ثقافة وفنون

حمام البلاد

ذ عبد السلام مستاكو شفشاون

“خصك تمشي نالحمام”، جملة تكررها الوالدة على مسامعي عند كل مساء، في محاولة لإقناعي بضرورة تسخين العظام في ليالي شتاء الشاون الباردة.
كانت محاولة البحث عن حمام عمومي تقليدي غير مكتظ بمثابة مغامرة حقيقية، حيث يتوجب عليك اختيار اليوم والوقت المناسبين للظفر بفرصة إيجاد حمام مناسب في ظروف أقل ما يقال عنها مواتية للاستمتاع ببعض دلاء “سطول” من الماء الساخن جدا ومكان لوضع ملابسك ومكان عند خروجك من البهو الساخن “السخون” دون أن تتعرض للسعة برد تلفح صدرك لترديك طريح الفراش لعدة أيام.

تبدأ المغامرة بالبحث عن قفة أو ما شابه ذلك لحمل ثيابك النظيفة، والبحث في المنزل عن قطعة أو شبه قطعة صابون و مشط منسي فوق أحد الرفوف وفوطة تبحث عنها فوق حبل الغسيل بسطح المنزل دون أن تنسى تلك القطعة الحجرية الخشنة “المحكة” لحك جلدك الذهني، وقليل من الصابون البلدي ليجهز على آخر خلية ميتة من خلايا جلدك المصفر والمزركش ببعض بقايا الخدوش و آثار ضربات الكرة البلاستيكية الصلبة على ركبتك و رجليك الصغيرتين.

لا أثر في قفتك لشامبوان مزيل للقشرة أو مرطب للشعر بنكهات الخوخ أوالرمان أو الفاكهتان معا، قطعة صغيرة من صابون “الحجر” وقطعة من الإسفنج الخشن تفيان بالغرض.

يمكن أن تعود أدراجك خائبا في مساء ممطر وبارد لأن مكلف الصندوق (الكلاس) يخبرك بأن الحمام مكتظ عن آخره ولا وجود لأي دلو “شاغر” ولا أمل في إمكانية وجود مكان داخل الحمام العمومي، و في حال إصرارك على دخول المغامرة بدون أي دلو، عليك تحمل مسؤوليتك و ترقب الوجوه المنهكة والمتعرقة خلف البخار الكثيف الذي يحجب الرؤية داخل بهو “السخون” من أجل التعرف على أحدهم من معارفك ليساعدك على التعرف على شخص قد أوشك على الإنتهاء من الإستحمام فربما أوصى لك بدلو أو دلوين فارغين لتبدأ مغامرة البحث عن مكان داخل بهو السخون وأنت تتطلع للوجوه والأجساد النحيلة تحت ضوء خافت و كئيب لعلك تظفر بمكان للإستلقاء فوق الأرضية الساخنة جدا لتمرغ جسدك النحيل وعظامك الباردة ومراقبة فرصة ملء نصف دلوك بالماء الساخن جدا.

تراقب الوضع عن كثب، فتلاحظ رغم صغر سنك بداية إدراكك بالفوارق الإجتماعية، فتلاحظ أحدهم يراكم عددا هائلا من الدلاء (السطولة) ويزيد من مراكمتها كأنه يجمع ثروة يستعملها في أوقات الشدة عندما يعلن صاحب الحمام عن انقطاع مفاجىء للماء الساخن، فيبدأ أصحاب الثروة “المائية” الساخنة في استعمال الإحتياطي الاستراتيجي و تحسر باقي المستحمين الذين لم يسعفهم الحظ لجمع تلك الثروة في وقت وجيز.

يجلس هؤلاء بافتخار وسط “إمبراطوريتهم” الصغيرة و حدودها مرسومة بدقة متناهية بصفوف من دلاء الماء الساخن وبعضها مملوء بالماء البارد أيضا والتي تطفو فوقها بعض فواكه الماندارين، في الإستمتاع بالإغتسال وسط ذهول باقي المستحمين الذين أنهكتهم حرارة البخار في انتظار الفرج و عودة الماء في حين تكون صفوف الدلاء في تزايد مما يستدعي وضع مشط أو علامة مميزة لتتعرف على دلوك حتى لا يتعرض للضياع فيضيع أملك في الحصول على حصتك البسيطة من الماء الساخن.

في غفلة من أحدهم، يمكن استغلال فرصة وجود كل المستحمين في البهو الثالث الساخن جدا، فتعمد إلى أخذ سطل أو سطلين من أصحاب الإحتياطي الإستراتيجي كنوع من تطبيق للعدالة الإجتماعية “الحمامية” فتسرع في دلك جسمك بصابونك الحجري وقطعة الإسفنج الخشنة و إفراغ ذلك السطل الساخن على وجه السرعة حتى لا يكتشف أحدهم أمرك، وتسرع إلى مغادرة الحمام وتعد نفسك في المرة القادمة أن تعمل على توفير إحتياطي مائي محترم لتتفادى أزمة انقطاع الماء الساخن في وقت الذروة الإستحمامية.

في مشهد ضبابي سريالي، جموع بشرية، تراقب الدلاء المصفوفة أمام “البرمة” و العيون مشدودة إلى ذلك الثقب الذي يخرج منه الماء الساخن، يبدا “المتطوع” وهو يجلس على حافة البرمة و عرقه يتصبب من جسده النحيل في “طرق” الثقب الحائطي بإناء معدني يحدث صوتا حادا ليخبر صاحب
” الفورناتشي” بضرورة إطلاق صبيب الماء الساخن لأن الوضع أصبح كارثيا داخل الحمام، و بدأت حالات اليأس والسأم تعلو الوجوه المتعرقة، فيتدخل أحدهم بضرورة غلق صنبور الماء البارد لكي يتدفق الماء الساخن جدا من ذلك الثقب الحائطي.

لم أعرف لحد الآن ما علاقة صنبور الماء البارد بثقب الماء الساخن جدا…

كانت ملاحظة في محلها، فبمجرد غلق صنبور الماء البارد، يبدأ الماء الساخن من التدفق من الثقب السحري تدريجيا، فيعلن صاحبنا المتطوع بتوخي المزيد من الصبر حتى تمتلىء البرمة على الأقل للنصف ليبدأ توزيع حصص من نصف سطل من الماء المغلي فترتفع أصوات الإحتجاج هنا وهناك وتخطي صفوف الدلاء فيضيع سطلك وسط هذا الإكتظاظ و الفوضى وتدافع الأجساد النحيلة و المتعرقة المنهكة.

يعلن صاحبنا المتطوع عن نهاية حملته التطوعية لملء ” السطول” بعد أن فقد صبره وعدم تحمله احتجاجات بقية المستحمين فيأخذ معه حصته المحترمة من “سطول” الماء الساخن جدا بعد أن أمن مستقبله “التحميمي” إعلانا منه عن نيته التطوعية، تاركا وراءه موجة من الإحتجاجات في انتظار “انتخاب” متطوع جديد ذو كفاءة و حس تضامني يضمن توزيع عادل للثروة المائية الساخنة.

في هذا الوقت بالذات أحتاج فقط لسطل واحد حتى أكمل طقوس تحميمتي اللعينة مساء هذا الخميس الممطر وأنا أقرر في نفسي عدم دخول مغامرة الإستحمام ليلة الجمعة لأغير جدول استحمامي ليوم الإثنين أو ربما الثلاثاء، أو ربما انتظار يوم بث مباشر لمباراة كرة قدم دولية، حتى أبتعد عن ازدحام أوقات الذروة و الإزدحام الإستحمامي، و الإستمتاع بسطول وفيرة من الماء الساخن و في قرارة نفسي أتوعد بالعمل على توفير إحتياطي إستراتيجي محترم من الماء الساخن والبارد معا لإستعماله في وقت الأزمات الإستحمامية.

للمزيد من قرائة قصص الكاتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube