الزواج المقدس الذي يلد الفساد

د عبد الرحمان غندرور
يعتبر زواج المال بالسلطة هو البؤرة التي تنتج كل أشكال الفساد على جميع المستويات، وفي جميع الاتجاهات. فقد شكل تداخل المال والسلطة في المشهد الاقتصادي والسياسي المغربي إحدى أكثر الظواهر تعقيداً وتأثيراً على مسار التنمية في البلاد، حيث لا يمكن قراءة التحولات الاقتصادية بمعزل عن بنية الحكم وشبكات النفوذ التي تمسك بمفاصل القرار الاستراتيجي. إن هذا “الزواج الكاثوليكي” بين رأس المال والمنصب السياسي لم يعد مجرد ملاحظات عابرة، بل تحول إلى بنية هيكلية راسخة تتجلى بوضوح في هيمنة الهولدينغات الكبرى والشركات العائلية ذات الامتداد السياسي على قطاعات حيوية، مما يعيد رسم خريطة السوق الوطنية بطريقة تقلص هوامش المنافسة الحرة وتجعل الولوج إلى الصفقات العمومية الكبرى حكراً على دائرة ضيقة من “المحظوظين” أو من يدورون في فلك السلطة.في قلب هذه المعادلة الاقتصادية، يبرز حضور “الهولدينغ الملكي” (المدى، وسابقاً SNI) كفاعل مركزي ومهيمن لا يمكن تجاوزه، حيث تمتد أذرعه لتشمل قطاعات استراتيجية كالطاقة، البنوك، التأمينات، الاتصالات، والتوزيع، والعمران والبناء، والتعليم الخاص بجميع الأسلاك، والمصحات الخاصة، مما يجعله القوة الاقتصادية الأولى التي تحدد، بشكل مباشر أو غير مباشر، إيقاع السوق. وإلى جانب هذه القوة المركزية، برزت في السنوات الأخيرة، وبشكل لافت، هيمنة مجموعة “أكوا” المملوكة لعائلة رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، والتي تسيطر على حصة الأسد في سوق المحروقات والغاز، ليتشكل بذلك مشهد “أوليغارشي” تتمركز فيه الثروة والقرار في أيدٍ قليلة. إن هذا التموقع المزدوج لرجال الأعمال في هرم السلطة التنفيذية وعلى رأس المجموعات الاقتصادية الكبرى يطرح إشكالات عميقة حول “تضارب المصالح”، حيث يصبح من الصعب الفصل بين المصلحة العامة التي تقتضي حماية القدرة الشرائية للمواطنين وضمان المنافسة، وبين المصالح الخاصة لتلك الشركات التي تسعى لتعظيم أرباحها، وهو ما ظهر جلياً في نقاشات ارتفاع أسعار المحروقات وملف تصفية مصفاة “لاسامير”.تنعكس هذه الهيكلة بشكل مباشر على آليات توزيع الصفقات العمومية ومشاريع الدولة الكبرى، حيث يلاحظ المراقبون أن دفاتر التحملات والشروط التقنية غالباً ما تكون مفصلة على مقاس الشركات الكبرى التي تمتلك القدرة المالية واللوجستية، وأيضاً الغطاء السياسي، مما يقصي تلقائياً المقاولات الصغير والمتوسطة ويحرمها من فرص النمو. هذه الدينامية تخلق نوعاً من “السوق المغلقة” أو ما يمكن وصفه بـ “اقتصاد المحسوبية”، حيث لا تعتمد المنافسة على الجودة والابتكار والسعر الأفضل، بل على القرب من دوائر القرار والقدرة على حشد النفوذ. وبالتالي، تجد الشركات المستقلة أو تلك التي لا تدور في فلك الأحزاب الحاكمة والنخب الاقتصادية المهيمنة نفسها أمام سقف زجاجي يحد من توسعها، مما يضطر الكثير منها إما إلى الانضواء تحت لواء الشركات الكبرى كمناولة (Sous-traitance) بشروط مجحفة، أو الخروج من السوق نهائياً.إن خطورة هذا الوضع لا تكمن فقط في إثراء فئة قليلة على حساب الأغلبية، بل في تعطيل عجلة التنمية الحقيقية وقتل روح المبادرة؛ فالاقتصاد الذي يتحكم فيه منطق الريع والامتيازات السياسية يصبح بيئة طاردة للاستثمار الأجنبي والمحلي الجاد الذي يبحث عن الشفافية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون. وعندما تتحول الدولة من “حَكَمٍ” محايد يراقب السوق ويضمن نزاهة المنافسة إلى “لاعب” وشريك عبر مسؤوليها الذين هم في الوقت ذاته تجار كبار، تضعف مؤسسات الرقابة مثل مجلس المنافسة وتصبح قراراتها خجولة أو غير ذات أثر رادع. هذا التداخل العضوي بين المال والسياسة يؤدي في النهاية إلى تعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، حيث تتركز الثروة في المحور الاقتصادي الدار البيضاء-الرباط – طنجة، وفي جيوب النخبة المرتبطة بالسلطة، بينما تظل باقي الجهات والشرائح الاجتماعية تعاني من الهشاشة، في انتظار “الفتات” الذي قد يتساقط من مائدة الصفقات الكبرى التي يتقاسمها الكبار.يقدم القانون المغربي ترسانة تشريعية تبدو من الناحية النظرية متطورة وشاملة لمحاصرة ظاهرة “تضارب المصالح”، لا سيما بعد المصادقة على دستور 2011 الذي رفع سقف التوقعات في مجال الحكامة، إلا أن إنزال هذه النصوص على أرض الواقع، خاصة في سياق تداخل المال والسلطة، يكشف عن هوة سحيقة بين النص والممارسة، وعن ثغرات في التأويل القانوني تسمح باستمرار الوضع القائم. فالدستور في فصله 36 يشكل حجر الزاوية في هذا البنيان القانوني، إذ ينص صراحة على معاقبة المخالفات المتعلقة بتضارب المصالح واستغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه، فضلاً عن محاربة الاحتكار والهيمنة الاقتصادية، غير أن قوة هذا النص الدستوري تظل معلقة لكونها مبادئ عامة اصطدمت بممارسة سياسية وجدت مخارج “تقنية” لتجنب العقاب، حيث يتم التركيز على شكل القانون لا روحه.وتتجلى أبرز هذه المخارج في كيفية التعامل مع القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة، وتحديداً في ما يتعلق ب “حالات التنافي”؛ فرغم أن القانون يمنع أعضاء الحكومة من ممارسة أي نشاط مهني أو تجاري، إلا أن العرف القانوني السائد يفهم هذا المنع ويحصره في مهام “التسيير والإدارة” وليس “الملكية”. وبموجب هذا التأويل، يكفي للمسؤول الحكومي أو الوزير (الذي هو في الأصل رجل أعمال) أن يستقيل صورياً من مجالس إدارة شركاته ويفوض توقيعه لغيره، غالباً لأحد أفراد العائلة أو المقربين، بينما يحتفظ بملكيته للأسهم ورأس المال؛ والنتيجة القانونية هنا هي أن الوزير يجترم القانون شكليا لأنه لا يدير الشركة رسمياً، بينما في الواقع العملي يشارك في صنع سياسات عمومية وقرارات ضريبية وجمركية تصب مباشرة في مصلحة شركاته التي يملكها، وهو ما يجسد جوهر تضارب المصالح الذي يعجز القانون بصيغته الحالية عن ضبطه.ولا يتوقف الالتفاف القانوني عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل قانون الصفقات العمومية، الذي يخضع نظرياً لمبادئ المنافسة والشفافية، لكنه يتيح للإدارات هامشاً واسعاً في صياغة “دفاتر التحملات”. وهنا يتم التلاعب ليس بخرق القانون، بل باستخدامه عبر وضع شروط تقنية ومالية “على المقاس”، مثل اشتراط رقم معاملات ضخم أو معدات نادرة لا تتوفر إلا لدى الفاعلين الكبار، مما يؤدي إلى إقصاء المنافسين الصغار والمتوسطين بطريقة “قانونية” تماماً، لترسو الصفقات في النهاية على الهولدينغات الكبرى المرتبطة بجهات نافذة، في إجراء يبدو سليماً من حيث الشكل ولكنه فاسد من حيث الغاية.وفي سياق المؤسسات الرقابية، يظهر عجز الآليات القانونية بوضوح في تجربة “مجلس المنافسة”، الهيئة الدستورية التي عانت لسنوات من الجمود والبلوكاج، خاصة إبان الجدل حول أرباح شركات المحروقات؛ فعندما تحرك المجلس لمحاسبة الشركات، ساد ارتباك قانوني ومسطري انتهى بتغيير هيكلة المجلس، ورغم صدور قوانين جديدة لتقوية صلاحياته، إلا أن الغرامات التي فُرضت لاحقاً اعتبرت بمثابة “تسوية تصالحية” أكثر منها عقوبات رادعة تتناسب مع حجم الأرباح المحققة، مما يطرح تساؤلات جدية حول قدرة القانون على مواجهة نفوذ الفاعلين الاقتصاديين الذين يرتدون قبعة السياسيين. حتى القانون الجنائي، الذي يتضمن فصولاً تعاقب على جريمة استغلال النفوذ، نادراً ما يُفعل ضد “الحيتان الكبيرة”، نظراً لتعقيد الهياكل المالية للشركات الكبرى واستخدام شركات الواجهة، مما يجعل إثبات العلاقة السببية المباشرة بين القرار الإداري والمنفعة الشخصية أمراً بالغ الصعوبة، ليتم حفظ الملفات أو تكييفها كمخالفات بسيطة.في المحصلة، يتعامل القانون المغربي مع معضلة تداخل المال والسلطة بمنطق “الشكل” متجاهلاً “الجوهر”، فما دام المسؤول السياسي قد احترم الإجراءات الشكلية للاستقالة من الإدارة، فإنه يظل في مأمن من المساءلة، مما يخلق وضعاً يمكن وصفه بـ “الفساد المقنن”، حيث يتم الاستحواذ على الفرص الاقتصادية ومقدرات الدولة تحت غطاء الاحترام التام للمساطر القانونية.




