ثقافة وفنونمستجدات

÷حسن برما قصة قصيرة: قصة حب انتهازية÷

داهمه عطر الشاطئ المحروس، تذكر مداعبته لساق الموجة المكسورة، وغير بعيد من انحراف الطريق، ضبط ظل الجلاد يستعد لحرمانه من التحليق مع أحلامه المشروعة.

لم يسأل نفسه عن جوهر المحبوب، ولم يهتم بتأثير محيط الطفولة المشبع بتقاليد الدكتاتورية الموروثة وقيم الاغتصاب، تجاهل سموم جذورها، استسلم لنزوة الاشتهاء الأعمى وتصديق كلام الأفعى ذات الجلد الناعم، وأرغم نفسه الأمارة بالطاعة على تجاوز الشكوك المفترضة.

بداية، منحته عسلا مصنعا وشفاها منفوخة في مختبرات تزيين الأقنعة، اصطاده فخ النشوة، قبّلها القبلة الأولى، عوض الاستمتاع بامتصاص الشهد الحلو، تملكه شلل نصفي، ورحل مع سفر غريب وأحاسيس لذة غامضة.

خُيّل له أنه التقاها دون عراقيل، اندمج في اللحظة ولم يعش توتر البدايات، بسهولة سكنت قلبه وأدمن انتظار اعترافاتها المخدرة للعقل والحواس، مضت العلاقة نحو مصيرها، وفي وحدته الليلية، كثيرا ما رآها تحمل شمعة وكتابا عن رأسمال العواطف واشتهاءات الأشباح.

قدمها لأقرانه وأقرباء شاركوه نفس القناعات والرؤية للحياة، بدا للجميع أنها تحمل المواقف نفسها، وبسرعة .. تسللت لوسط العشيرة، وحازت ثقة الأبرياء الأشقياء.

لسبب ما، كانت محبوبة لدى الجميع، أطفالا وكهولا وشيوخا، بعيدة عن امتلاك الحكمة والعمق في الرأي والتحليل، ظلوا يوافقونها فيما تقول، وحده جمالها الغجري الجذاب كان كافيا لإسقاط كل الاحتراسات، واختفى ذلك الجدال الممل حول الهوية وضرورة احترام شروط الانتماء ليسار القلب العاشق.

ذكاؤها الاستخباراتي دفعها للاقتراب أكثر من شيخ العشيرة النبيل، تظاهرت بحبه، التصقت بمجلسه، أظهرت تأييدا مطلقا لأقواله الحكيمة، وأخفت أنياب التماسيح بضحكات محسوبة الأثر والتأثير.

لاحظ الأحباب والأعداء اهتمامها القوي بمطالب الشيخ، صارت مصدر الرأي والمشورة، ولا ضير في ذلك ، قالوا .. في أدبيات العشيرة، لا فرق بين الرجل والمرأة سوى بالوفاء لحلم الأطفال وبراعم المستقبل، واحتلالها لمركز الصدارة قد يبعدها عن تداعيات الاغتصابات القديمة.

تقوى حضورها بين سلالة الحلم وسط رماد الأسطورة، أشرفت على تنظيم المناحات ووداعات من طردتهم العشيرة خارج سور الوهم الكبير، رافضة لذاكرة الإقصاء والاغتصاب، مدمنة على التحكم في ضحايا حبها الغريب، لا رأي عارض قراراتها الليلية، ومآل الجماعة في حكم الغيب الخبير بتشتيت من أفلتتهم ضربات الصدر الأعظم.

قليلون أصابتهم عدوى الشك والريبة، افترضوا غياب البراءة في اللطف الناعم والطيبوبة غير المألوفة، وأدوا السؤال عن حقيقة الغريبة، التزموا حياد العاجزين وصمت المتفرجين، وتركوا للأيام فرصة كشف المعدن الثمين من القصدير الصدئ الجارح.

زوَّجها الشيخ عرفيا بزين القبيلة، لاحظ إصابة مدلل العشيرة بداء حبها المزمن، سلبته ميله الموروث لاستعمال العقل في التعامل مع الأقارب والأعداء، صار دائم الشرود، بطئ الخطوات، مسلوب الإرادة، كمن مسه سحر جنية الجبل المهجور، وبفطنته المشهودة، فرض الشيخ زيجة أفرحت من كان في صف زين القبيلة، ولم يتساءل عن مصير السلالة حين تختفي أوتاد الخيمة وتسقط مع أية ريح مسعورة تمتهن النواح.

وفيما يشبه الصدمة، تساءلت ألسنة الفضول المجاني عن سر هروب زين الشباب، بلا مقدمات، اختفى عن الأنظار، كثر اللغط، اعتبر الكثيرون أن للأمر علاقة باللعنة واغتصاب حرية القرار، ولدرء الفضيحة، اتفقوا على تزويجها بابن العم الأبكم.

خرج العرس عن المألوف، لم ينصبوا الخيام، ولم يستدعوا للفرح أجواق الشيخات ومجموعات أحواش، التأموا بالهواء الطلق في حلقات صغيرة، رددوا بأصوات مرتفعة مجموعة من الشعارات، وفي الليل، أشعلوا الشموع، وأدخلوا العريس البديل على العروس الجاهزة.

فجأة عاد زين الشباب متعبا غارقا في الأوساخ، سألوه عن الواقع، أجابهم بهمهمات وصوت متقطع وآهات، طردوا العريس الأبكم من بيت الطاعة وأعادوا للمدلل جنيته الفاتنة، استمرت العشيرة في شيطنة ضعاف القلوب ورفع أبناء المحظوظين إلى مصاف الملائكة، والقرار ما اتخذه الشيخ بوحي من أنثى الماضي الغامض.

استغرب الأهالي ترديدها الحرفي لأقوال الشيخ، تباهت بمكانتها في قلبه، غيبت عقلها ورغباتها، أبدت وفاء كبيرا لتعاليم الأصول ووصايا الشيوخ والعجائز، استظهرت أقوالا ذات طابع محافظ على هوية مهددة بالانقراض، وحكماء المقبرة المستباحة قالوا: “ما مات من ترك لأولاده حراسا أوفياء لجرح الحلم الكبير!”

بحسن نية، آزرتها حسناوات السلالة، دون غيرة ولا حقد، اعتبرنها عرابة لمطالبهن المشروعة، وتعويضا جميلا عما قاسته الجدات من إهمال وتهميش، وفي البيوت المغلقة على أسرارها، خضن المعارك ضد ذكور امتعضوا من انتشار الأخبار عنها، وفرحن بمساندة رجال حكماء لامرأة ذكية تدلي بمواقفها ولو من وراء ستار.

عودت المدلل على أكل الحلوى اللذيذة يوميا، نفض يديه من غبار المشاكل العائلية، أفرغ جمجمته من ضباب الصراعات والمناوشات المجانية، تفرغ لتذوق عسل الشفتين، التزم صمت أبي الهول، وترك لها مهمة تخدير القطيع بترديد أقوال المجاذيب والمجانين.

اعتبر الفضوليون انسحابه من ساحة القرار انهزاما، وروجوا بينهم حكاية استسلامه لسلطة المرأة الغريبة، ابتسم ابتسامته الخفيفة، اكتفى بتذكيرهم بمكانتها عند الشيخ، وعاد للالتزام بصمته وشرود الحياد المثير للسؤال.

حملت لواء التغيير الناعم، بتعبير حماسي عن الموقف، ونعومة سحر أنثوي، وذكاء ممزوج باللطف وإشاعة الرغبة في الرعشة، وما يكفي من أسلحة تخدير العقل والحواس، اعتمدت نصب الفخاخ الخفية لتكريس الحضور الملغوم وادعاء الوفاء لحلم الجرح النبيل.

دانت لها الرؤوس، أصبحت كلمتها هي العليا، انشغل المدلل بهواياته الصغيرة، تركها تتحكم في شبيبة السلالة، صارت على سفر دائم، ولم تعد تستشير الشيوخ وعجائز المناحات التي لا تنتهي.

أشعرت الشيخ بعجزه عن مواكبة المستجدات، أقنعته بالتنازل التام عن سلطته المعنوية، حملته لضريح الميت مجهول الهوية، استمتعت بحب الشباب لقوامها المنحوت، وأرغمت الألسنة المشاغبة على التزام الصمت والتمتع بإطلالاتها المثيرة للاستيهامات المقموعة، وبسحر غامض، تخلى الحكماء عن عادتهم القديمة في التمحيص والتحليل وتفكيك دلالات الغضب المعروف والاشتهاء غير المبرر.

في يوم قائض، حل بالعشيرة ضيف تائه أضاع طريق الأمان، قادته الصدفة ليسار القلب، استقبلوه بالترحاب طمعا في استثمار معارفه المزعومة، وفي خيمة الضيوف، قدموه للزعيمة الحديدية، تأمل ملامحها، تعرف عليها، تذكر ماضيها البعيد، أيام الأحقاد المتناسلة والرصاص الأعمى، وقائع الاغتصاب والقمع الوحشي، ووجد نفسه أمام بنت القايد المكروه.

كشف الغريب هوية بنت القائد، عاد السؤال عن سبب الالتصاق بالشيخ الحكيم، وذاك الحب المشهود، سحر الهمس المدروس، بلاغة العهود والوعود، تحولت إلى مثار للشك، واتضحت أمور العداء لشباب الغد المجهول.

أرشدهم عن اسم عطر أهداه لها الوالد المتسلط، دلهم على تربية العملاء لتحييد الخصوم وتشتيت شملهم، وحكاية الحجر في الحذاء، التمسكن حتى التمكن، زرع الشقاق والشك والنفاق، التخلص من الصقور المفترسة، في أفق بسط السيطرة وهزم الأعداء بإفشال وحدتهم واتحادهم، والبقية تنجزها مصالحهم المتضاربة.

كرّرت التزامها بحرائق الحنين حتى الموت، تظاهرت بالوفاء لنبضه الصادق، استعادت ذاكرتها المخزنية، حملت سوط الجلاد، واغتصبت سذاجة اشتهاء العاشق المنذور للأحزان.

قبل السطو على حلمه، كلمت المدلل لساعات طويلة، خدَّرته بهمس مخدوم، أفقدته القدرة على التحليل والتمييز، سلبه عطرها الغامض حاسة النقد، انتظر أن ترفع مستوى النقاش إلى صدق الحب ونبل الفكرة، أرعدت وأبرقت، وقالت للبرهوش: اعطيني صاكي باغا نماكي!

لم تعترف المندسة لعشيرة الحالمين بالوفاء للحب الكبير، الأهم لديها كان هو تحقيق رغبتها في ارتداء جلباب أبيض خاص بالأرامل، والمريدون يزغردون، أغرتهم بصمتها الشاعري وملامحها الجبلية المتناسقة، أهدوها أعناقهم المعطوبة، ومضوا لحتفهم المحتوم جاهلين بآلام القرابين المنحوسة.

أخيرا أخبروا الشيخ بهوية المندسة للمؤلفة قلوبهم، حكوا عن أحقاد القائد الكبيرة والصغيرة، اتفقوا على وضع النهاية لقصة الحب الانتهازية، أعادوا للمدلل وعيه المفترض، استعادوه من شروده، تخلصوا من سلطة الدخيلة، وعاشوا الحلم كما يجب أن يعاش.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube