المرأةثقافة وفنون

القاصة المغربية المقيمة في لندن الدكتورة ايمان سعدون تبحث على الحولي المعمر ..

د.ايمان سعدون لندن

القاصة المغربية المقيمة في لندن الدكتورة ايمان سعدون تبحث على الحولي المعمر ..و تقتنص التفاصيل في غابة لندن الموحشة ..

و انا الان في حالة التباعد الاجتماعي … و العزل الصحي المفروض علينا … رئيس الوزراء الابريطاني في عزلته و في عز مرضه يقول لنا ان نبقى في بيوتنا … فيروس الكرونا في كل مكان .. يتجول في حارتنا …امس اخدو جارتنا .. هل سترجع لا نعرف .. أصبحنا نتابع أعداد الموتى و مقاييس الموت كما نتتبع مقاسات تساقطت الأمطار في النشرة الجوية … الفرق اننا نتابع أعداد تساقطات الإنسان …احاول ان لا افتح التلفاز .. و ان لا استمع الى بث الراديو .. لأننا في أيام غريبة كئيبة .. اجدني اتابع قنوات اليوتيوب.. أصبحت اتابع وصفات الطبخ المغربي …قررت ان أتعلم وصفة البغرير و الرغايف …رفضت داءما تعلمها .. كنت أقول مضيعة الوقت و خطيرة على الصحة .. لكنني الان اريد ان اعود الى الطفولة و الى اكل أكلات مغربية أقول بها لأسرتي هنا و في المغرب اننا بخير … سنغلب الكرونا .. مادام عندنا دقيق و خميرة و زيت و سكر في البيت … في هذه الأيام بالضبط .. بحث على وصفاته … تذكرتها… انتابني حنين الى وصفاته .. تذكرته كثيرا رحمه الله … كان دائماً من المطلين علينا في برنامجه التلفزيوني لفن الطبخ، بحلته البيضاء الناصعة، مع صديقه الفرنسي الشاف جاك …في مطبخ لم يكن مثل مطبخنا..

مطبخنا يتوفر على مجمر ثلاثي غازي، قنينة غاز صغيرة زرقاء في الجانب عليها مجمر طيني..يسند “الكوكوت المينوت” طنجرة الضغط و هي تصفر صفيرها المعتاد لتقول لنا ان العدس او الفاصوليا البيضاء من مصيرنا القريب ..في مطبخنا أواني الليمنيوم ترصف كالعرائس فوق رف خشبي طويل … اهترأت يداي الصغيرتان بحكهم بحلفة السلك الحديدي الناعمة و الصابون البلدي … امي كانت تقول لي ان المرأة اللتي لا تعرف كيف تخرج بريق اواني الاليمنيوم لا بريق لحياتها …ثلاجتنا اغلى ما نمتلك .. اشتراها ابي بالتقسيط كانت اطول من امي قليلا و ضعف حجمي.. قليلا …الاواني الاخرى كنا نرتبها في خزانة قديمة و نعيد ترتيبها كلما احسسنا بالملل ..كم كان مطبخنا بسيط، صغير و مرتب ..

مطبخه له شكل آخر..لا يشبه .. مطبخنا العادي .. ثلاجته الفاخرة اطول منه بكثير و أعرض منهما الاثنين… امي تتنهد حينما تراها .. “ثلاجته انام فيها واقفة … اكبر من سريرنا ” و تلتفت و تغمز ابي .. الذي يبتسم من عيونه و يتظاهر بتجاهلها…
أسمر انا عيوني على الشاشة و افحص مطبخه في كل لقطة … التقط كل التفاصيل و كأن في عيوني ميكروسكوب إلكتروني دقيق …

فرن ضوئي بمجاميره الستة! اوان زجاجية لامعة..سيراميكية بيضاء و أوان من معدن الاينوكس …خزانات لامعة .. !أهذا مطبخ في قصر من قصور ملكنا؟….جدتي كانت تقول لي ان مطابخ ملكنا كبيرة جدا … يطبخون فيها كل يوم تأهبا لزيارته المفاجئة …مستمتعة بحظنها الدافئ لم أصدقها طبعا … هي فقط حكايات خيالية من نسيج حكاياتها التي كانت تستهلها بعبارتها “حاجيتكم ما جيتكم “… كنت اتساءل كيف يكون هذا مطبخا ؟ لمذا مطبخه لاترى فيه العرائس المرصصة…اعني اواني الألمنيوم .. التي تعدني بحياتي اللامعة؟…

أمي تتنهد كل مرة تلتقط عيونها مطبخه و تقول “آه يا مطبخ الاحلام… مطبخه يرد الروح …اوانيه تشبعني بدون طبخ.. من يحتاج الى مهراز نحاسي يشق الرأس و له مهراز ضوئي متذبذب ؟ “

جاك… جاه الخير…. يقدم فقط الوصفات الفرنسية المستحيلة ..يتكلم بلغة فرنسية متخصصة.. فقدت الامل في فهمها.. يصر على فصل لحم السمك من شوكه و تحويله الى فليه و ازالة شوكه بسكين…نستغرب ..أمي …تنتفض.. ” السمك الابيض “الميرلا” يا عباد الله منقرض في الاسواق… هل عثرنا على ريحته حتى نترك نصف لحمه في الشوك”..قررنا ان لا نكترث لوصفاته .. جاك جاه الخير و ها هو يبذر ! …

طباخنا المفضل وصفاته على الرأس و العين … بصوته الدافئ و لكنته الفاسية الجميلة المهذبة يستهل برنامجه قائلا “سيداتي و سادتي اصحاب الذوق الرفيع .. اليوم انا وجاك سنقدم لكم … “

البرنامج يتزامن مع وجبتنا الغدائية..يوم الخميس … نجتمع على المائدة المستديرة … ابي .. أمي …اخوتي السبعة..و عمي ..امامنا التلفزيون …الجو جيد لن يقع طشاش على الشاشة و لن نحتاج ان ندير “الانثرنا ” فوق سطح بيتنا… أمي طبخت طاجين السردين بالطماطم و البطاطس (التاغرة) و لكنها قدمت صحن العدس الكبير اولا… من بين القوانين الغير المكتوبة في بيتنا ان تقديم صحن العدس/الفاصوليا البيضاء/ البيصاار يسبق الطاجين… لا يمكن عبور جسر الطاجين حتى يصبح صحن القطاني لامعا.. و هنا يأتي دور الخبر لكن في ذلك اليوم …لم يكن الخبر كافيا … فرن الحي مقفلا… نسمي وجبة القطاني الاولية “بالاساس” تشبيها بخلطة الرمل و الأسمنت المستعملة في بناء أساس البيوت… “الأساس ” العدسي يملأ المعدة .. نبني فوقه بيت .. الطاجين يضع اللمسات الاخيرة ..و لطلاء البيت نلونه ببرتقال “نافيل” ملصق عليه مكعب اسود “صنع بالمغرب”.. Made In Maroc

كنت اتساءل دائما .. “العجب! دول تصنع السيارات و الطيارات و يصعدون الفضاء بصوايخهم… و نحن هنا نصنع البرتقال المهترء !” …

بابتسامته العريضة، أسنانه المرصصة البيضاء و ضخامة جسده و لحيته السوداء اللتي كانت تزيده كريزما غير عادية…يخبرنا انه سيعلمنا فن طبخ اكلة عجيبة، غريبة ..إستثنائية جدا لان بلدنا العظيم يمر من ظروف استثنائية .. لقد هطلت الأمطار و أرتوت المساقي وأخظرت الأعشاب … العام زين …العام زين…الاكلة لاول مرة في التاريخ تبث على القناة المفرنسة المخوصصة..…هي وجبة خاصة بأصحاب الذوق الرفيع جداَ… “وجبة (الحولي (الخروف) الجبلي) المشوي و المعمر بالحمام البري، الأرانب البلدية الغابوية، اللوز الريفي، الكركاع (جوز الهندي) الجبلي و الشونبينيون و القشدة الطرية “

“مذا ؟؟” صرخنا جميعا…

آه و آه…خروف مشوي و محشي .. ماهذا السحر؟؟ “كنت انذاك مثل جيري الفأر الشهير و هو يتخيل الجبنة الصفراء المثقبة… عيوني ارتسمت على بؤبؤها الخروف المشوي…حتى انني نسيت تماما انني امضغ لقمة العدس.. ساقتطع قطعة من الخروف … آه بمذا سأبدأ … هل استهل بقطعة من العنق اللذيذة؟ او فقط الحسها و أشم رائحة الشواء ..آه من رائحة الشواء…شهور مظت على عيد الاضحى و ها هي الان تلف بي من كل الاتجاهات…. هل انزل الى الفخذين فاسترق قطعتين … ام أنتشل الرجل كله و انزل في اللحم مصا و عضا حتى أصل الى العظم فامصمصه الى ان التهم نخاعه كاملا … بل و لم لا اقتحم الحولي المشوي كليا كالصاروخ الثاقب و استمتع بالكنوز الداخلية المختفية … الحمام و الأرانب … اللوز و الكركاع ….الله حتى الشونبينيون و القشدة الطرية …آه.. آه …آه “….

ماهذا الذي يسمى الشونبينيون و ما هذه التي تسمى القشدة الطرية!؟ اعرف الشرمولة فقط …” .. أجابتني امي ” الله اعلم! هذه وجبة أصحاب الذوق الرفيع يا بنيتي… قولي بسم الله و ابلعي لقمة العدس اللتي مازالت واغلة في حلقك…و لا تتكلمين وفمك مليان!” … لم أتمالك نفسي.. بلعتها … انتفظت واقفة …وقاحة كبيرة مني..” الله يا ربي الله… هل نحن آدميين و لا حيوانات ؟؟ مللنا “الأساس ..العدس ، السردين ، اللوبيا و البيصار .. متى سيرحمنا هذا الله و تطبخ لنا يوما أكلة اصحاب الذوق الرفيع الحولي المعمر بالحمام و الأرانب و اللوز، الكركاع و الشونبينيون و القشدة الطرية…متى ؟؟ … ” حاول ابي ان يحافظ على هدوئه.. لكنه لم يخفي انني غضته بقلة ادبي… “نحن في ظروف استثنائية يا ابنتي … الا تعرفين اننا حتى السوق لا نقدر الوصول اليه…..؟ المدينة مطوقة “بالمرودا” و العسكر…والكل موصد …قال لك الحولي معمر بالحمام و الأرانب و اللوز والكركاع و القشدة الطرية ؟؟ ” … أختي ردت .. “شفتي أبي… و انا راجعة من المدرسة… واحد المردة اسمر و طويل و عريض و باسنان ذهبية) كانت له زرواطة أطول منه… و مكتوب عليها كل نفس ذائقة الموت من اجل الوطن … و لأنني فظولية سألته بأدب “آسيدي المردة وجه القردة اعطيني نجرب الصحن الأخظر فوق راسك و نهز عليك الزرواطة… باينا ثقيلة عليك ياك؟؟ …نهرني و قال لي سيري و لا نفرعلك بها راسك البرهوشة!!!الاوباش! هز الزرواطة باش يضربني لكني هربت .. من أين تسلطو علينا هاذ المرودة ؟؟”… أمي ردت “اه يا بنتي حتا جدك مسكين رجعوه من صلاة الفجر قالو ليه ” ارجع صلي الفجر فدارك ولا الزرواطة فظهرك” .. رد عليهم ” اييه نعم آسيدي حتى صلاة الفجر فالبيت جائزة … و لا تأدو بأنفسكم الى التهلكة .. صدق ربنا العظيم

.” “اتجهت أمي بوجهها الى التلفاز… “سير يا صاحب الذوق الرفيع … و يا جاك يا لي جاك و شبعت خير هاد البلاد… واقفين فوق ريوسنا و الحولي المحمر المعمر مبسم و معرس… الم يكفيكم الهم لي نحن فيه …؟ و الخبر الحافي لي ما لقيناه ..فران الحي و ماقادرش يفتح بالخوف و الرعب لي ركبتوه فينا … المرودا مطوقينا..الهليكوبترات فوق ريوسنا .. و ولاد المدارس فالسجون و المدارس متوقفة … ما جبارتو فوقاش تجيبو لينا الحولي معمر بالحمام و الأرانب و اللوز و الكركاع و الشونبينيون و تزيدو تشهيونا بالقشدة الطرية … !!! دابا شكون يرضى يأكل العدس ديالي بزيت الخليع شكون ..؟ هو العدس و فالاضرابات الثمن ديالو الحق النيران …نصف كيلو لحق خمسة الدراهم! واش عائلة عشرة النفوس يكفيها نصف كيلو عدس؟ !!…ربع كليو ديال السردين وصيت عليه بائع السمك بالشهر

! ” .. رأيت دموع امي .. ارتجفت يديها و هي تحمل قطعة صغيرة من الخبز .. لم تكمل كلامها …حاولت تهدئتها .. قلت و انا اتلقم لقمة.. ” .. انظري الينا.. كلنا نأكل العدس .. لذيذ و الله لذيذ ؟” يرد الكل “و الله الذيذ ..تسلم يدك.. ” ابتسمت بعيونها الحمراء المذمعة و لأنني لا أطيق رائحة زيت الشحم في الخليع، الذي عوضت به امي زيت الزيتون قررت ان ابتلعه بدون مضغ …قلت اعرف ان معدتي قوية.. لن اموت.. مستقبلي لامع كالاواني اليمنيوم اللامعة المرصوصة في مطبخنا …

تابعنا اكلنا بصمت .. انتهى برنامج الطبخ و حل محله برنامج ركن الدين و الدنيا” ارتبكنا…! تقول أمي اه مثل هذا الفقيه الجليل سينقرضون قريبا لن يعوضهم احد… ..” رد عمي الشاب “يا رب ينقرضون مع الديناصورات .. فرعو رؤوسنا بالحلال و الحرام! ” .. احشم من نفسك و استغفره! هل اصبحت صعلوك؟ ” نهرته أمي …الرسالة الاولى كانت على الميراث…”امراة حرمها زوجها من الميراث ” … قال الفقيه بلكنة فاسية “لا يجوز .. اللعنة عليه الى يوم الذين “ابن سرق ميراث أمه! ” رد الفقيه … لا حول و لا قوة الا بالله .. هذا ابن عاق و العياد بالله … فازدادت حرارة الإسائلة الى ان وصلت الى مواضيع النكاح و التناكح .. “رجل نكح سيدتان فهل يحل له ان يجمعهما في غرفته لكي يبعد عليهما نار الغيرة “..قال لا يجوز “رجل نكح زوجة.. سقط غراما بأختها .. هل يجوز ان يجمعها بأختها من باب درأ الفتنة فما قول الشرع؟ “…قال حرام “رجل يعزم على نكح ابنة تبناها و هي صغيرة”… قال لا عيب في هذا .. فان جاءها الحائض و قبلت فهي حلالا له طيبه…”امراة وطأت ابن جارتها خطا و هي حامل فما رأي الشرع في الابن الذي ستلده هل ابن حلال ام حراميا؟؟… حراميا طبعا.. هذا ما قاله الفقيه…زدنا صمتا..تقلصت اذننا تأهبا للمزيد من القنابيل و احمرت و جناتنا لكن قررنا ان نأكل طاجين السمك ساكتين و مستمعين … طلب مني أبي ان أقفل التلفزيون .. “فلنأكل في هدوء احسن ” .. امي قالت “ما بقى فهاد الدنيا ما يفرح! … في حصار …المرودا ورائنا و المساخيط امامنا في هاد التلفزيون اللعين.. “أخي الكبير تذخل “لا حياء في الدين ..اتركونا نستفيذ “.. لم يتمالك ابي اعصابه و رد … القيتي الخبز الحافي ؟؟؟ هو كتاب لمحمد شكري اقراه راه يفيدك ! “

صمتنا جميعا انتهت وجبة الغداء بتناول البرتقال ….قرأت “Made in Maroc.. …
و ضعت العلامة الثلاثية السوداء فوق جبهتي … ربما يوما سنشبع الخبز الحافي… ربما يوما سنرسل الصواريخ الى القمر و لم لا ربما يوما سنخترق الحولي المعمر …

رجعت لمطبخي .. قررت ان اطبخ وجبة العدس .. طاجين السمك مع اظافة فاكهة البرتقال … هذا هو الأكل الصحي الذي سيقهر كورونا … سأرسل الصور لأمي.. ستفرح بالصور …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube