رسائل

*كلمات* .. في الاختراق وخلفيات «قرآن بورغواطة»

*”إسرائيل” المُختلَقة… وأجندة الاختلاق الوظيفي لهويات مستنسخة خادمة..

* أحمد ويحمان ×

لم تُبنَ “إسرائيل” باعتبارها ثمرة مسار تاريخي طبيعي، بل بوصفها أعقد وأخطر عملية اختلاقسياسي–أسطوري–استعماري عرفها العصر الحديث: اختلاق شعب، واختلاق أرض، واختلاق ذاكرة، واختلاق قداسة. هكذا جرى تحويل الأسطورة إلى “حق”، والنص الديني إلى “سند سيادي”، والاستعمار إلى “عودة”، والاستيطان إلى “تحرير”. ومن هنا لم تكن “إسرائيل” دولة بالمعنى التاريخي للكلمة، بل دولة مُختلَقة وظيفيًا منذ لحظتها الجنينية الأولى . ولم يكن هذا البعد الوظيفي تفصيلاً لاحقًا، بل كان أصل التأسيس نفسه، حين تزاوجت – منذ بدايات القرن العشرين، ومنذ مؤتمر بانيرمان (نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا) 1905–1907 – مصالح الرأسمال الاحتكاري العابر للقارات مع مصالح الحركة الصهيونية العالمية، لإنتاج كيان يؤدي وظيفة متقدمة في قلب المجال العربي والإسلامي : تفكيك، وضبط، وإعادة توزيع للقوة والثروة والمعنى..وتأجيل النهضة والمعرفة الممنوعة إلى الأبد..وتعطيل كل عملية سياسية لإنتاج قيادة حكيمة…. والاختلاق هنا ليس سردًا بريئًا ولا خطأً معرفيًا عابرًا، بل هو عملية استراتيجية معقّدة اشتركت فيها مراكز فكر، ومؤسسات أكاديمية، وقوى استعمارية ومخابراتها ، وتحالفات دينية–سياسية، لإعادة تشكيل الجغرافيا والتاريخ والإنسان معًا. فالبحث الأركيولوجي، في كثير من محطاته، لم يكن بحثًا عن الحقيقة، بل تحوّل إلى جهاز أيديولوجي لإنتاج “تاريخ بديل” يخدم مشروعًا استيطانيًا إحلاليًا. ومن هذا المنظور، فالصهيونية ليست مجرد حركة قومية، بل منظومة اختلاق شاملة: تختلق الشعوب، وتختلق الخرائط، وتختلق الأزمنة، وتختلق الهويات، وتعيد تركيب الإنسان في قالبٍ اختزالي يفصله عن عمقه الحضاري والروحي، ويحوّله إلى وظيفة داخل مشروع استعماري. وهو ما عبّر عنه عبد الوهاب المسيري بدقة حين فكّك مفهوم “الكيانات الوظيفية”، كما أكّده، من زاوية التاريخ النقدي، المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في تفكيكه العلمي الدقيق لأسطورة “الشعب اليهودي” بوصفه اختراعًا حديثًا لا حقيقة عرقية أزلية. هكذا جرى اختلاق “إسرائيل” الأولى في فلسطين :اختلاق للشعب، واختلاق للأرض المقدسة، واختلاق للتاريخ القديم، ثم تحويل الأسطورة إلى قاعدة سياسية حديثة. غير أن الأخطر من نجاح هذا الاختلاق في فلسطين، هو تحوّله إلى نموذج قابل للاستنساخ في فضاءات أخرى، عبر أدوات ناعمة، وأقنعة ثقافية وهوياتية ودينية، لا تقل فتكًا عن الدبابة والصاروخ.. وذلك من أجل تخصيب المجال لاستقبال الكيان الصهيوني كأجندة في كل الساحات و ك”دولة يهودية خالصة” بفلسطين، في محيط جغرافي متشظي منقسم متطاحن بين هويات وعرقيات وقوميات مجهرية لا يقبل بعضها بعضا.. لكنها تقبل ب”إسرائيل” قائدة وسائدة بالمنطقة… تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد” على جسر الفوضى الخلاقة . اليوم، نحن لا نواجه فقط “إسرائيل” التي قامت على أرض فلسطين، بل نواجه أيضًا إسرائيل التي تُتقن الاختلاق وتُصدّره: اختلاق الهويات البديلة، واختلاق الأزمنة المصطنعة، واختلاق الذاكرة المفصولة عن سياقها الحضاري، واختلاق الرموز والنبوءات والأساطير. وهنا تحديدًا تندرج محاولات اختلاق “السنة الأمازيغية” خارج سياقها الحضاري الإسلامي، واستدعاء شيشناق بوصفه رمزًا قاطعًا مع التاريخ الحقيقي، وإعادة بعث ما يسمى ” نبي الأمازيغ” و“قرآن بورغواطة” بوصفه نواة اختراق عقدي وسياسي جديد؛ وكلها ليست شطحات فولكلورية بريئة، بل أدوات في معركة إعادة هندسة الوعي تمهيدًا لإعادة هندسة الكيان. وفي هذا السياق نفسه، يطفو على السطح ما يمكن تسميتهم بـ *“البورغواطيين الجدد”* ؛ مروّجو “الهوية القاتلة” المسماة زورًا “الأمازيغية”.. بينما هي عملية مكشوفة مزج هجين بين اليهودية المؤسطرة والأمازيغية المبعثرة بين أدراج مختبرات الانتروبولوجيا الإستعمارية على مدى أكثر من قرن من الاشتغال والعمل التخريبي … وهؤلاء – بعيدًا عن البطولات الوهمية التي ينسبونها لأنفسهم – ليسوا سوى أدوات لأدواتٍ أخرى في الأجندة نفسها، مجرد مناوِلين صغار (عطّاشة) في ورش كبير تشرف عليه دوائر أعقد وأخطر، يتقاضون مقابل أدوارهم فتاتًا من سقط المتاع، ويؤدّون وظيفة تخريب المعنى، بلا مبالاة لا يهمهم سوى تلك الاستفاده الشخصية الصغيرة أو دون وعي كامل بحجم المسرح الذي يتحرّكون فوقه بالنسبة لبعضهم

إن أخطر ما في مشروع الاختلاق هو أنه لا يعمل بالصدمات المباشرة، بل بالبناء البطيء ؛ أسطوريًا أولًا، ثم ثقافيًا، ثم هوياتيًا، ثم سياسيًا… إلى أن تبلغ العملية لحظة “الإعلان”. هكذا وُلدت “إسرائيل”، وهكذا يُراد اليوم أن تُمهَّد الطريق لصيغ محدثة من “إسرائيل الوظيفية” في فضاءات أخرى، وعلى رأسها المغرب والمغرب الكبير، عبر وصلٍ خبيث بين ماضٍ يُعاد تصنيعه وحاضرٍ يُعاد توجيهه.

*آخر الكلام*

إسرائيل ليست فقط كيانًا مُختلَقًا، بل هي أيضًا آلة اختلاق دائمة .. على أوتار سمفونية غوبلز ؛ *”إكذب إكذب حتى يصدقك الناس”*، وذلك من خلال عملية ممنهجة تُزَيِّف التاريخ، وتُزَوِّر الجغرافيا، وتُفكّك الذاكرة، وتُعيد تركيب الهويات على مقاس وظيفتها الاستعمارية. والخطر الحقيقي لا يكمن فقط في احتلال الأرض، بل في احتلال المعنى أيضا . وحين يُحتلّ المعنى، يصبح كل شيء بعده قابلًا للاختلاق: من “السنة الأمازيغية” إلى “قرآن بورغواطة”، من الرمز إلى التقويم، ومن الحكاية إلى الكيان.

وحينها لا يصبح السؤال : من يحتل الأرض؟ بل من يصنع الوعي الذي يبرّر الاحتلال . فاللهم اسق عبادك وبهائمك !

————————-

× باحث في علم الاجتماع السياسي، رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID