شخصياتمستجدات

محمد المباركي مع غرامشي (18) الدولة والمجتمع المدني والمجتمع السياسي (3)

3 – الدولة المخزنية منذ نهاية الحماية السياسية عام 1956

في الفصل السابق أوضحنا كيف مجمل العوامل المادية الموضوعية والثقافية الشعورية التي أدت الى قيام نمط معين للدولة بالمغرب ونوع سلطتها المخزنية. وهذا منذ نشأة السلطة المخزنية الى نهاية مرحلة الحماية عام 1956. وأبرزنا كيف تم تجاوز الحولية في قيام واندحار الدولة في المنظور الخلدوني، المبني على العصبية كقوة دافعة والدعوة الدينية كعامل ثقافي مؤطر لديمومة الدولة القائمة. مع قيام الدولة المرينيّة عرفت الدولة نمطا جديدا في ممارسة الحكم. وذلك بخلق جهاز اداري عسكري لا يحتكم للعصبية والدعوة. بل لأداة سلطوية تجمع بين تشكيل طبقة أرستقراطية مكونة من العائلة السلطانية وعصبيتها، التي لم تعد قبلية بل أصبحت مصلحية، ومن إدارة / المخزن حول الطبقة الحاكمة، تفرز نخب مؤهلة للالتحاق بالطبقة الارستقراطية / الاقطاعية. الدولة الوطاسيّة جاءت نسخة طبق الأصل للدولة المرينية. لكننا سنجد أنفسنا أمام ظاهرة جديدة زادت في تعقيد نمط السلطة المخزنية مع ظهور ظاهرة الشرفاء والأولياء وشيوخ الزوايا والدراويش بالمفهوم المغربي لا الشرقي، الذين يعتقدون بوجود الجن والعفاريت وغيرها من ظنون الخرافات والتوجس والشعوذة والسحر وما غير ذلك من الكرامات وعلم الغيب وكل ما يخلق الجهل. تطور الدور القيادي لهذه المجموعات في جو من عدم الاستقرار وانخفاض المداخل الفلاحية والمهنية والتجارية، أي كل ما يشكل أساس الإنتاج المادي للدولة في تلك المرحلة التاريخية. جاءت الدولة العلوية في ظروف هذا الوضع المطبوع بالتقهقر الحضاري والمادي، على نفس النسق الفكري الثقافي الذي قامت علية الدولة السعدية. هكذا خلافا للدعوة التي كانت تفرض اجتهادا وحدودا فكرية تسمح بالاجتهاد، حل محلها ولاية السلطان والفقهاء وشيوخ الزوايا وكل من رأى في نفسه، أو رأى فيه الجمهور المسلوب ثقافيا، صفة الوالي المرشد. وكلها عوامل تصب في ثقافة تؤيد وتؤكد ولاية السلطان العظمي. هذا مع المزيد من سلطة الإدارة المخزنية التي لم تعد تخلق –بضم التاء-من الشرائح المرشحة للطبقة الارستقراطية، بل أصبحت هي التي تخلقها وتتحكم في ترشيح السلطان نفسه.

هذه الصورة النمطية، التي بدأت تتلاشي منذ منتف القرن التاسع عشر، سيحييها الاستعمار الفرنسي ويضفي عليها غطاء من الحداثة، عبر سياسة الأصالة والمعاصرة الليوطية، نسبه لأول حاكم الحماية الفرنسية على المغرب. في العمق لم تكن هناك لا حداثة ولا نظارة وكل ما كان هو تثبيت النمط المخزني للدولة المغربية العتيقة.

لذا لما نتحدث على مشاورات ايكس لبان في غشت 1955 والاستقلال السياسي الذي تبعها في 2 مارس 1955، لا نتحدث عن الاستقلال الوطني، لأن أجزاء كبيرة من أرض الوطن بقيت، اما تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية –الصحراء الشرقية، تندوف، كلمبشار، توات وموريتانا – أوالتي ظلت تحت السيطرة الاسبانية – الصحراء الغربية، سيدي افنيو ما جاوره، سبتة وامليلية والجزر الجعفرية-. ما يعني أن مسألة التحرير الترابي لأجزاء من الوطن لازال تحريرها مطروحا بهذا الشكل أو ذاك. بما أنه لا يمكن للتاريخ العودة للوراء والمطالبة ببلاد شنقيط كاملة بما فيها موريتانيا، لكن يمكن التفكير في إعادة الوحدة بين المغرب الحالي وموريتانيا عبر فيديرالية مبنية عللا أسس ثقافية واقتصادية سقلها التاريخ المشترك. فالثوابت التاريخية والثقافية التي تجمع بين الشعبين قائمة، وان اختفت خلال مدة تاريخية جراء عوامل خارجة عن إرادة الشعبين. كما أن هناك قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية بقيت كمظاهر للاحتلال قائمة بعد الاستقلال السياسي.

نؤكد على الاستقلال السياسي كون سيادة القرار، سواء في داخل المناطق المحررة أو خارجها، أصبحت بيد النظام السياسي للدولة المغربية. لكن القضايا الخاصة بالمناطق التي بقيت تحت السيطرة الاستعمارية، وان طرحتها الحركة الوطنية بداية الاستقلال، الا أنها لم تطرحها كمبدأ بدونها لن يتم القبول باستقلال مغشوش. وحيث ان لم تحقق مطالب التحرير كاملة، يتم اللجوء الى المقاومة بكل الأشكال، كما سارت على ذلك الثورة الجزائرية. وهو الأمر الذي كان يطالب به الأمير عبد الكريم الخطابي وجزء من المقاومة وجيش التحرير المغربي. لكن التحالف التكتيكي للحركة الوطنية مع السلطان محمد بن يوسف منذ 1934 انقلب الى تحالف استراتيجي، بنيت عليه كل التوقعات بما فيها الاستقلال السياسي الوطني. انطلاقا من عام 1934 احتضنت الحركة الوطنية الناشأة السلطان محمد الخامس، جاعلة منه رمز السلطة بالبلاد عبر احياء عيد العرش والدعاية له. ثم بعد رفع وثيقة الاستقلال 1944 والتي تطالب أساسا بالإصلاحات الإدارية والاقتصادية الموقعة في معاهدة الحماية والتي تجاوب معها السلطان، خاصة منذ خطابه بطنجة 1947. هكذا ستجعل الحركة الوطنية، التي كانت القوة الممثلة لطموحات مجموع الشعب المغربي، من السلطان محمد الخامس بعد عزله عن العرش في 20 غشت 1953 رمز السيادة الشعبية. ومن وضعت كموقف لا محيدة عنه، رجوعة من المنفي واعتلاء الصولة والصولجان. وهذا كمبتدأ وخبر لأي مفاوضة مع المستعمر الفرنسي، الذي كان في موقع ضعف بعد هزيمته الشنعاء في فتنام، وقيام الثورة الجزائرية والمطالبة بالاستقلال في باقي المستعمرات. هذا علما بالتصدعات السياسية والاقتصادية التي كانت تعاني منها فرنسا. لحد لم تكن حكومات الجهورية الرابعة بها تدوم الا بضعة أشهر.

هكذا يمكن القول، أن رهان الحركة الوطنية المحصنة شعبيا، على السلطان محمد الخامس لحد جعلت منه قديسا خرافيا، توزع صورته وهو فوق فرس يطعن التنّين / وحش الاستعمار ويرديه طريحا. وهي نفس الصورة التي كانت تروجها الكنيسة لتقديس أحد أوليائها، وهو سان جورجأو أحد ملوك الافرنج وهو هانري الرابع. كما أنها نفس الصورة التي كان يروجها الشيعة لتقديس الامام على، وهو يقطع أعضاء رأس الغول. كما أنها، أي الحركة الوطنية، كانت تخيله للعامة في القمر وأن الشمس تبكي عليه عند غروبها وكلها أساطير وخرافات تؤكد نوع الوعي التي كان يتم ترويجه. أساطير وخرافات عايشها كاتب هذه السطور وهو طفل صغير.

في الحين الذي كانت فيه القيادة السياسية للحركة الوطنية، التي كان يهيمن فيها التوجه الاستقلالي المحافظ، تظن أنها المالكة بزمام الأمور وأن تحالفها مع السلطان هو تعاقد لن يفك-بضم الياء-ونعته بالزواج الكاثوليكي، نسيت في حسابها أن الأمور لا تسير بالتمني والنية الحسة، وأن السلطان هو أولا وأخيرا يمثل نظام المخزن، الذي لا يعترف أو يكون ليقتسم السلطة والسيادة مع غيره. ما يعني أن الدولة العميقة، المجسدة في المخزن، ظلت قائمة الذات ومستقلة بقرارها، وان خضعت مرحليا للأمر الواقع نظرا لوجود حركة وطنية قوية في بداية الاستقلال. ان هذا الوضع تغيّر ابتداء من انقلاب القصر بقيادة ولي العهد الحسن الثاني عام 1958 ليتم التحكم في زمام السلطة بشكل مباشر والدخول في سيرورة سياسة أمنية بإقالة حكومة عبد إبراهيم، الممثلة للجناح التقدمي داخل الحركة الوطنية عام 1959. وتم إثرها إقامة حكومة طيعة خاضعة للسلطة المخزنية التي ستحتكم لسياسة أمنية كتوجه مستمر ودائم، عماده حكم استبدادي. وهذا سواء عبر الحكم الفردي المطلق، كما كان الشأن خلال مرة حكم الحسن الثاني. أو بعده، حيث خلال فترة وجيزة، طبعت بانفتاح محدود على المجتمع السياسي والمجتمع المدني الناشئ، عادت دار لقمان بعد حكومة التناوب لحالها.

لم يكن عدد سكان مغرب الاستقلال السياسي عام 1956 يتجاوز عشر ملايين نسمة، أغلبيتهم الساحقة مستقرة بالبادية. وكان عدد الحائزين على الباكالوريا طيلة مدة الحماية لا يتجاوز بعض المئات من الطلبة. هذا كتعبير عن قلة الكوادر الوطنية، مما جعل الإدارة التي كانت بين أيادي الأجانب تستمر على نفس النهج الذي كانت عليه أيام الحماية. ولقد بدأت الحركة الوطنية وخاصة جناحها التقدمي، تخلق مع حلول الاستقلال السياسي، أدوات المجتمع المدني عبر نقابة عمالية قوية، الاتحاد المغربي للشغل. وطلابية بتأسيس الاتحاد الوطني للشغل وجمعيات ثقافية وتنموية مثل ما حدث مع شباب طريق الوحدة ومحاربة الأمية. كما كان هناك استجابة أكيدة لتعميم التعليم وفتح مجال التكوين، لملا الفراغ الذي كانت تعاني منه المؤسسات والإدارة المغربية المستقلة.

كانت هناك نهضة فعلية على مختلف الواجهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بقيادة الجناح التقدمي للحركة الوطنية. ولقد وضعت حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية مشروعا وطنيا متميزا. ضربت العملة المالية باسم الدرهم كاستقلالية نقدية. الأمر الذي لازالت تعاني منه الدول الافريقية التي كانت ترزح تحت نيل الاستعمار الفرنسي. كما وضعت برنامج تنموي عام يسمح للبلاد التحرر من التبعية الاقتصادية والتجارية. وذلك ببناء مصانع الحديد وتركيب السيارات وتحديث المنتوجات المنجمية والفلاحية والبحرية. وكذا الدخول في مغربية الإدارة والعمل على جلاء القواعد العسكرية واسترجاع الأراضي الفلاحية التي استولى عيها المعمرون. أساس هذه السياسة التقدمية كان هو تعميم التعليم ومجانتيه وتحديثه سواء ما خص التعليف التقليدي أو العام. كما كان هناك مشروع عام لتعميم الصحة عبر مجموع المناطق وليس احتكاره في منطقة المغرب النافع. كان هذا هو مشروع الحكومة التقدمية، وهو مشروع تاريخي. وهو عبارة عن ثورة صناعية وتحديثية كما قامت بها اليابان أيام ثورة الميج عام 1870. كان المغرب لو صار في هذا المنحى التحرري الفعلي والتقدمي الفعلي، يابان جديد يوازي إمبراطورية أقصى الشرق. لم يتحقق هذا المشروع الهادف، لأن الثورة التنويرية الضرورية لم تكن حاضرة لدى الحركة الوطنية عند انطلاقتها. كما أنها، أي الحركة الوطنية، بقيت سجينة صراعاتها الداخلية وكل يعتمد على تحالفه مع السلطان غداة الاستقلال السياسي. وهو رهان بيّنت عواقبه أن المنهجية والعقلية المتحكمة في دهن قادتها أنداك، لم تكن في مستوى إدراك المرحلة التاريخية. وهو ما يفسره تفويض مصلحة الشعب لنظام مخزني عتيق.

ان التاريخ التنويري والحقيقي، لا يدرّس في حجرات المدارس والمعاهد التي يراد منها إعادة ثقافة الطبقة المسيطرة، بل عبر التنظيمات والقنوات التنويرية الفعلية. هكذا أتذكر كلمات رجل وطني تقدمي أسمر البشرة نحيف البدن، في لقاء ببناية حركة الميج / حركة تربية الشباب، التي كان من مؤسسيها المناضل السي محمد الحيحي، الذي تعرفت عليه أول مرة بمقرها، بالبطحاء بفاس عام 1962. كان تكلم لنا ونحن أطفال صغار عن أشياء لم نعي مضمونها في الحين. وشاءت الظروف أن نلتقي عشرات السنين بعدها بباريس، بداية تسعينات القرن الفائت. ومن بين ما دار بيننا من حديث خص طريق الوحدة، التي كانت من بين المشاريع التنموية والتنويرية للشباب الغربي والتي توقفت دفعة واحدة. وكدا غيرها من المشاريع مثلها والتي كانت ستعمم عبر البلاد مثل غرس لأشجار وبناء القنوات والطرق والسدود…بحماس شعبي ووعي تنويري. سبب ذلك، أنه خلال حفل عيد العرش لعام 1958، تقدم شباب طريق الوحدة، التي ربطت بين منطقة الشمال التي كانت تحت نير الاستعمار الاسباني والمنطقة التي احتلّها الفرنسيّين، في نظام فريد يرتدون بدلة كاكية وعلى رؤوسهم قبعة خاصة، مما دفع الكولونيل أفقير يقول لولي العهد الحسن الثاني، وهما واقفان بالمنصة الشرفية جنب أريكة الملك محمد الخامس: انظر الى الجيش الشعبي الذي سيقوم بالثورة عليكم. هذه الحادثة لوحدها تفسر كيف سارت الأمور على كل المستويات، علما أنه في تلك السنة، 1958، حصلت الثورة العراقية ضد الملك فيصل الهاشمي، وتسريح باي تونس على يد حزب الدستور بزعامة بورقيبة. وقبلها ببضعة أعوام ثورة الضباط الأحرار التي قضت على النظام الملكي بمصر. كانت المرحلة، مرحلة ثورات تحررية متنوعة، سواء ضد الاستعمار أو الأنظمة الاستبدادية. والغريب في الأمر أن الحركة الوطنية المغربية هي الحركة التحررية الوحيدة في العالم، التي لم تستسلم السلطة بعد استقلال البلاد. ولما استيقظت كان قطار التاريخ قد مر على محطتها وهي نائمة. انها معادلة تاريخية مطروحة ليومنا هذا يلزم حلها. لكن المؤسف والمضنى كون الحركة التقدمية وفي طليعتها اليسار يؤدي الثمن غاليا عبر قوافل الشهداء والمختطفين والمنفيّين والمعتقلين كعنوان لسلطة الاستبداد المخزني.

من الناحية الاقتصادية كقاعدة لخلق طبقة برجوازية وخاصة الكبرى، فان النظام المخزني عبر ثقافته الاحتوائية خلق طبقة طفيلة هشة من السماسرة الرأسماليّين المنضوين تحت ثقافة الاستبداد المخزني. وفي هذه السيرورة المعقدة تم التنازل عن المطلب السياسي الأساسي للحركة الوطنية واليسار في انتخاب مجلس تأسيس يضع دستورا ديمقراطيا من وضع الشعب ولصالح الشعب، وعوض بدستور ممنوح يثبت الاستبداد عبر مؤسسات صورية يضمن ويثبت القبضة الأمنية، التي تضرب بيد من حديد على كل حراك أو مطلب شعبي عبر متابعات واعتقالات ومحاكمات صورة وأحكام خيالية. هذا مع التفنن في خلق اتهامات غريبة لا يتصورها العقل السليم. مثل تلفيق ممارسات جنسية تدل على كبث جنسي لذي العقلية المخزنية الرثة.

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube