ثقافة وفنونمقالات الرأي

أدبنا العربيّ ودوره في حضارة الغرب

د محمد بدوي مصطفى

القارئ للأدب العربي الآني عند الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وعند يحيى حقي في قنديل أم هاشم وعند توفيق الحكيم في عصفور من الشرق ربما يلتمس بعض من تداخلات أسلوبية ومهارات سردية جمة تتسم بالازدواج بين العالم العربي والغربي. وهكذا كان حال قدامى الغربيين عندما افتتنوا بالأدب العربي فنهلوا من معينه إلى أن طوروا آدابهم ووصلوا بها إلى درجة العالمية. إن هذا المقال ينشد استخلاص العبر والتدبر فيما كان وما يجب أن نلجأ إليه ونحن في محنتنا الثقافية الحالية. وهل تعلمون أن العالم العربي بأجمعه، من الخليج إلى المحيط، لا ينتج – وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا – حتى ٥٪ من الإنتاج الثقافي لدولة إسبانيا فقط، المتمثل شكل ثمار العقل من المؤلفات المكتبية. وهاهنا أعطى بعض الأمثلة لذلكم التمازج الثقافي والتلاقح الأدبي ولما فعله الغربيون عندما كان إنتاجهم الثقافي لا يصل إلى ١٪ من إنتاج العرب. فأين هم الآن وأين نحن؟
كما نعلم بقيت القافية في الشعر الأوربي (إن جاز التعبير) إلى يومنا هذا دليلاً بينا يرمز لفضل العرب على الأدب. لقد كان اهتمام الشاعر العربي في تكوين قصيدته بقافية رنانة ومقدمة عصماء تشحذ وتشد انتباه المستمع، ملكت على شعراء الغرب ألبابهم، خصوصاً مما تضفيه تلكم القافية من رونق لحني َ على المضمون. فأخذوا يقلدون ألوان الشعر العربيَ. فالزجل فن من فنون الأدب العربي ذاع في الأندلس ومنها انتقل إلى جنوب فرنسا وكانت نتيجة هذا الامتزاج الأدبي ظهور شعر الشعراء الجوالين أو شعراء التروبادور في إسبانيا ومنهم من كانوا يكتسبون لقمة العيش في الطرقات بإنشادهم الأشعار على أنغام الموسيقى. والجدير بالذكر أن الأغاني التي كان يتغنى بها هؤلاء الشعراء توحي من حيث موضوعاتها وأساليبها وطريقة إنشادها بأنها من أصل عربي. فنحن نجد كثير من التماس الأدبي في موضوعات الحب العذري والحنين إلى الحبيب مما نجد أصوله في قصص الحب العذري عند عنترة وقيس من القدامى وعند ابن زيدون وعند ابن حزم الأندلسي في ” طوق الحمامة في العشق والعشاق “. وأخيراً يجب ألا ننسى أن ابن غزمان أشهر الزجالين في الأندلس كان معاصراَ للأوائل من شعراء التروبادور.


أما فيما يتعلق بفن القصة، فكانت القصص الحيوانية الذائعة في العالم الإسلامي آنذاك فناً من الفنون التي لم تعرفها الآداب الأوروبية فاقتبستها وصارت فنا من فنونها وتطورت بعد ذلك. وقد ساعد على نقل هذه الأقاصيص التجار والرحالة وطلبة العلم والمترجمون، فبفضلهم وبفضل أدباء المسلمين تعرَفت أوروبا على قصص الخرافات الحيوانية ككليلة ودمنة عبر اللغة العربية ونقلاً من الأصل الهندي “باشا تنترا” إلى الفارسي فاستوحى منها الأديب الفرنسي لافونتين قصصه الخرافية المعروفة ب “لي فابل دو لا فونتين” (تعني: القصص الخرافية للكاتب الفرنسي جان دو لا فونتين الذي عاش في القرن السابع عشر).
ومن المدهش أن أهل الغرب ذهبوا إلى نطاق وعر آخر وحاولوا فك طلاسم فن المقامات التي نعرفها في الأدب العربي عند بديع الزمان الهمذاني وعند الحريري. لقد اشتهر فن المقامات كما نعلم بشخصيات معروفة كالحارث بن تمَام. فظهر في القرن السابع عشر في الأدب الإسباني فن يشابه فن المقامات لأبعد الدرجات، فالبطل يتمتع بصفات بطل المقامات الحريرية أو الهمذانية بذكاء شيطاني في ابتداع الحيل وخلق الألاعيب لكسب الرزق، فبطل المقامات الإسبانية، إن صح التعبير، يدعى بيكارونPicaroon وهو متشرد يكسب رزقه عبر الحيل. لقد وجد هذا الفنّ رواجا وقبولا كبيرا عند أهل الغرب سيما في شبة الجزيرة الإبرية.
وفي فن القصة القصيرة لم يتوانوا في التهام كنوز الأدب العربي. فمن القصص التي ذاع صيتها ووجدت رواجاً فائق المدى، هي قصص ” ألف ليلة وليلة ” والتي ترجمت في فرنسا بين عامي ١٧٠٤ – ١٧١٧ وظل المؤلفون يعتمدون عليها في أعمالهم الأدبية. من جهة أخرى نذكر أن من الأدباء الألمان الذين تأثروا بهذه القصص هوجو فون هوفمانستال والشاعر جوته والأديب ريلكه. وكان نجاح هذه القصص يقوم على أنها ملأت مخيَلة الأديب الأوروبي بخيال خصب وأفكار فردوسية نقلته من واقعه المرير الممتلئ بالحروب والصراعات الكثيرة المعروفة إلى حلم بديع ينبض بصورة خيالية سحرية جنونية فكانت القصص عبارة عن نافذة تطلَ على عالم بديع يتسنى لكل ظمآن أن يشفي عليل خياله منه. ويستشهد المستشرق الإنجليزي وارتون في كتابه تاريخ الشعر الإنجليزي الذي نشر عام ١٧٧٠ أن الحركة الرومنطيقية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر التي حملت أفكار تعبر عن الخيال والقلب والشعور وإدراك الجمال بدلاً من الحركة الكلاسيكية التي اعتمدت على العقل والمنطق، هي بلا ريب، نتاج عربي خالص. وأن قراءة الكوميديا الإلهية لدانتي تشهد بتأثره بالتراث الإسلامي العربي. أيضاً نجد نفس الأثر عند فيكتور هيجو في مقدمة ديوانه الشرقيات ولقد تعرض الكاتب في ديوانه هذا لذكر الحياة الشرقية ومدن الشرق كما في القصيدة التالية:

نجمي هو الشرق، إقليم ساطع،
حيث الشمس زاهية كملكة في خيمتها!
قرصها يتنزَه في سماء دائمة الصفاء
هكذا تحمل الأمير ذي بقعة ثرية
على أنغام الناي المقدس
شهرة سفينة ذهب على بحر أزرق
فهل لنا في هذه السيرة من عبر؟!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube