احمد رباصمستجدات

مفهوم السعادة في فلسفة نيتشه (الجزء الثاني)

أحمد رباص – حرة بريس

باعتباره طالبا نابغة، حصل نيتشه عند بلوغه 25 سنة من عمره على منصب في الجامعة ولم يقدم ويناقش بعد أطروحته، وما لبث أن استقال من عمله بعد عشر سنوات. كان هذا هو الوقت الذي التقى فيه بالموسيقي فاغنر.
استقال ليعيش كرحالة بين إيطاليا وفرنسا وبوهيميا، وخلال هذه الفترة بلغت أعماله مرحلة النضج.
سوف تشهد نهاية حياته انحدارا إلى الجنون الذي لن يتعافى منه. بعد وفاته، حاولت أخته إليزابيث استخدام فكره لتعزيز معتقداتها النازية. سوف تنشر ملاحظات، وتذهبت إلى حد إعادة كتابة أجزاء منها. بهذه الطريقة تم تأليف كتابه المنشور بعد وفاته: “إرادة القوة”.
رأينا سابقا أن الحياة لا تميل إلى السعادة بالنسبة لنيتشه، الذي انتقد في هذه النقطة الفلسفات الكلاسيكية المؤسسة على مذهب السعادة*.
ينظر نيتشه إلى الحياة على أنها طاقة. إنها قوة حيوية تدفع جميع الكائنات الحية، من البكتيريا إلى الحضارة، إلى بسط قوتها على ما يحيط بها، لمحاولة الاستيلاء عليه، استيعابه، وهضمه من أجل إخضاعه لقانونها. هنا لا يوجد شيء أخلاقي أو غير أخلاقي، هي مجرد حالة: الحياة هكذا، إنها “إرادة قوة”.
لذلك فإن الحياة بطبيعتها يكتنفها التناقض الوجداني: فهي قوة خلاقة، نمو، ولكنها أيضا تدمير، عدوانية، مرض، حتى على مستوى الفرد نفسه. ويحدث أن يكون هذا هو الجانب المظلم الذي يحتل غالبية المجال، كما هو الحال عند المكتئب أو المنتحر. من هنا نستنتج أن أفق إرادة القوة هذه، وإرادة الحياة هذه لن يكون ولا يمكن أن يكون هو السعادة. ذلك أن النباتات والحيوانات والكائنات البشرية مدفوعة بالرغبة في القوة وليس بالرغبة في السعادة. أكثر من ذلك، يعني التناقض الوجداني في الحياة أنه حتى داخل الفرد، هناك شيء ما يقاوم بالفعل
السعادة.
ومع ذلك، فليست المأساة هي قدرنا. السعادة ممكنة، ولكن كما لو نعيشها “جانبا”، كانبثاق ثانوي للحياة، شريطة ألا نخدع بشأن طبيعة السعادة وأن نكون مستعدين لاعتناق قواعد اللعبة.
الشرط الأول للسعادة هو القدرة على النسيان. التعلق بالماضي، سواء كان إيجابيا في شكل حنين أو سلبيا في شكل استرجاع صدمات نفسية، لا يمكن أن يؤدي سوى إلى الإصابة بالشلل من منظور نيتشه.
يجب علينا في المقابل أن ننسى المستقبل، أي ألا نفرط في الترقب، وألا نكون مدركين تماما للعواقب المحتملة لأفعالنا. هنا، مرة أخرى، يمكن للدوار إلا أن يشل قدراتنا. النسيان، الذي يمحو آثار الماضي ويشوش المستقبل، يخلص الفعل مما يمكن أن يوجهه توجيها خاطئا، وبالتالي يجعله أكثر فعالية.
لذلك فإن للنسيان دورا مزدوجا في السعادة: فهو يربطنا بالحاضر ويسمح باكتمال قوتنا. لذلك نجد عند نيتشه الفكرة المتداولة التي مفادها أن السعادة تتطلب اهتماما فوريا والفكرة السبينوزية التي تعني أن زيادة قوتنا تجلب لنا السعادة.
لكن، يجب اولا التخلي عن النظر إلى السعادة كسلام للروح. السعادة، عند نيتشه، تستمد فعلها من التناقض الوجداني في الحياة ، إنها مصالحة مع التعاسة.
لا يعلمنا نيتشه كيف نتجنب المصائب، أو نفك ارتباطنا بأشياء العالم من أجل فقدان الإحساس أو استقبال المصيبة بـ “حكمة”. على العكس من ذلك، فلسفة نيشه حول السعادة هي احتضان كامل للتعاسة على حقيقتها كعنصر من عناصر الحياة. أن تحب الحياة، أن تكون سعيدا، هو أن تحبها بما تحتويه من مصائب وأن تعبرها العبور كله، كما سبق القول.


(*) eudémonisme
نسبة إلى إيودامونيا، مذهب يرى من اللازم أن نعرف من أنفسنا، أن هناك حاله معينة يكون فيها العقل مستعدا ليصل إلى هذا الإزدهار، إلى هذه الحاله من الرضا الداخلى، ما عرف عند اليونانيين القدامى بالإيودامونيا، أي التقدم أو الإزدهار أوالرفاهية.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube