرق أوروسطي الجديد في مغامرة خطيرة موجهة ضد الجزائر وقيمها ومواقفها المبدئية”، كما في جاء في نص البيان الذي ألقاها رمتان لعمامرة والذي قال “تجب الاشارة إلى أنه منذ عام 1948 لم يُسمع أي عضو في ‘حكومة إسرائيلية’ يصدر أحكامًا أو يوجه شخصيا رسائل عدوانية من أراضي دولة عربية ضد دولة عربية أخرى مجاورة”.”
ساهم السيد بوريطة، من حيث يدري أو لا يدري، في تأجيج نظرية المؤامرة بغض النظر عن مدى تخيلها أو واقعيتها في أذهان الجزائريين. ولم يبادر إلى إصدار توضيح حتى لا يتم إسقاط الموقف الإسرائيلي الراهن على الموقف المغربي جزافا. ويدرك بوريطة جيدا أن جل المغاربة لا يقبلون أن تدور السياسة الإقليمية لبلادهم في فلك مصالح حكومة بينيت، ويعارضون بشدة أسْرَلَة (من إسرائيل) إدارة العلاقات بين المغرب والجزائر. 
تعاقبت حكومات مغربية متعددة خلف الراحل الحسن الثاني على درجات متفاوتة من الاقتراب أو الابتعاد من إسرائيل، خاصة بعد الزيارة السرية لشمعون بيريز إلى إيفران عام 1985. لكن هذه الحكومات ظلت متمسكة بخياراتها الاستراتيجية، وحافظ الحسن الثاني على أهمية الدور المغربي إزاء النزاع العربي الإسرائيلي وتضامنه وتأييده لحقوق الفلسطينيين.
لكن دبلوماسية بوريطة اليوم لا تستطيع بلورة هذا الدور، بقدر ما سلّمت بالأمر الواقع وكأن إسرائيل أصبحت وصية على إدارة العلاقات المغربية الجزائرية، وهي توزع مذكرات الاتهام في قلب المغرب إلى الجزائر وإيران. هو تجسيد لعدم قدرة دبلوماسية الرباط على الفعل الاستراتيجي المستقل، بعد أن اعتقدت أن اتفاق أبراهام والتقارب من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وبسملة مائير بن شبات “الله يبارك في عمر سيدي” سيصنعون انتصارات متخيلة للدبلوماسية المغربية بعد إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب نيته الاعتراف بأن الصحراء جزء من السيادة المغربية، ويغير موازين القوة في هذا الاتجاه داخل مجلس الأمن.
ما بعد الأزمة؟   يتم إغلاق السفارتين المغربية في الجزائر والجزائرية في الرباط، ويغادر أعضاء البعثات الدبلوماسية باستثناء موظفي عدد من القنصليات في البلدين. ويستبشر بعض المراقبين بمشروع وساطة سعودية لرأب الصدع بين الجارين. لكن هذا الأمل لا يلغي حقيقة أنها فترة احتضار للفكرة المغاربية والمشروع المغاربي الذي يعايش للعام الثاني والثلاثين مفارقة الخسائر الحاضرة والمكاسب الغائبة كما قلت في ندوات سابقة.
تزداد تحديات هذا المشروع المغاربي بفعل الموجة الجديدة في إنتاج العداء والمؤامرات المتخيلة، والطموحات الإسرائيلية، فضلا عن التنافس التاريخي حول من يقود أي وحدة مغاربية محتملة. ولا يمكن التقليل من دلالة الحاجز النفسي والسياسي بين النخب العسكرية والأمنية في الجزائر والرباط في هذه المرحلة، مما يقلص من فرص العودة إلى الانفراج والتوافقات الممكنة.
مما يعزز هذه الخشية لديّ أن تدخل العلاقات الجزائرية المغربية طوعيا أو يتم إقحامها داخل مثلث تكون إسرائيل أحد أضلاعه والتسليم بهذا الوضع. وقد كشفت هذه الأزمة الجديدة أن مجرى هذه العلاقات أصبح مجرد متغير تابع dependent variable بموازاة مصالح إسرائيل التي غدت المتغير المستقل independent variable.
لا يجادل إثنان في أن كل وساطة خارجية وكل دعوة للتقارب محبذة في هذه الأيام بعد الأزمة الدبلوماسية. لكن الأهم أن تعي النخب العسكرية والسياسية وأصحاب القرار في العاصمتين أن التنافر وإبقاء قنوات الاتصال مغلقة لن يفيدان أي طرف في المحصلة النهائية، بل سيعمقان الفجوة بشكل جزافي. وكما يقول هارولد نيكولسون في كتابه “الدبلوماسية”، إنّ “الدبلوماسية ليست اختراعًا ولا هواية لنظام سياسي معين، ولكنها عنصر أساسي في أي علاقة معقولة بين الإنسان والإنسان وبين الأمة والأمة.”
تقتضي الحكمة المغاربية فوق كل اعتبار استحضار عدد من الشخصيات الوطنية في البلدين، وتشكيل لجنة وسطاء جزائريين ومغاربة من أجل تنقية التصورات المتبادلة بين العاصمتين من الشوائب التي شجعت على العداء المتخيل والمؤامرات غير الواقعية. ويكون تصحيح هذه التصورات والانطباعات خطوة أولى نحو تجاوز الصور النمطية المتداولة في شيطنة الآخر، واكتشاف الفروق بين المتخيل والواقعي، قبل ترميم العلاقات والعودة بها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube