ثقافة وفنون

عبد السلام مستاكو : ذكرياتي مع المرحوم


ذ عبد السلام مستاكو شفشاون

رحمك الله والدي…
أتذكر والدي عند عودته من صلاة الجمعة أقبل يداه.. والدتي تحضر له بعض الادوات ليقوم بإصلاح الأشياء المتلفة كمصباح كهربائي أو مقبض الباب وكنت أتابعه وأساعده في حمل البراغي و المطرقة بعض المسامير ونقوم بجولة تفقدية على أسلاك و مفاتيح الكهرباء و صنابير الماء…ووضع الزيت في اقفال الأبواب التي تصدر الاصوات..وكذلك تنظيف مجرى الماء من حنفية المطبخ.
كان يفتخر بما يقوم بإصلاحه بنفسه…وخصوصا في الكهرباء عندما ينصحني أن لا ألمس الخيطين معا…phase et neutre.
لصغر سني لم أكن افهم لماذا لا يجب المسك بالخيطين معا…ربما حتى لا أصعق بالكهرباء…
و يقول لي انظر أصلح الكهرباء دون ان أقطع عن المنزل بالكامل…
علمني أشياء كثيرة،الأمانة إلى أهلها…عدم لمس وأخذ ما ليس لك، طرق الباب قبل دخول أي مكان، تجنب الكثير من الأصحاب، الصلاة في وقتها، قراءة الحزب في مسجد أبي خنشة المجاور للمنزل الكبير و صومعته المطلة على الدويرة (باحة المنزل المفتوحة على السماء) وصوت الأذان بصوت المؤذن من فوق الصومعة بدون مكروفون آنذاك.
كان يحب الإنصات إلى إذاعة لندن BBC على موجة SW حينها لم أكن أعرف معنى تلك الرموز على ذلك الجهاز العجيب من قبيل Mhz و khz و FM التي كانت تطلق صوتا مرتفعا كلما ضغطت على زر FM وأتساءل مع نفسي لماذا لا يوجد أي صوت غير ذلك الصفير …علمت بعدها أن في مدينتي الجبلية الصغيرة لا تلتقط أي موجة من ذلك التردد ذو الجودة العالية…أتحين فرصة تواجدي بمدينة تطوان لزيارة اختي لأتسلل لصالون كبير حيث ابدأ بالبحث في راديو خشبي و أضغط على ذلك الزر FM العجيب وأبدأ بالبحث من نقطة 88 إلى 108 MHZ وكم يكون اندهاشي عندما أقف عند موجة حيث المذيع لا يسكت عن الكلام بسرعة باللغة الأسبانية و يردد : cadena ser son las 3 et media una hora menos en canrias…deportes…
أتابع البحث لعلي أجد مذيعا ينطق بالعربية أو بالفرنسية التي درستها…لكن لا شيء…فأعيد ذلك الزر العجيب إلي موضعه على sw لينطلق ذلك الصوت يذهب تارة و يعود مرة أخرى حتى أنك تسمع نصف الخبر و النصف الثاني ربما تسمعه في النشرة المقبلة.
كانت أخبار حرب إيران-العراق و فلسطين و الإتحاد السوفياتي، حائط برلين والمعسكر الشرقي وما إلى ذلك تتصدر العناوين وأخبار كرة القدم الانجليزية كلفربول و توتنهام..
نتابع على قناتنا الوحيدة مباريات الدوري الالماني بعد عدة أسابيع حيث يكون فريق هامبورغ فاز بالبطولة الالمانية ونحن مع الاصدقاء نفتخر بأداء بايرن ميونخ و ستوتغارت.
كما كنا نتابع برنامج العلوم الألماني 01. يقدم آخر الابتكارات العلمية آنذاك وهذا طبعا بالأبيض و الأسود مع الكثير من “التخرشيش” لا علاقة مع اليوم من صور HD و 4K او UHD أو 8K.
عند زيارتي لمدينة الدار البيضاء…بعد رحلة طويلة في الحافلة مع والدي رحمه الله من شفشاون…بعد مرور الحافلة من عدة مدن وقرى لازلت أتذكر وقوف الحافلة في قرية سيدي علال التازي حيث أستفيق على رائحة دخان اللحم المشوي مما يذكرني بالعيد الكبير…فيناولني أبي نصف خبزة معبأة بقطع الكفتة الذيذة ويطلب مني أن ألتهمها وهي ساخنة ..كان المنظر يزيد من إحساسي بالغثيان وأنا أشاهد من نافذة الحافلة تلك الجموع البشرية وهي تلتهم قطع اللحم وأباريق الشاي المنعنع…كنت أكتفي بقطعة من الفقوصة الشاونية كانت تضعها والدتي في حقيبة صغيرة أضعها في مكان مخصص للأ متعة الخفيفة داخل الحافلة..
بعد كل توقف للحافلة ينطلق المراقب ليعد عدد الركاب ويطالبهم بإشهار التذكرة ربحا للوقت وهو يردد (شكون ما عندو ورقة…شكون كايسال الصرف)…يتكرر الموضوع عشرات المرات…وكل مرة يعاود نفس المراقبة…ربما هناك من يستغل وقوف الحافلة ويتسلل لقطع مسافة بين قرية و قرية دون أداء ثمن الرحلة.
كلما ابتعدت الحافلة عن منعرجات جبال الريف اتسعت الطريق و استراح السائق من قبضة المقود الذي كان كبيرا جدا حيث أن السائق يجب أن يكون قوي البنية قبل أن يكون ملما بقواعد المرور…ارتاح قليلا ويتغير صوت محرك الحافلة و كل الركاب يتنفسون الصعداء كأنها طائرة حطت بالمطار بعد هبوط اضطراري…
بعد عبور السكة الحديدية…تنتابني فرحة كبيرة..يعني وداعا للمنعرجات و المطبات…أنهض من مقعدي و في بعض الأحيان يناديني سائق الحافلة لأجلس فوق غطاء المحرك الساخن ويبدأ في التحدث معي وعن دراستي..كنت من المحظوظين لأن والدي كان من زبائن حافلة الدار البيضاء المميزين، لأنها كانت الحافلة الوحيدة التي تربط مدينتي الشاون بمدينة كازا ويكاد السائق و مساعده أن يعرف أسماء كل الركاب و حتى مقر سكنهم وحتى الحي المتوجهين له بالدار البيضاء حيث يقوم بدور البريد السريع من ارسال اموال في الإتجاهين وبعض المأكولات و الشهيوات كالكرموص و الزيتون البلدي و الشباكية والسفوف في رمضان.
لم أتذكر إسم ذلك السائق السرغيني الخلوق و الحنون.
كانت دهشتي كبيرة عندما تدخل الحافلة على مشارف المدينة العملاقة وأبدأ بقراءة اللافتات على واجهة المحلات باللغة الفرنسية من قبل “Alimentation générale” و “Mécanicien و salon de coiffure..الخ وأتابع لوحات الإشهار و حافلات النقل الحضري برتقالية اللون آنذاك…أحس بافتخار كأني زرت دولة أخرى…بعيدا عن دروب و أزقة بلدتي وحي الخرازين و الهوتةو باب دالعين الناصع البياض آنذاك.
أعود لبلدتي و أجتمع في الدرب مع أقراني في الحومة و كلهم شوق لسماع حكاياتي المتقطعة عن زيارة الدار البيضاء لمدة تقارب الشهر والنصف…حيث افتخر بصورةبعدسة كاميرا بولارويد أمام ساحة الحمام و ساحة الكورة و شاطئ عين الذئاب…وشارع الزرقطوني كان هذا في سنوات 1978 و 1980.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube