شخصياتمستجدات

محمد سبيلا.. متابعة لمساره الحياتي والفكري من المهد إلى اللحد

أحمد رباص – حرة بريس

تعرفت على الراحل محمد سبيلا، أول ما تعرفت عليه، أستاذا للفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط عندما كنت طالبا في نفس الشعبة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. لا زلت اذكر تلك الحصص التي كنت اجلس أثناءها أمام هذا الأستاذ المبجل المتحدر أصله وفصله من مدينة فلاحية صغيرة اسمها الكارة لأستمع إليه وهو يحدثنا عن مفهوم الإديولوجيا وكيف نشأ وتطور وذاع صيته رغم أحابيله وتناقضاته.
وفي هذا المقال الذي فيه شيء من النعي والمناحة نظرا لألم الفراق وحسرة الفقدان، أقترح البدء بإدراج شهادة عبد الرحيم العطري، الباحث في السوسيولوجيا، في حق أستاذه الذي غيبه فيروس كورونا الشرير صباح يومنا هذا.
يقول عبد الرحيم العطري في آخر تدوينة نشرها بعيد انتشار خبر وفاة مفكرنا المرموق فوق أحد أسرة مستشفى الشيخ زايد بالرباط:
“هو الموت الفيزيقي لا غير، الذي يغيب الجسد وحسب، أما الفكر/الأثر فحي لا يموت. تلك هي حكمة البقاء للأثر. أي نعم الفراق صعب وقاس، خصوصا عندما تكون للأستاذ أياد بيضاء على الكثير من طلبته ومحبيه، وأنا واحد منهم. فما كنت سأدلف إلى عالم الكتابة لولا الفيلسوف محمد سبيلا الذي قدم لي كتابي البكر “دفاعا عن السوسيولوجيا”، لقد فتح لي باب بيته، وأشركني في كثير من المشاريع العلمية آخرها “موسوعة المفاهيم الأساسية” الصادرة عن دار المتوسط بإيطاليا.”
في تقديم لحوار أجراه مع سبيلا كتب العطري يقول عن أستاذ الأجيال أن الأخير منارة بارزة في المشهد الثقافي المغربي؛ إذ ارتبط اسمه بالبحث العميق في سؤال الحداثة والحاجة إلى الفلسفة، ناهيك عن كونه “عاشقا للشغب الفكري، راغبا أبدا في النقد والمساءلة، لا يركن إلى الجاهز من الأفكار والطروحات، ويدعو دائما إلى خلخلة ومداعبة المفكر واللامفكر فيه”.
كان المرحوم محمد سبيلا محاضرا دؤوبا ديدنه تفكيك مغهومي الحداثة وما بعد الحداثة، ودعوة تلامذته إلى التسلح بالسؤال والاستعانة بزاد المطالعة لاستكمال مشوار البحث والتنقيب . يشهد على ما اقول محمد الشيخ، محمد الشيكر، عبد اللطيف بوجملة، محمد الغيلاني، نوح الهرموزي، وغيرهم ممن وقفوا عن قرب على فكره وطريقته في الحياة.
يشهد له تاريخ المغرب الحديث أنه كان مؤطرا ومكونا لجمهرة من الباحثين، الذين شاركهم أحلامه ووضع أمامهم على طبق من ذهب ثمار مشروعه الفكري الباذخ، التي تجلت في أعمال كرسته مفكرا عميقا ومبدعا ألمعيا.
كان محمد سبيلا، قيد حياته، مثقفا فاعلا، آل على نفسه، من خلال دروسه وكتاباته، الرفع من شأن الفلسفة في بلد انطوى تاريخه على عداء راسخ حيالها بفعل طغيان السياسة المقدسة وجبروت خدامها من الفقهاء المتزمتين.
لم يدخر جهدا ولا فوت مناسبة دون أن يؤكد على الأهمية القصوى للفلسفة كحاضنة للقيم الإنسانية الرفيعة وكآلية لتحرير الإنسان من الخرافات والأحكام المسبقة المشوشة على قراءة الواقع في حقيقته الجوهرية ومظهريته الزائفة، كما قال عنه وزير الخارجية الأسبق، محمد بن عيسى، في شهادة أدلى بها بمناسبة تكريمه في منتدى أصيلة الثقافي.
لا أحد من نخبتنا المثقفة يغامر بإنكار كون فقيدنا من القلائل النادرين الذين ناصبوا العداء للأفكار المحنطة والجاهزة لتضليل العقول لغرض في نفس يعقوب ، ومارسوا دون خوف أو تردد شغبهم الفكري.
ويعد سبيلا بحق واحدا من رجالات الفكر في المغرب، الذين عملوا باستماتة طوال حياتهم على تحقيق مشاريع فكرية تنطوي على تصورات بديلة عن المجتمع المؤهل في نظرهم لاحتلال مكان لائق تحت الشمس.
نقرأ في بطاقة سبيلا التقنية المنشورة في موسوعة ويكيبيديا
أنه رأى النور سنة 1942م بالدار البيضاء، وتابع دراسته بكل من جامعة محمد الخامس/كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ثم انتقل إلى جامعة السوربون بباريس، فحصل سنة 1967م على الإجازة في الفلسفة وفي نفس السنة التحق محمد سبيلا باتحاد كتاب المغرب. وفي سنة 1974م حصل على دبلوم الدراسات العليا، ونال دكتوراه الدولة سنة 1992م بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
مارس سبيلا تدريس الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وشغل بين عامي 1972 و1980 منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس في كلية الآداب بفاس.
سيتولى سبيلا بين عامي 1994 و2006 مهمة رئاسة الجمعية المغربية للفلسفة، كما سيدير مجلة “مدارات فلسفية” في أعدادها الثمانية عشرة الأولى.
بموازة ذلك، كانت وتيرة منشوراته سريعة ودينامية نشاطه عجيبة، حيث عرف عنه إسهامه يمقالات ودراسات في صحف ومجلات مغربية وعربية، نذكر منها “الاتحاد الاشتراكي” و”أقلام” و”الفكر العربي المعاصر” و”المستقبل العربي”.
أما في مجال البحث الفلسفي الصرف، فقد نشرت له تباعا وبفارق زمني زهيد كتب توزعت ما بين البحث الفكري والفلسفي والترجمة، مع ملاحظة مفادها أنه اولى عناية قصوى لسؤالي الحداثة وما بعد الحداثة.
ضمن هذا الزخم، أفرز لنا حصاد المطابع عدة كتب، أهمها “مدارات الحداثة”، و”الحداثة وما بعد الحداثة”، و”الأصولية والحداثة”، و”للسياسة بالسياسة”، و”في الشرط الفلسفي المعاصر”، و”في تحولات المجتمع المغربي”.
أما في مجال الترجمة، فقد اشتغل على كتاب “التقنية-الحقيقة-الوجود” لمارتن هايدغر، وكتاب ”نظام الخطاب” لميشيل فوكو، وكتاب ”الفلسفة بين العلم والإيديولوجيا” لألتوسير، وغيرها من المراجع.
كان سبيلا عضوا في اتحاد كتاب المغرب منذ عام 1967.
كما ألمحت سابقا، أكثر ما اهتم به سبيلا، البحث في سؤال الحداثة وما بعد الحداثة وعلاقته بالواقع المغربي، إضافة إلى مسألتي الدولة المدنية وعقلنة الخطاب الديني.
في المحور الخاص بالحداثة، اعتقد سبيلا أننا في العالم العربي استعرنا منها فقط ذاك المتن المرتبط بالحداثة السياسية، خاصة ما تعلق منه بالانتقال الديمقراطي، في حين أن الانتقال إلى ثقافة الحداثة يظهر صعب المنال؛ والسبب في ذلك من وجهة نظره أن وتيرة الزمن الثقافي بطيئة جدا إذا ما قورنت بوتيرة الزمن التاريخي.
كما حاول فقيدنا التنظير للمجتمعات التي عاشت مخاض ثورات الربيع لتخرج من “إطار التقليد المتزمت ومن الإسلام الحركي العنيف، إلى آفاق إسلام حركي ديمقراطي أو ديمقراطية إسلامية، وهذه خطوة من خطوات التاريخ إذ أننا لا ننتظر قفزات”.
مما لا شك فيه ان القيمة المضافة لابحاث سبيلا واجتهاداته تتمثل في إقامة علاقة متيتة بين التحديث والعقلانية. وعلى حد تعبير المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي، في أن “التحديث بالنسبة له تحديث للشرط الإنساني، وتحديث لوعينا بالتاريخ، وهو ما جعل جهوده تتعرض لأنواع من الحصار والتهميش من قبل حشود القدامى والتيارات الأصولية الجارفة”.
والمؤسف حقا أن سبيلا حمل مشعل الفلسفة، تزامنا مع اندلاع اوار الحرب عليها مع فتح الباب على مصراعيه للتيار الإسلاموي، بداية من ثمانينيات القرن الماضي.
لكنّ أستاذ الفلسفة نور الدين أفاية، ألمح في ندوة سابقة أقيمت احتفاء بمؤلف “الأصولية والحداثة” إلى أنه تمكن من التصدي لهذا التيار من خلال دعوته إلى بناء “ذاتية مغربية مبدعة”.
وفي رأي أفاية، راهن سبيلا على “تأكيد الانتماء إلى زمن العالم، إلى الحداثة، عبر تشجيع الإبداع في مجالات الفلسفة والعلوم الإنسانية، والتفكير في مهام الفكر وأدوار المثقف في مواجهة حشود الفكر الغيبي، وتثمين الفكر الدنيوي في مباحث الجسد والمرأة والروابط الاجتماعية والوطنية وكيفيات نبذ العنف، والتفكير في القضايا المتصلة بالوجود المشترك والقانون والديمقراطية”.
إلى حدود وفاته يوم 20 يوليوز 2021 الناجمة عن إصابته بفيروس كوفيد-19، بقي حريصا على الإسهام من خلال المقالات المنشورة والمقابلات التي خص بها منابر إعلامية في تحليل عثرات الانتقال إلى الحداثة في المغرب، موقعا على مسرى متفرد وغير مسبوق، كله تطلع إلى التغيير، ما أهله لاحتلال منزلة رفيعة ضمن جهابدة الفكر المغربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube