محمد بوبكريمستجدات

موريتانيا: الانحياز السلبي ليس حيادا إيجابيا

محمد بوبكري

انعقدت مؤخرا ندوة في موريتانيا شارك فيها مثقفون وسياسيون وباحثون موريتانيون تناولت موضوع الواقع الأمني والاستقرار السياسي والصراعات الجيوسياسية في أفريقيا وقضية الصحراء المغربية، وكان الهدف الأساس من تنظيمها هو السعي إلى تطوير موقف مشترك حول قضية الصحراء المغربية، حيث برز في هذه الندوة تياران : أولهما، يدعو إلى ضرورة تخلي موريتانيا عن الاعتراف بـ “البوليساريو”، والثاني يؤكد على ضرورة استمرار تمسك موريتانيا بالتزام ” الحياد الإيجابي”، وهذا ما فرض على الكثير من المهتمين المغاربة طرح السؤالين التاليين: ما هو مفهوم الحياد الإيجابي؟ وهل ما تدعي موريتانيا من “حياد إيجابي” هو فعلا حياد إيجابي؟
يبدو لمجموعة من المهتمين أن “الحياد الإيجابي” بالمفهوم الموريتاني ليس حيادا إيجابيا، حيث استعملت هذا الدولة الشقيقة هذا المفهوم في عير محله، أو فيما يتعارض معه، لأنها اعترفت بـ”البوليساريو”، ما يعني انحيازها إلى الموقف الجزائري؛ فهذا الاعتراف يعني أنها تنحاز إلى الموقف الجزائري، ما جعل موقفها انحيازا سلبيا، لأن هذا الاعتراف هو انحياز واضح لا يترك أي مجال لـ “الحياد الإيجابي”. ويكاد يجمع كل المهتمين على أن المفهوم السليم لـ “الحياد الإيجابي” هو ذلك الذي تبنته تونس الشقيقة، التي لم تعترف بـ “البوليساريو”، ولكنها لا تدعم رسميا الموقف المغربي.
وإذا رجعنا إلى التاريخ التونسي، وجدنا أن تونس قد التزمت موقف “الحياد الإيجابي” من الصراع المغربي – الجزائري منذ عهد المرحوم “الحبيب بورقيبة” إلى يومنا هذا، حيث لم تعترف بـ “البوليساريو”، ولا تدعم رسميا الموقف المغربي. فعندما انسحبت إسبانيا من الصحراء المغربية، انتبه المرحوم “الحبيب بورقيبة” إلى أن “هواري بومدين” سيكون له موقف مناوئ للمغرب، فسارع إلى إثارة هذا الموضوع معه، فاكتشف أن هذا الأخير متمسك بمنازعة المغرب في سيادته على صحرائه.
لقد كان إخواننا في تونس يدركون جيدا أن الصحراء مغربية، ما جعلهم يعترفون في الكواليس بذلك، لكن منازعة “هواري بومدين” للمغرب في هذا الحق هو ما جعل المرحوم “بورقيبة” يلجأ إلى التزام الحياد الإيجابي”، حيث لم يسبق لتونس أن اعترفت بـ “البوليساريو”، ولا تتجه إلى الاعتراف بها، كما أنها تفادت إثارة حساسية جيرانها حكام الجزائر، الذين كانوا يتربصون بها.
ويمكن تفسير الموقف التونسي بأن تونس كانت آنذاك عضوا في “الاتحاد التونسي-الليبي”، وأرادت الانسحاب منه، فتفادت أن تخلق لنفسها مشكلات مع جارتها الجزائر التي كانت آنذاك قادرة على الإساءة إليها. هكذا، وتجنبا لخلق مشاكل مع جارتها الجزائر، فقد كانت تونس لا تتطرق أبدا إلى مسألة الصحراء المغربية، حيث لم تكن تدعم رسميا الموقف المغربي الذي كانت مقتنعة به في أعماقها.
وقد حافظت تونس في عهد “زين العابدين بن علي” على موقف “الحياد الإيجابي” الذي اتخذه المرحوم ” الحبيب بورقيبة”، حيث لم تعترف بـ “البوليساريو”، ولم تؤيد الموقف المغربي، ولا الموقف الجزائري. كما كان المسؤولون التونسيون كلما قاموا بزيارة للمغرب، يتحاشون القيام بزيارة الأقاليم المغربية الصحراوية.
وفي سنة 2010، نشرت “ويكيليكس” وثيقة هي عبارة عن برقية دبلوماسية كان وكيل وزارة الخارجية الأمريكية المكلف آنذاك بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد وجهها إلى واشنطن في سنة 2008، ورد فيها أن الزعيم التونسي “زين العابدين بن علي” يحمل المسؤولية كاملة للنظام الجزائري في عرقلته لبناء صرح المغرب الكبير، حيث إنه غير قادر على المصالحة مع فكرة أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة صحراوية مستقلة.. لقد كان هذا مجرد كلام في الكواليس، ولم يكن كلاما رسميا، لأن تونس كانت تلتزم الحياد الإيجابي آنذاك.
ولقد استمر ت تونس متمسكة بمفهوم ” الحياد الإيجابي” في عهد الرئيس “المنصف المرزوقي”، كما كان عليه الأمر في عهد كل من “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن علي”، لكن لما غادر “المنصف المرزوقي” السلطة عبر عن موقفه الشخصي الذي اعترف فيه بشرعية سيادة المغرب على الصحراء المغربية، اعتبر أن مقترح الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب، هو الحل السليم لهذا النزاع من أجل أن تتوفر شروط ملائمة لبناء صرح المغرب الكبير، الذي يعرقله حكام الجزائر الذين يتمسكون بـ “البوليساريو” ويريدون فرضها على دول منطقة المغرب الكبير.
هكذا، فإن تونس التزمت بالمفهوم السليم لـ “الحياد الإيجابي”، وذلك على عكس موريتانيا التي انحازت للموقف الجزائري، حيث اعترفت بـ “البوليساريو”، ودعمت الموقف الجزائري، فسارت في الاتجاه المعاكس للموقف التونسي، ما جعلها، مع ادعائها بأنها التزمت بموقف الحياد الإيجابي، ليست محايدة إيجابيا لأنها انحازت للموقف الجزائري على حساب الموقف المغربي، فصار موقفها هو مجرد ” انحياز سلبي”.
لا يريد المغرب من حكام موريتانيا دعم موقفه، رغم عدالته، لكنه يريد منهم الالتزام بمفهوم “الحياد الإيجابي” كما فعلت تونس، وهو يريد منهم سحب اعترافهم بـ “البوليساريو” وعدم استقبال زعامات مليشياته على ترابهم، لأن ذلك يشكل استفزازا للمشاعر الوطنية للشعب المغربي. لذلك، فالمطلوب من حكام موريتانيا هو التزام الحياد الإيجابي بمفهومه السليم الذي لا يعادي المغرب ولا الجزائر. كما عليهم أن يدركوا أن اعترافهم بـ “البوليساريو” هو تعبير صريح عن معاداتهم للمغرب…
هكذا، فعلى حكام موريتانيا أن يعيدوا النظر في مفهومهم لـ “الحياد الإيجابي”، لأن ما يعتبرونه “حيادا إيجابيا هو في الواقع انحياز سلبي. وهذا ما يكاد يجمع عليه خبراء العلاقات الدولية… وإذا أصر حكام موريتانيا على اعترافهم بـ “البوليساريو” الذي يشكل استفزازا للمشاعر الوطنية للشعب المغربي، فإن المغرب لن يقبل هذا السلوك من دولة شقيقة، بل سيضطر لاستعمال ما يمتلكه من أوراق ضغط لإرجاع الأمور إلى نصابها…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube