اقواسمستجدات

الجسد في فلسفة نيتشه (الجزء الأول)

المعانيد الشرقي ناجي

نزولا عند رغبة أعز الأصدقاء الذين تربطهم بشخصي أنبل الوشائج في الفضاء الأزرق وخارجه، ودعوة منهم بأن أقدم مقالات حول فلسفة الجسد، وجدتُ نفسي أمام مسئولية جسيمة تتمثلُ في تقاسم رحيق المعرفة الفلسفية لتصبح أمراً مُشاعاً وليس حِكرا على أهل التخصص فقط، ومن القيم التي نشأت عليها، عدم احتكار المعرفة لذاتي، سيرا على مبدأ المقولة المأثورة ” إن كل شيء يُقتسم يضيع وينقص، إلا المعرفة عندما نقتسمها مع الغير تزداد.”
ولهذه الغايات النبيلة، سأفتح شهية القُراء الرفاق والرفيقات على موضوع فلسفي يقترب من الجسد ويتخذه موضوعا للنبش والحفر الفلسفيين على أساس إقامة المعنى عبر الربط المفاهيمي بين الجسد كتجلٍ للحياة وتدفقها وبين الفلسفة التي تعمل دوما على تفكيك المفاهيم وإخراجها من صمتها حتى تنطق بالحقيقة التي لن تكون سوى التجلي في الجسد.
لكن قبل القبض على الجسد وإدخاله إلى مِشرحة الفلسفة، كفيل بأن نضع أرضية كمنضدة نضع عليها الجسد كي نفحصه فحصا فلسفيا بغاية فهم ما ينطوي عليه، وإفهام الناس بأن الإقتراب منه ليس خطيئة كما ادعى قساوسة الكنيسة في فترات الصمت العقلي مهابة المثول أمام محاكم التفتيش.
ولذلك، سأبدأ بمقولة للفيلسوف فريدريك نيتشه عن الجسد يقول فيها في كتاب ” العلم المرح ” ( كثيراً ما سألتُ نفسي إذا ما كانت الفلسفةُ، في المُجمَلِ وحتَّى اليوم، تأويلاً للجسد وفي الوقتِ نفسه سوءَ فهمٍ للجسد”.) هذه هي الأرضية التي اعتبرتها منضدة تشريح الجسد وفلسفة لتأويل معانيه ليس داخل مجال تراتبي أو زوج مفهومي كما عمل أفلاطون جسد / روح وإنما اتخاذ الجسد كتجلٍ وهاج للحقيقة الإنسانية.
فإذا اختزلنا الإنسان في الروح أو العقل، فإننا لا محالة سنصبح مومياءات مُحنطة، إن نيتشه اعتبر نقطة انطلاقه لتأويلات الفكرة بما هي جسد لا نفس كما اعتبرها ديكارت، لأن معرفة الجسد بحسب نيتشه أكثر جلاء من معرفة النفس، بل الأنكى من ذلك يعتبر فيلسوف المطرقة الجسد والنفس وحدة واحدة لا تقبل التجزيء، فالجسد والروح جزءان متواشجان لا يقبلان الإنفصال.
إذا كانت المعرفة العلمية اتخذت الجسد موضوعا للدراسة والتحليل من حيث كونه بنية من الأعضاء تؤدي وظائفها في تناغم وتناسق، فإن نيتشه اعتبر الجسد تعبيرا عن الحياة وبكثافة عبر الربط الفيسيولوجي لوظيفة الجسد ( الجنس، التغذية التناسل؛ أي الأبعاد الطبيعية..) بينما الفكر ليس سوى شكل من الأشكال المشتقة من الجسد، فإذا كان المظهر الذي يتحدد به الجسد كجوهر فلا يمكن للإنسان أن يختبئ وراء مظهره، وأن المظهر هو الحقيقة بجلاء.
وإذا كان المظهر سوى الإمتداد بتعبير رونيه ديكارت، فإن هذا الإمتداد لن يكون سوى الحواس في التقائها بالعالم الخارجي، وحسب نيتشه، فإن الجسد كمظهر يتجلى عبر الحواس التي تمدنا بمعطيات الواقع، فعلى سبيل المثال، الموسيقى التي اعتبرها نيتشه شهقة الحياة حيث أن حاسة السمع تنقل إلينا نغم الحياة، فهناك إمكانيات كثيرة نعبر بها من خلال الجسد، لكن الطريقة الفريدة التي لا يمكننا إنكارها هي الرقص على أنغام موسيقى فاغنر.. لهذا فالحواس باعتبارها نوافذ الجسد على العالم الخارجي، تمده بإيقاع الحياة فيرقص الجسد في تماهٍ تام مع مقامات أعدت لأناشيد الكورال الألماني كما عبر عن ذلك نيتشه في فترات الإنحطاط المسيحي. إن الجسد لعنة بحسب القساوسة ورجال الدين عموما، بل هو الخطيئة التي اعتبروها تُطارد الإنسان وتدفع به إلى جحيم ميتافيزيقي مَقتهُ نيتشه من الجذور وعمل على خلخلة هذه النظرة الضيقة تجاه الجسد.
إن الحياة بأكثر جلائها تتحدد من خلال الجسد الذي يعطي للروح وهجها عبر سقي المشاعر بأناشيد الحياة، يقول نيتشه في هذا الصدد: ” لولا الموسيقى، لكانت الحياة غلطة كبيرة.” إن نيتشه بتمجيده للجسد، يضعنا أمام كونه الفيلسوف الطبيب الذي يُعطي جرعات فكرية للجسد رغم ما يلحقه من ضعف ووهن بسبب المرض، لذلك، يقول: ” من الألم يخرج الإبداع.” إن المرض حسب نيتشه ليس نفي للحياة، بل هي فترة نقاهة الجسد واستعداده لخوض أكثر المعارك ضرواة لتمثيل إرادة القوة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube