شخصياتمستجدات

في ذكرى رحيل الربان وضياع البوصلة كل شيئ

عبد الرحمان غندور

استفحل اليوم في الدولة والمجتمع ومؤسسات التأطير والفعل من أحزاب و نقابات وجمعيات…وقد كان كل شيء يوم وفاة الفقيد عبد الرحيم بوعبيد يؤشر على شروط التحول التدريجي نحو الممكن الذي كان يتصوره الراحل لفائدة المغرب والمغاربة. واستحضارنا لروح الفقيد في هذا الظرف بالذات، بعد أزيد من ثلاثة عقود على غيابه، يحيلنا بالضرورة على طرح سؤال عميق،وهو السؤال الذي يخامر كل المناضلات والمناضلين الأوفياء، بل يخامر حتى الذين أصبحوا ضحايا ضعف قدرتهم على المقاومة والممانعة لإغراءات المنظومة التي قاومها السي عبد الرحيم ورفاقه طويلا، أو أولائك الدين انعدمت لديهم المناعة الضرورية التي كانت تحميهم من فيروسات المؤسسات التي ظلت وظيفتها الأساسية هي تصفية الطاقات والأخلاق النضالية للناس. إن السؤال العميق الذي يفرض نفسه على الجميع هنا و الآن هو : ماذا تبقى من السي عبد الرحيم؟ نطرح السؤال خاصة وأن الحزب الذي بناه الفقيد تحت سياط الجلاد، ومن زنازن المعتقلات، ومخافر التعذيب، وقسوة المنافي، يعتزم عقد مؤتمر ” مفبرك ” على المقاس بأساليب تؤلم دون شك روح الفقيد، كما تؤلم المناضلات والمناضلين الذين حرصوا على الوفاء للقسم الذي أدوه في مققبرة الشهداء أمام جثمانه يوم وفاته.لا نتبنى الفكر التقديسي للأشخاص والأفكار والمواقف. ولكننا نسعى إلى الفهم من أجل التجاوز الايجابي، لاسيما إذا كان الشخص أو الفكرة أو الموقف، لا زالوا يحافظون على راهنتيهم، و قابلين للتحيين، و لم يستهلكهم التقادم مثل السي عبد الرحيم قكرا وسلوكا وقيما.لا زال عبد الرحيم الى جانب المهدي و عمر يلهموننا عندما نعاين واقع الوطن وحال الحزب ومتاهات الوضع السياسي العام بانزلاقاته وانحرافاته و التباساته.تتعدد المقاربات والتحليلات لدى المناضلين المهووسين بنبل الأفكار والمواقف، بل لدى حتى الذين يرون في الماضي عقدة يجب القطع معها، ويحكمون على غيرهم بالسذاجة والرومانسية البلهاء والماضوية المنغلقة. الجميع هنا والآن وكل المقاربات تكاد تجمع على أن هناك انهيارات عميقة وقاتلة تطال المجتمع كما تطال تطال حزب القوات الشعبية. وقد تختلف التشخيصات والانطلاق من هذا العنصر أو داك، وتختلف تبعا لذلك الاستنتاجات والمواقف. و لكن ما لا يمكن الاختلاف فيه، هو أن وضع الاتحاد الاشتراكي اليوم هو الأسوأ والأردأ عبر كل تاريخه، وأن وضعية الوطن مقلقة إلى حد كبير ولا تدعو أبدا إلى الاطمئنان، وأن الفعل السياسي تجرد من كل مصداقية، وأن بنية القيم طغى عليها الاستهجان والابتذال والرداءة الى حدود السفاهة، وأن الانحطاط العام اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا و أخلاقيا أصبح هو عنوان مغرب اليوم.هنا يستلزم استحضار الدرس البوعبيدي. فهذا الرجل مند أن كان، و هو يفكر و يعمل من خلال مستويات مترابطة ومتداخلة ويصعب تفكيكها.رجل اعتمد المعرفة نبراسا أساسيا للعمل. لم يكن يركن للنظريات الجاهزة. بل كان يسعى لمعرفة المعطيات التي تؤطر الواقع، سواء تعلق الأمر بالفهم الجيد لطبيعة الحاكمين، أو تعلق بفهم حاجيات الناس وقدراتهم وطاقاتهم على الانخراط في تحسين أوضاعهم. كان عارفا بطبيعة الدولة واكراهاتها وبالمجتمع ومتطلباته. هذه المعرفة التي كانت تمكنه دوما من الالتقاط الحدسي الرائع لطبيعة اللحظة التاريخية والفعل الإرادي الخلاق القادر على التفاعل معها وتكييفها لفائدة ما يخدم الوطن ويقوي حزب القوات الشعبية.عبد الرحيم الكائن الممارس للفعل المعرفي، جعل الوجدان خادما لهذه المعرفة وموجها لها. فليس في قاموسه معرفة محايدة. إنها المعرفة النابعة من حب هذا الوطن والساعية لخدمته . ولقد ودعنا وهو يقول في آخر اجتماع حضره للجنة المركزية قبل وفاته بأسابيع قليلة: ” إن ما أسديناه من أجل الوطن، ليس هو الكمال، ولكنه خرج من صميم الفؤاد طاهرا نقيا ” إن الفقيد أيضا سلح معرفته ووجدانه ببنية قيمية عصية على الاختراق و صلبة أمام الإغراءات و المساومات و التواطؤات و المؤامرات.و هنا نستحضر الرجل في هذا الزمن المبتذل حيث التسطيح المعرفي بتبريراته المراهنة أحيانا والمقامرة في أغلب الأحيان. والفراغ الوجداني الذي ارتبط بمحبة الزائل والمتحول والمتغير. والتفكك القيمي الذي لا يرى قيمة الأفكار والمواقف إلا في ما تجلبه من منافع ذاتية ،شخصية، ومغرقة في الفر دانية. والانتهازية والوصوليةعاش السي عبد الرحيم مغرب الأزمات الكبرى التي هددت كيانه ووحدته وتاريخه أكثر مما هددته “السكتة القلبية”، أو انتكاسة فشل النماذج التنموية، أو المؤامرات الخارجية. كما عاش أوضاع حزب القوات الشعبية مند نشأته بكوارثها الاستئصالية من طرف النظام مند بداية الستينات بمختلف محطاتها( دون استعراضها لأننا لا نؤرخ) حيث دخل المغرب أقصى درجات الفساد والتسلط والنهب والحكم الفردي والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والقهر الاجتماعي……مما جعل حزب القوات الشعبية يعرف بسبب معارضته، أقصى درجات القمع والتنكيل والإقصاء ألاستئصالي. وعاش سي عبد الرحيم إلى جانب كل ذلك، محنة انقسام مكونات حزبه بين نزعة انتظارية متواطئة، ( قيادة الاتحاد المغربي للشغل) و نزعة انتحارية مغامرة ( التوجه البلانكي الثوري). وكان الوضع عموما يحمل عنوان وطن في حالة نهب وتفقير مستمرين وحزب في حالة انقسام كارثي يؤدي عليه المناضلون في الداخل ضرائب قاسية من أرواحهم و حرياتهم وأرزاقهم.و إلى حدود بداية السبعينات و أمام الأزمة الشاملة في الوطن و الحزب، و إجابة على سؤال المرحلة. تجلى الدرس البوعبيدي الذي صاغه عبد الرحيم مع عدد من المناضلين الأوفياء الذين لم يفقدوا الأمل. و كان الجواب هو القطع مع الانتظارية المميتة( قرارات 30 يوليوز 1972 ) والتحضير لمؤتمر استثنائي يحدد معالم الطريق، ويبني الاختيارات الفكرية الواضحة، و يرسم آليات العمل، و يصنع أداة الفعل.لقد بلغت الأوضاع مع محاكمة مراكش (1970) و الانقلابان العسكريان(1971—1972) وأحداث مولاي بوعزة و كلميمة…(1973) قمة جدلية الفشل. فالبنيتان المتصارعتان، بنية المخزنة من جهة و بنية الدمقرطة من جهة ثانية، كلاهما أعلنتا، كل بطريقته، عن فشلهما. فالمخزن يحاكم جيشه وعدد من وزراءه والحزب يودع انتظاريته وانتحاريته. وهنا الدرس الاتحادي الذي قاده السي عبد الرحيم إلى جانب رفاقه، فكانت التركيبة الرائعة لجدلية الفشل والتي تجيب عن سؤال اللحظة التاريخية وكان المؤتمر الاستثنائي.إن إستراتيجية النضال الديمقراطي التي سيعرضها السي عبد الرحيم في عرضه السياسي و سيؤدلجها عمر في تقديمه للتقرير الإيديولوجي كانت الدرس السياسي القوي و الفعل الثوري الذي تستدعيه المرحلة والذي راهن من خلاله السي عبد الرحيم على ضرورة تحقيق التراكم الايجابي عن طريق التجذر وسط الجماهير المعنية بالدمقرطة و تغيير موازين القوة لفائدة حركة التغيير. و هو الشيء الذي بدأ يتحقق بمجرد الدخول في أول تجربة انتخابية في أكتوبر 1976 .راهن الدرس البوعبيدي مند انطلاق مسلسل إستراتيجية النضال الديمقراطي على البعد النظري الذي يقوم على أساس الملاءمة بين المواقف المبدئية والتطورات الحتمية . كان السي عبد الرحيم عارفا بأن النظام المخزني لن يتحول إلى نظام ديمقراطي بين عشية و ضحاها. فالتزوير آلية المخزنة، و الدفاع المستميت عن الديمقراطية آلية الدمقرطة. و لذلك أجاب في المؤتمر الثالث (1978) عددا من المناضلين الداعين إلى العودة لمقاطعة الانتخابات بقوله: ” علموا الناس كيف تدافع عن أصواتها فهده وظيفة و مهمة المرحلة”مع انطلاق هذا المسلسل راهن الفقيد على تقوية الأداة الحزبية و تغلغلها وسط الفئات الجماهيرية المعنية بالتغيير، و هكذا كان موقفه حاسما من قرار اللجنة العمالية الوطنية في 1978 القاضي بتأسيس منظمة نقابية بديلة. فكانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل و التي شكلت أداة ضرورية في أغناء و تطوير حركة الدمقرطة و التغيير.لقد كانت رهانات الفقيد ثلاثية الأبعاد ، الوضوح الفكري، و الأداة المتجذرة، و الممارسة الفاعلة، وبذلك استطاع الاتحاد الاشتراكي بقيادة السي عبد الرحيم أن يغير فعلا من ميزان القوى ، و أصبح خطابه فاعلا في الدولة والمجتمع، وأداته أكثر جاذبية للكادحين والمثقفين والشباب والنساء، وممارساته وسط الجماهير أو في الواجهات ذات قيمة إضافية وسط الناس وفي أعين الحاكمين.يعلمنا الدرس البوعبيدي أن القائد السياسي يمكن أن يكون رجل دولة بامتياز. والسي عبد الرحيم شارك كوزير دولة من موقع المناضل المعارض الذي يعرف كيف يضع المسافات والحدود بين موقف الدولة وموقف الحزب. دون أن تبتلع الدولة الحزب، ودون أن يتمسك الحزب بمعارضة دوغمائية عمياء. كان بوعبيد متشبثا بالبحث عن المعادلات الصعبة التي يتكيف فيها الموقف المبدئي مع التطورات الحتمية. و عندما يستعصى الأمر يصبح الموقف المبدئي هو الأساس المعتمد في اتخاذ القرار. و هذا ما أدى بالقائد الكبير إلى أن يعلن الموقف المبدئي من قرارات نيروبي فيما يتعلق بالقضية الوطنية ليؤدي بذلك ضريبة هذا الموقف بقوله داخل المحكمة:” رب السجن أحب الي مما يدعونني إليه”.اليوم وبعد ثلاث عقود على غياب القائد، ونسيان درسه التاريحي من طرف ورثته قي ” قيادة ” الحزب. نستشعر كمناضلين الخسارة الكبرى في فقدان البوصلة والربان. وليس بين يدينا إلا الدرس البوعبيدي. فما الذي سيقوله السي عبد الرحيم لو نهض الآن؟ و هو لن ينهض إلا في قلوب و ضمائر المناضلين الدين يعاينون ما وصله حزبهم و وطنهم ليسألوا دواتهم : ماذا تبقى فيهم من السي عبد الرحيم ؟الوطن اليوم أصبح محلبة كبرى للطامعين القدماء و الجدد.التراكمات الكمية المفترى عليها لم تحقق الانتقال النوعي المعلن عنه.الحقل السياسي المغربي اليوم يعرف أقصى درجات الميوعة والرداءة التي بلت حدود السفاهة. الفعل السياسي فقد نبله وتحول إلى انفعال تابع يثمن و يبارك ويصفق ويرتمي وراء كل موقف يخدم مصالح أصحابه.لائحة رصد الترديات و التدنيات طويلة يصعب حصرها.وفي هده اللحظة بالذات وحزب عبد الرحيم يتجه إلى عقد مؤتمره الحادي عشر، وهو يسائل شرعية ومشروعية أهله وهياكله وأجهزته وقوانينه وقراراته، ويسائل أكثر من ذلك استقلاليته التي انعدمت بشكل نهائي مع القيادة الحالية، ألا يبدو أن الحزب يعيش انتظارية جديدة تحكمها التعليمات الصادرة عن الدولة العميقة التي كنا أول من سماها بالحزب السري.؟ألسنا نعيش انتحارية جديدة من واقع الابتعاد عن عمقنا الجماهيري والارتماء الانبطاحي في مربع المصالح والبراغماتية المؤدي إلى الموت الجماعي؟. ألا نعيش انتظارية المواسم الانتخابية التي فقدت كل بعد ديمقراطي استراتيجي و أصبحت مناسبة لكل شيء إلا الديمقراطية؟ . ألا نعيش انتحارية العزوف السياسي الذي حول المواطنين إلى بضاعة انتخابية في سوق رديئ، يسهل اقتناؤها لمن يدفع أكثر، كما كشفته استحقاقات 8 شتنبر 2021؟ وأخيرا و ليس آخرا ألا نعيش انتظارية الريع السياسي و الحصة الغنائمية التي تمنح للفاعلين كمقاعد أو مناصب او مواقع أو أموال للدعم؟ و نعيش انتحارية القضاء على ما تبقى من حزب هز الدنيا وشغل الناس؟لا إمكانية للإجابة على مرارة هده الأسئلة إلا باستحضار الدرس البوعبيدي الذي يفتحنا على الأمل، وأن نقف أمام روحه و أمام ضمائرنا لنستخلص العبر. فلقد كان حزب القوات الشعبية فضاء للعطاء بنكران كبير للذات وتحول اليوم إلى فضاء للأخذ وإرضاء مطامع الأشخاص فقط.ما أحوجنا إلى عبد الرحيم من جديد. وحتى نكون مخلصين لروحه وأوفياء لما رددناه في جنازته ” بوعبيد ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح” علينا جميعا أن ننبد الانتظارية الجديدة والانتحارية الانزوائية التقاعسية القاتلة. والانبطاحية المرتمية في مستنقع الريع بدون حدود. فخدمة هذا الوطن والحزب الآن تبدأ من الجواب على سؤال :أي حزب لأية مرحلة ؟ لا نريد للإرث الاتحادي والتاريخ النضالي لليسار بشكل عام أن يضيع، وسط هجمة التمييع التي تقودها دولة العمق والسطح، وتباركها فلول الانتهازيين الطامعين في الربح السريع، وتنبطح لها القيادات ذات النفس البراغماتي الهجين. ولا نريد استنساخ التاريخ واستعادة أمجاده التي لن تعود. بل علينا استحضار المعرفة النقدية العالمة كما امتلكها سي عبد الرحيم، واستحضار مبدء الملاءمة العالمة بين المواقف المبدئية والتطورات الحتمية، وإحياء الوجدان الصادق الذي يحب الوطن بدون حسابات، وإعادة بناء منظومة القيم في التفكير والقول والفعل.فالمؤتمر الذي يحضره ” الزعيم ” الحالي لحزب سي عبد الرحيم، لن يجيب على هذه الاشكالات. مما يجعلها قضايا لا تخص الاتحاديين فقط، بل هي قضايا جميع اليساريين والتقدميين والمثقفين المتنورين وكل الديموقراطيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube