احمد رباصمستجدات

نيتشه ينظر إلى الجسد كسيد على الروح (الجزء الأول)

أحمد رباص – حرة بريس

وبينما كنت في منتصف نهار اليوم أتصفح فضاء الفيسبوك، وقع نظري على نص مصوغ بأسلوب جميل من قبل، صديقي المعانيد الشرقي ناجي أحد نشطاء التنوير في بلادنا المنضوين تحت لواء جمعية أصدقاء الفلسفة.
في الحقيقة، ما الفت انتباهي لهذا النص ليس فقط جمال الأسلوب الذي كتب به، وإنما كذلك الأهمية التي يكتسيها الموضوع الذي يتحدث عنه النص: الجسد في فلسفة نيتشه.
من الصيغة التي جاء بها العنوان، أدركت أن صديقي الشرقي المعانيد يريد تناول هذا الموضوع ضمن سلسلة من المقالات، من خلال ترتيب نصه كجزء أول، وهذا ما لم أهمله وأنا بصدد إعداده للنشر على صفحات حرة بريس.
وهل كان لا بد من أن أقف عند هدا الحد واكتفي بنشر الجزء الأول من سلسلة مقالات الشرقي المعانيد حول مفهوم الجسد عند فيلسوف كبير كنيتشه، وأتركه بالتالي يكتب الأجزاء الأخرى تباعا؟ لكن انطلاقا من الصفة الملازمة والمرادة لمنبرنا الصحفي والإعلامي والمشتقة من الحرية التي تعني المبادرة والاختلاف والحوار..إلخ، فقد تراءى لي فضل الدخول مع صديقي في حوار فلسفي حول نفس الموضوع من خلال الشروع في نشر سلسلة موازية، تروم إغناء النقاش وضمان تعددية في الرؤية وكيفية المقاربة..

بالنسبة للتقليد الفلسفي، سواء عند أفلاطون أو في الفكر المسيحي، تشكل الروح والجسد جزأين متميزين في الإنسان. أكثر من ذلك، يمنح هذا التقليد الفلسفي الروح تفوقا على الجسد. يتعارض فكر نيتشه مع هذه التراتبية التقليدية بين الجسد والروح. يأتي الجانب الابداعي والخاص للفكر النيتشوي قبل كل شيء من وضعه للهذا التقسيم بين الجسد والروح موضع سؤال ونقاش.
إذا كنا في الغالب تتمثل فكر نيتشه كإعادة تقييم بسيطة للجسد في علاقته بالروح، فإن فكره يعيد النظر تماما في مفهوم الجسد لأنه يسائل الفصل الكلاسيكي بين الروح والجسد.
يقوم فكر نيتشه عن الجسد على تعارض تام مع التقليد الفلسفي القديم والمسيحي: تتعارض نصوصه مع أفلاطون (الفكر القديم)، مع المسيح (الفكر الكاثوليكي) كما تتعارض مع سخافة “الحشود” وجهلها.
“بقدر ما يذهب أحدنا بعيدا في معرفة ذاته، فلا شيء مع ذلك يمكن أن يكون أكثر نقصا من صورته عن مجموع الغرائز التي يتشكل منها كيانه. بالكاد يمكنه تسمية تلك الأكثر وقاحة بالاسم”، يقول نيتشه في كتابه “الفجر”،
[Aurore, II, §119 (in OPC, IV, trad. J. Hervier, Paris, Gallimard, 1980].
يتكون الإنسان فقط من الغرائز (سوف نقف عند تعريفها لاحقا). يؤكد نيتشه أن الحشود والفلاسفة يتجاهلون الغرائز – الأخيرون (الأفلاطونيون والمسيحيون) لم يحاولوا أبدا التعرف عليها. هذا الجهل هو سبب استمرار الأحكام القبلية الخاطئة، بل الضارة، ذلك الاستمرار الذي فرض تفوق الروح على الجسد.
في التقليد الفلسفي، تمثل الروح الثبات والجسد التحول. القدماء، مثل القديس أوغسطين، التقليد المسيحي والحشود يفرضون الثبات كمعيار للقيمة من أجل ترتيب الأشياء: كلما كان الشيء ثابتا وغير متحرك، زاد تقديره. ولهذا السبب تتفوق الروح على الجسد في التقليد الفلسفي. أكثر من ذلك، بما أن الروح أكثر موثوقية من الجسد، لأنها ثابتة، بينما الجسد متحرك، فإن الاستنتاج الذي استخلصته الحشود وهؤلاء الفلاسفة من هذه الفكرة هو أن الروح أكثر واقعية من الجسد، ما يبرر مرة أخرى تفوقها على الجسد.
انكر نيتشه تماما هذا الادعاء بأن الروح أسمى من الجسد. فمن ناحية، تخلى عن معيار الثبات كمعيار للقيمة، وأعاد القيمة للتحول والحركة بدلاً منه.
من ناحية أخرى، نفى أيضا هذه التراتبية بين الروح والجسد من خلال التأكيد على أن الفكرة التي تبررها، أي كون الروح أكثر واقعية من الجسد، هي بالنسبة له حكم مسبق خاطئ وضار. على العكس تماما، وفقا لنيتشه، الجسد أكثر واقعية من الروح. الجسد ليس مسؤولاً عن سوء تأويل الواقع: إذا أخطأنا في الحكم على الواقع، يوجه اللوم للروح. عندما تؤول الروح الواقعي، أي عندما تقحم فيه ثباتا، انتظاما، تخون الواقعي، لأنها تضيف عناصر لا يمتلكها الواقع.
تقتضي ماهية الواقع بالتحديد خلوه من الثبات والانتظام؛ لأن الواقع هو التحول وعدم الانتظام. ترغب الروح، من جهتها، في إقحام الثبات، من خلال، مثلا، تحديد القوانين التي تحكم الواقعي والانتظام. إنها تبدع المفاهيم، من خلال، مثلا، إنشاء مقولات لتفكيك الواقعي من أجل تحليله وتفسيره ”. إن غرائز معينة تفسر ماهية الروح، وبالتالي فهي مسؤولة عن هذا التشويه للواقعي. إن غريزة الأمن على وجه الخصوص هي التي تدفعنا إلى عقلنة الواقعي ما دام ذلك يسمح لنا بالتحكم في الواقعي، وبأن يصبح الإنسان “سيد الطبيعة ومالكها” (ديكارت).
باختصار، الروح بالماهية تعقلن الواقعي لتضفي عليه ثباتا، انتظاما حتى تزيح عنه كل الغموض الذي يلفه. وهكذا، من حيث ماهيتها، التي تحملها على إقحام الثبات في حيز لا يوجد فيه، تخدعنا الروح (والغرائز التي توجهها) في شأن الواقعي.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube