رأي في ابؤس الذي يعرفه المجلس الوطني للصحافة

د. عبد الرحمان غندور
لست صحافيا، ولكني عشت عالم الصحافة كمتتبع ومهتم بالشأن السياسي في هذا البلد، ولم أعش في يوم من الأيام، مستوى الدناءة والحقارة التي بلغتها أعلى مؤسسة تمثل الصحافة والصحافيين والاعلام عموما.الصحافي المهداوي، والذي لا يهمني كشخص، بقدر ما يهمني كصحافي مهني، قد أتعاطف مع بعض منشوراته وقد أختلف مع بعضها الآخر. لكن الفيديو الذي عممه مؤخرا حول ما جرى بلجنة التأديب والاخلاقيات بالمجلس الوطني للصحافة يقول بما لا يتناطح حوله عنزان أن الكيل قد طفح في ميدان الصحافة والاعلام، ونحن نسمع هذه الصيحة المدوية التي أطلقها المهداوي، كاشفاً النقاب عن فضيحة هزّت أركان ما يُفترض أن يكون حصناً للضمير الإعلامي وأخلاقيات المهنة. لم تكن مجرد اتهامات عابرة، بل كانت شهادة من داخل المعمعة، وسردٌ مفصلٌ لمسلسل من الممارسات التي حولت المجلس الوطني للصحافة من هيئة رقابية مستقلة مُكلّفة بحماية الصحافة والصحافيين، إلى أداة قد تُستخدم لتكميم الأفواه وتسويق الأوهام وتبخيس مهنة تعتبر سلطة رابعة في الدول الديموقراطية التي تحترم نفسها.في قلب الفضيحة، تقع مفارقةٌ مؤسفة؛ فالمجلس الذي يفترض أن يكون حَكَماً في النزاعات الإعلامية، وضامناً لالتزام الوسائل بميثاق الشرف الصحفي، بات متّهماً بانتهاك المبادئ ذاتها التي أُسس من أجلها. الرواية التي كُشفت تتحدث عن تحوّل المجلس إلى نادٍ مغلق، تُدار فيه الأمور بمنطق المحسوبيات والولاءات، لا بمنطق الكفاءة والنزاهة، وبأسوإ اللغات الساقطة، حيث أصبحت قراراته، في كثير من الأحيان، مجرد أختام مطاطية تُضفي شرعيةً زائفةً على خطاب إعلامي مسيّس أو محكوم من جهات خارجية، أو تغض الطرف عن تجاوزات وسائل مؤثرة مقابل صمتٍ مريب أو تبريرات واهية.الأخطر من ذلك هو الدور الذي يلعبه المجلس، وفقاً للفضيحة، في تشكيل واقع إعلامي موازٍ. واقعٌ تُحجب فيه الحقائق المُزعجة، وتُكرّس فيه الرواية الأحادية، ويُوصم فيه كل صوتٍ حرّ بالخروج أو التشويه. وهو شكل من أشكال التواطؤ الذي يهدر هيبة المهنة ويقوض ثقة الجمهور بكل ما يُنشر ويُبث.ولا يمكن فصل هذه التهم عن سياقها الأوسع؛ فالمجالس الصحافية، في نموذجها المثالي، هي ضمانة للديمقراطية وحارس للفضاء العام. وعندما تتعرض هذه الهيئة للاختراق أو تفقد استقلاليتها، فإن ذلك يصيب المنظومة الإعلامية بأكملها في مقتل. فالصحافة الحرة هي عصب المجتمع الحي، وهي التي تكشف الخلل وتراقب السلطة وتوفر للمواطن المعلومة الصادقة ليُكوّن رأياً مستنيراً. وإذا تحول المجلس الوطني للصحافة من حامٍ لهذه الرسالة إلى عائق أمامها، فإنه لا يخون المهنة فحسب، بل يخون دور الصحافة كسلطة رابعة.لقد أثارت الفضيحة سؤالاً وجودياً حول مستقبل الإعلام، حيث يطرح سؤال الثقة التي انهدمت والتي ستكون أثراً بعد عين. فالإصلاح يبدأ بالاعتراف بالخلل، ثم بخطوات جريئة نحو الشفافية الكاملة. مما يتطلب إعادة هيكلة حقيقية تضمن استقلالية المجلس مالياً وإدارياً، وتوسيع تمثيلته ليشمل وجوهًا مستقلة معروفة بالنزاهة والشجاعة، ووضع آليات عمل واضحة وعلنية، تكون في منأى عن أي ضغوط. الأمل الوحيد الآن هو أن تكون صفعة المهداوي قد أيقظت الضمائر، وأن تتحول هذه الصدمة إلى فرصة تاريخية لولادة جديدة لمجلس صحافي يكون بالفعل بيتاً للخبرة وضميراً للمهنة، لا سجناً لأصواتها.



