ثقافة وفنون

قصة قصيرة:كقصة خانتْ زيتونتها

الشاعر والكاتب ذ حسن برما

عشتُ في العش عقودا جريحة كنتِ أنت فيها صبية تتهجى حروف النصب على السذج، انتبهت إلى أن انتظاري الأحمق لن يكون ذا جدوى، كبر وهمك البليد، اعتقدت أنك تملكين مفاتيح وكر دنسته ثعابين الارتزاق، كنت تجهلين حرائق سيدة الكلام، لم أبال برغبتك الدفينة في تيئيسي وأنت الحرباء العارفة بسوق البيع والشراء، رحلت عن زنزانتك، احتضنتني أعشاش كثيرة أنظف من قذارات خياناتك، صادفت متسعا لأحلام شقية هزمت صدأ سكاكينك، وفي وقتك المستباح تركتك مع فخاخ النكران الجاهزة بانتهازيتها المقيتة تتاجرين بهواجسي وهمومي وحروف أوجاعي أملاً منك في التغلب على أسباب أحزانك! دون سابق تخطيط، التقيتك تحت ظل زيتونة شائخة، صهد البدايات لعنة، أنفاس متعبة مضطربة، لهاث عديم الفائدة، كنا غريبين عن اللحظة، هكذا بدا لي إحساسي بداية الأمر، جئنا من مصائر متباعدة، نحمل أعطابنا المتناسلة، انكساراتنا التي لا مبرر لها، عبثية الجري في كابوس بلا نهاية.صادف أن احتجت للكلام لتجاوز الاختناق وملء الخواء، انصعت دون تردد لتفاهة اللعبة، منعتني حرارة الشمس الحارقة من الذهاب إلى سراب العطش الغامض، أغراني نواح زيتونتي المعزولة عن صف الأوكاليبتوس المرسوم بعناية، طلبت برودة ظلالها سريالية التشكيل، لعلها نسائم القدر جرتني إليها، أو اعتراف الحنين للنفس الحائرة بدلالات ما فات من عبث ولعنات، وفاجأني حضورك المثير. كان الظل منعشا، والأوراق الخضراء تراقص نسمات تأتي وتروح، وتجاعيد الشجرة بارزة مطلية بسواد قطران قادم من عهد بائد، وأغصان تتمايل مطمئنة لا تدري نهايتها المحتومة في فرن الفناء والنسيان. لم تكن زيتونتي الوفية تخون العهد، تعودت الاحتماء بظلها، صار الجلوس تحت أغصانها الهادئة موعدا يوميا، آخذ كرسيا من مكتبة “خليها على الله”، أتحاشى الاندماج مع ضجيج الشارع المسعور، أخرج من فوضى الركض والمشي المضطرب، أقضي الوقت غارقا في تتبع أحداث سيرة فيلسوف مهموم، مسرنَماَ أقرأ ديوان شاعر أو منبهرا أتابع رواية كاتب حكيم، أو متصفحا مجلة مهووسة بتغيير منكر الجهل وداء الانصياع.وفي يوم لا اسم له، دخلتِ دائرتي السرية دون استئذان، زلزلت الكثير من الأحاسيس والقناعات، لم أحذر السقوط في الهاوية، بعين فضولية ونظرة جانبية، تفحصت تصفيفة شعرك المتمردة، قميصك الأبيض الشفاف، سروال الجينز الممزق عند الركبتين، غجرية عنيدة سقطت في دروب البيضاء المزدحمة بالغياب، ومع نسمة مشتهاة في نهار صيف حار، امتلأ صدري بعطر متكلم قال لي أنتَ قُرب امرأة هي سيدة نفسها ولا تهتم بما ينقال.كان اللجوء للجمل الجاهزة الموروثة ضروريا، حياد السؤال عن الطقس وحالات السماء، تصَنُّع الإعجاب بظلال لا تناسق فيها، “والحرارة شحال صعيبة !”، جملة وحيدة مسروقة من قاموس اللغو المجاني كَفتْني ليتهاوى جبل الصمت وتتساقط أحجار الاحتراس المفترضة، أجبتِ: “نعم الحال مخنوق واحنا ما عندنا جهد!”. جميع المقهورين والمقهورات اجتمعوا في حلقات متفرقة تحت ظلال الأوكاليبتوس الأرعن، منذ بدايات الوعي بشراهة الإنسان، تحاشيت الجلوس عند جذوعها البلهاء، احتلت الأغصان اليابسة الميتة وجه الأرض، وأدخلني نحيب الأوراق الباكي في متاهة الحزن، قادني نحو عشائر تأبين المغتربين وأحزان من ماتوا بعيدا عن الأوطان.جمعتني بك صدفة الاختيار والقرار تحت زيتونة كسرت رتابة الوضع في كبرياء وأنفة، وحيدين التقينا، تحت ظلال مستفزة بغرائبية الأشكال والإيحاء، وبدايات السقوط في الهاوية المرصودة بدأت بشبه خطوة. منحدرات الحياة أخطر من التواءات المتاهات المخيفة، وأساسات الصعود نحو تلة العشاق يبنيها التجاوب اللازم، لم تندهشي من كلماتي الأولى، لم تتبرمي من فضول غريب أقعدته دوخة الصهد تحت أغصان زيتونة منسية، أعدت تصفيف خصلات شعرك المتمرد، التقت نظراتنا، وبجاذبية لا شك فيها، اقتربنا أكثر.لم أضيع الوقت، انطلقت أملأ فراغات التفكير الصامت، قلت، كلما قهرتني حرارة الصيف المتوحشة، أتجاوز امتداد الأوكاليبتوس غير المنسجم، أجلس تحت أغصان الزيتونة الوديعة، ألتقط أنفاسي، أقرأ كتابا متاحا، أتصفح وجوها عابرة، أتأمل نظرات شاردة يحكمها الاستسلام لهزيمة وقت مأزوم، وأستعيد صدفة الولادة في درب صنفوه في خانة الإقصاء والشقاء. أتذكر يوم قسموا الطريق من وسطها، في هرج ومرج وكاميرات مشتعلات، أزالوا الاسفلت، غرسوا شجيرات الأوكاليبتوس ذات الأغصان اللينة، أهملوا قرب حاوية الأزبال زيتونة خمنوا أنها بقصرها ستسئ لجماليات المنظر.. انتبهت إليها، غمزت البستاني المأجور، غرستها أمام واجهة مكتبة “خليها على الله” ، وأوصيت حارس الإنعاش بالاهتمام بها مقابل إكرامية تُعتبَر. سمعتك تسألين : ماشي مهم، وأنت ماذا تعمل؟ أجبتُ : كاتب ونحات فاشل .عجيب، قلتِ، لأول مرة أصادف في دربي كاتبا ونحاتا يُكَلم الصخر، وسبب الغرابة، تساءلتِ، كيف لك وأنت ابن حي شعبي متواضع، بسيط في انتمائه وركضه اليومي نحو تأمين لقمة العيش، كيف لك التفكير في النحت والتماثيل؟ والكتابة في غابة ذئاب جائعة وغربان تقتات من عذابات الآخرين لا يأتي منها سوى نزر يسير يوهمك بحياة ليست كالحياة؟ كيف اخترت هذه المهنة واختارك الصخر الجامد البارد؟ وبقية الاستفهام العصي على المحو .. لماذا عشقت فن النحت والتماثيل وسط عشائر تؤمن بالحرام وتكره الحجر؟ كنت تنتظرين الجواب ، لكني سألتك: وأنت ماذا تعملين؟

ظهرت على خديك حمرة، لم أعلم ما إذا كانت حمرة خجل أو إحراج، ارتعشت شفتاك، وأجبت: صحفية في صحيفة ابن عمي” بريق الأخبار” اليومية.

وهذه الصحيفة محسوبة على أي حزب؟

هي صحيفة مستقلة .. ألا تعرفها؟

لا أعلم بوجودها، ولم يسبق لي قراءتها.

تذكرت مقدمات توالت اعتباطا وقادتني إلى ما أنا عليه الآن، خُيًّل لي أني لم أختر مصيري، لم يكن الإسمنت قد أكل الحقول المحيطة بهوامش المدينة، عَرْض شارع الحزام الكبير لا يتجاوز الأمتار الثلاثة، خلاء وأراض عارية وأعشاب متوحشة من كل الأصناف، ملاعب عشوائية اختلط فيها التراب بالرماد بالمتلاشيات بالأزبال وفضلات معامل الليمون والمربي والطماطم المعطوبة تمنح الأمكنة عطرا شيطانيا يستعصي على التصنيف. نادرا ما كنت أشارك الأطفال لعبهم، أتابع بحياد ركضهم خلف الكرة البلاستيكية، قريبا من شمال الملعب، أكوام الصخور الطينية والرملية موزعة فوق أراض مكسوة بالأعشاب الضارة، كما لو أني عثرت على كنز، حملت صخرة، أثارني شكلها الصلب ولونها الموغل في السواد، فيما بعد قيل لي إنها من أفران مصانع الأواني المعدنية، بفعل اللمس والضغط القوي احيانا، انتبهت إلى تفتت الصخرة بين أصابعي، صلابة من غير قسوة، هشاشة من دون ضعف، وتلك كانت بداية الشغف البرئ بعوالم النحت والتشكيل.كبرت وخرجت من قطيع أيامي، تألمت لتوالي الهزائم والنكبات، ووجدت في الصخر ما يهزم حرائقي، عرفت أن التمثال الحجري ليس دفين ضريح تُطْلَب بركاتُه للنجاح في الحال والأعمال وعلاج الأمراض المزمنة، هو ليس إلها للعبادة والتقديس، ولا تجسيدا لفقه عشائري يستفز القبيلة كي تطرد الغرباء وتدافع عن الشرف المزعوم المخبأ بين الأفخاذ.التمثال تخليد لذكرى بطل قدم خدمة لوطنه، توثيق لثقافة عصر وترسيم لقيم مجتمع، تأمل وجه وملامح التمثال الذي يقف أمامك! ركز في طبيعة نظرته! ستقول لك رغباته وهمومه ومعدن شجاعته وعناده، انتبه لحركة اليد! احذر حركة قوائم الفرس! في تعابير الوجه واليدين تذكير ببطولة أو نكبات، رسائل صامتة تكلمك، تدلك على تواريخ حب عذري وحكايات خيانات سرية بقصور صارت مزارا للمعتوهين والمنبوذات، وهنا وهناك، ستصادف مجسمات وضعياتٍ لأبطال حرضوا القلوب على عشق الحرية والجمال، وابتسامة عالم أنقذ البشرية من وباء.ومن نصب نفسه خطأ في ساحة الفرجة وحدائق الهروب من أوبئة الوقت الخانق، من طغى وتعنتر وأرغم الناس على النظر في قبح تمثاله وحقارته، تكلف هدير الموج الغاضب بتكسيره وتمريغ أنفه في التراب، النحت أنسنة للصخر، وفاء لبطولات، ترسيخ لتضحيات، الطغاة لا يخلدون، كل اسم تبقيه افعاله، وتماثيل الخونة تُدَنّس ولا تقدس!!! حدست أنك تكتمين سؤالا يكاد يقفز من نظرتك الثعبانية، كنت أعرف، تساءلت في سرك، وبماذا يعيش هذا المخلوق؟ تماثيل الفرسان في عشيرتنا في حكم العدم، وعادة التنكر لبطولات العشاق الأوفياء من شيم عبيد الكهوف المعتمة، فكيف يؤمن لنفسه قوت البقاء؟ أجبت على سؤالك المفترض، قلت، عشقت التماثيل وسير الأبطال، وفي جماعات تقديس الأوهام، هزمتني ذاكرة الخيانات، ابتعدت عن الانتظار، حررت حمقي وغبائي، استعنت بنحت المجرد والوهمي والعبثي، خلقت منحوتات بلا معنى، تحت طلب أثرياء الأزمات وأغنياء النكبات المتلاحقة، زينت حدائق فيلاتهم المحروسة، وبصمت مداخل أوكارهم المريبة بجنوني.انتقمت من غبائهم المشهود، نقشت همومي وجراحاتي وظلم الأحبة على صخر مستورد من مناجم الإقصاء، وأخذت الثمن بالملايين، تماما مثلما فعلت أنت، درست السلطة الرابعة لتنحازي للحقيقة، لكنك اخترت الباب المغري، خنت قداسة الكلمة، امتهنت الكذب والانحياز لتعليمات الافتراس المشاع، حصلت على كل شيء، مزقت وصايا الوفاء للجمال، خسرت رضى نفسك وراحة البال، وصرت سلعة لعينة تباع لمن يدفع أكثر.طلبتِ مني نماذج من كتاباتي قصد الاطلاع عليها، بعد يومين، جئتني ومعك نسخة من جريدة “بريق الأخبار”، تصفحتها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، عناوين غارقة في الدماء والجنس والتشفي في فقراء المجتمع، ملفات مهووسة بتوجيه الطعنات المؤلمة لحراس الحب النظيف، مقالات مهادنة للتطبيع مع الخيانات، وصفحات متخصصة في النميمة وتتبع مؤخرات عاهرات محسوبات على عفن الغلط، وصور كثيرة قريبة من البورنوغرافيا وتمييع مجالات الخلق الفني المستباح. أحسست بسكاكين الغدر والخيانة تنغرس في صدري المعطوب، عبست وكلّمتك غاضبا، قلت : كان عليك أخباري أولا واستئذاني في النشر، أعطيتك كتاباتي لتقرئيها لا لتنشريها.

عملتها لك مفاجأة.

أية مفاجأة تعنين، إنها الكارثة.

انخدعت بقناعك، اعتقدتك تعشقين حرائق الدواخل، تفضحين ثعالب العشيرة، تنحازين لبسطاء جرحي الكبير، وحقيقة هويتك حرباء انتهازية تبيع اللغو في بياض الارتزاق. استدرجتني لفخك المنصوب بحرفية عالية، توالت سيول تطميناتك شلالا سخيا، وعودك السائبة كقطع ثلج وضعت عمدا في جوف زجاج مكسور، وتوابل المكر المخدومة، أغنية ولمسة وعناق، وأمامي ظلمة هاوية ورعب مؤكد، سألت النبض عن هويتك الحقيقية، أجابني صدى الخواء، قال، لا تهتم بأقنعة الكهف،! تلك أسماء متداولة في قصة زلزال تدمير الأشقياء!تحرك عش العنكبوت، لمعت حباله الواهية، منعتني من الفرار بجلدي، جحظت عين الحشرة السامة، اختارت أقصر المسالك لشل حركتي، وقبل الإجهاز على وجودي، لزمني وقت طويل كي أدرك ورطتي في شرنقة الحلم بكهف ملأته العناكب أعشاشا، كنت غبيا صدق زوال مصائد الغدر وسنوات الرصاص، ساذجا انطلت عليه لعبة الفخاخ الصدئة، تسلطنت الظلمة بالفضاء المحاصر بمصاصي دماء الابرياء، اصطادني العش الخبيث، وفقدت القدرة على تخليص نفسي من أنياب خفية افترست ما بجمجمتي من انتظارات وملأت خواءها بصدى وعود أخذت أسماءها من سراب الفيافي القاسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube