ثقافة وفنونمستجدات

ســرد ونقـد(5): ديستوپيا بين يوتوبيوان( احتفاء بكتاب صفرو التي في خاطري) لمحمد كمال المريني

مصطفى الزِّيـــن

تشرفت، وسعدت، بالمساهمة في حفل توقيع كتاب: “صفرو التي في خاطري: خربشات صفريوي الهوى” حديث الصدور لصديقي الكبير الأستاذ محمد كمال المريني، (وذلك يوم الأربعاء23 يونيو 2021، بالمركز الاجتماعي لتجديد قدرات الشباب- حي حبونة-بصفرو). ونظرا لما يقتضيه مقام الاحتفاء قدمت قراءة ، عبارة عن حديث شفهي مباشر،. ولأني لا أحب قراءة المكتوب سلفا ؛ هاأنذا أحرر ذلك الحديث كتابةً، في خطوطه الكبرى،تقريبا، تقيدا وتعميما للفائدة والتفاعل بين أصدقائنا جميعا..

1-عن الشخص قبل النص،أو عن الكاتب قبل الكتاب:

رغم كوني قضَّيت بصفرو ما يقارب ستة عشر عاما، مقيما ولا زلت، وخمسا وعشرين سنة أخرى ،من قبل، قريبا منها بفاس( خمس سنوات) وبرباط الخير /أهرمومو( عشرون سنة)، إلا أني لم أعرف صفرو إلا بقدر ما عرفته من صديقي محمد كمال المريني، وبضعة أصدقاء قلائل آخرين من صفريوي الهوى..ولا أزعم أني عرفت صفرو، أو “تصفرنت” كما “تهرممت” من قبل فعلا؛ لأني لم أتشرف بالقرب من أهل صفرو..ومن لم يعرف ناس البلد وأرواحها في شخصياتها ،هو حقا ، لا يعرف البلد..فالمدينة ،هي عندي ، كالمرأة ، ليس بالضرورة حتى لو تزوجتها، أن تسلمك أسرارها وفواكهها الليلية..فلا بد من أن تجعلها تعشقك كما تعشقها، نفسا وروحا، ومزاجا وأحوالا..كما تعشقها محمد كمال المريني ،وسقط في هواها، فكانت مسقط قلبه، لأنها مسقط رأس أمه ، حتى لتتماهيان عنده أما واحدة، أو كالواحدة الوالدة ، هو المزداد بفاس ،من أب من “البهاليل” التي لا يفصلها عن صفرو إلا جبل ،أو جبيل، “بِينَّا” ، جدارا بين جارين أخوين.. هل يتيح لي كتابه هذا “صفرو التي في خاطري”،ويتيح لقرائه ،أن نعرف صفرو أكثر، وأن ندنو ونقترب منها ومن أسرارها ونبضها..؟ صاحب هذا الكتاب ، محمد كمال المريني، يمكن أن نقدمه، قبل أن يكتب، مثقفا عضويا، وفاعلا جمعويا ثقافيا حقوقيا، مناضلا حقيقيا، وفيا لمبادئ اليسار والتغيير والديموقراطية وحقوق الإنسان،وفي مقدمتها حقه في العيش في بيئة سليمة متوازنة..من خلاله ، اكتشفت وجه صفرو الثقافية، ومجتمعها المدني، وبالخصوص ، من خلال الجمعية التي يرأسها : “شبكة تنمية القراءة بصفرو”، التي ، بفضل صموده وإصراره وتضحياته، يمكن اعتبارها أنشط جمعية في المدينة في السنوات العشر الماضية ؛ فكم استضافت ونظمت من لقاءات وقراءات،وتكريمات واحتفاءات ،و عشرات من حفلات توقيع كتب لكتاب وشعراء وروائين وباحثين ومفكرين من مختلف أرجاء المغرب ومن خارجه، فهو ،اليوم ،حقا ،”هو المحتفي المحتفى به ،شغله النضال العضوي عن صفرو حبيبته،وشغلته إلتزاماته الجمعوية..عن الانخراط في الكتابة والإبداع..إلى أن أتاح له “الحجر الصحي”،فرصة لتحبير نصوص كتابه هذا ونشره إصدارا ، هو أول اصداراته،ولن يكون آخرها ،بحول الله.. يستحق التهنئة، هو معشوقته ،بهذا الكتاب الذي ،لا شك،يشكل إضافة نوعية في موضوعه وفي هواه، وهو ابن صفرو الذي حفظها صغيرا ويافعا عن ظهر قلب ،وخبر أحياءها ودروبها وأزقتها وفضاءاتها وحقولها وجبالها وشعابها ومساربها ومضايقها وسراديبها ،وناسها ورجالاتها وخفق قلوبها ونبضها ،ونكباتها وآلامها وأحلامها وحكاياتها وأساطيرها ..وقرأ تاريخها ،والتهم ما كتبه عنها الأنثربولوجيون وغيرهم ، وربما هو في هذا جميعا لا يضاهيه مضاه .

. 2-عن الكتاب: موضوعه- وجنسه أو نوعه: أ)

هل جنَّس الكاتب ،فعلا وحقا، كتابه من خلال العنوان الثانوي : خربشات صفريوية؟ هل كتاب “صفرو التي في خاطري” هو مجرد خربشات،سيما وأن المريني كرر هذا اللفظ في بداية ما يمكن اعتباره مقدمة تحت عنوان “هذا العمل” لم يخطر ببالي ،قط، أن “خربشاتي” المضمنة في هذا المؤلف..)!كيف يمكن “لعمل” مؤلف أن يكون خربشات؟ علما أن ( خربش) الشيء،في أصل الإستعمال، هو أفسده، و(خربش الورقة ) تعني كتب عليها خطوطا ملتوية ،غير مفهومة..لا شك أن هذا الكتاب عمل جاد، مقروء مفهوم، هو عبارة عن مقالات إخبارية،أو وصفية،أو حجاجية حوارية..،كما سنرى وليس عملا فنيا تشكيليا سرياليا، وإن،اكتنفته وزينته بعض الصور ،من صفرو التي في خاطر الكاتب، ومن بعض أنشطتها أو شخصياتها..لا شك ،إذن ، أن وصف “خربشات ” هو من قبيل خلق التواضع عند الكاتب ، ولربما كان انعكاسا لاواعيا للموضوع المدينة/ صفرو وما طال وجهها وروحها من خربشة وإفساد من طرف المفسدين الذين طالما ناضل الكاتب ضد إفسادهم وخربشاتهم ،دفاعا عن مدينته التي يهواها هوى ربما حد الجنون..؛ فالهوى هو أحد أسماء الحب السلبي الذي يعني السقوط والتتيم أي الارتباط والارتهان إلى المكان حيث توجد المحبوبة ،لا يريد العاشق العذري أن يبرحه لأي عمل أو جهاد.. أما العنوان الأساس: “صفرو التي في خاطري” فيحيلنا، نحن جيل الخمسينات الستينات..، من القرن الماضي ، على أغنية أم كلثوم الشهيرة الوطنية الناصرية : مصر التي في خاطري، من كلمات الشاعر أحمد رامي ،وموسيقا وألحان رياض السنباطي، تلك الأغنية التي طالما صدحت بها إذاعة القاهرة ، وصوت العرب في ذينك العقدين ،وفي بداية الذي تلاهما ، قبل أن تتنكر الساداتية للناصرية ،وتحطم الرباط القومي منعزلة مهرولة..مطبعة مستتبعة..تبدأ قصيدة رامي/أغنية أم كلثوم: مصر التي في خاطري،وفي فمي أحبهــا..من كـل روحـي ودمي.. وتعني مصر التي في خاطري، تلك التي في وجداني وضميري، في دمي وفي فمي ،الوطن الحبيب الذي يفتدى بالغالي والنفيس، بالدم و والنفس والروح، تحل محلها عند كاتبنا المؤلف ،صفرو وطنه وموطنه التي لا يريد عنها بديلا ولا يقبل من يخربشها ويفسدها أو يسيء إليها بشيء، هي صفرو كما كانت يوتوبيا فردوسا، وكما يريد لها أن تعود يوتوبيا فردوسا ،لا كما صارت إليه من الفساد والكساد.. ب) إذا انتقلنا إلى محتويات الكتاب وجدنا أنه يتكون من قسمين اثنين، يستغرقان 134 صفحة من صفحات الكتاب المائة والثماني والأربعين(148) من القطْع المتوسط، ما يشكل متن الكتاب، والباقي عبارة عن عتبات أو نصوص موازية، هي ، بالإضافة إلى الإهداء، نصان تقديميان أو تقريضيان لباحثين أكادميين ،كتب أولها الدكتور لحسن أوري-هو أيضا صفروي الهوى-والثاني كتبه الدكتور محسن إدالي، وكلا النصين يتضمن صفة أرشليم ( أو القدس) الصغيرة،كما كان يطلق عليها اليهود المغاربة، ومنهم يهود صفرو ،قبل أن يرحلوا غزاةً مستعمرين فلسطين أرض الفلسطينين ..فلمَ ،إذن، هذا التوصيف اليوم؟! .هذان النصان الموازيان،حبذا لو تركا معا لما بعد متن الكتاب، أو على الأقل أحدهما ،؛ فهما قد أثقلا الكتاب بالمقدمات ،ومن شأنهما أن يؤخرا تواصل وتلاحم القارئ مع متن الكتاب المريني ،فلم كل هؤلاء الحجاب الواقفين على أبواب الكتاب وعتباته المقدسة؟! حبذا،لو دخلنا مباشرة بعد تقديم الكاتب إلى قسمي الكتاب، وهما : *مفارقات صفريوية: يستغرق 67 صفحة ، تتضمن 16 نصا ،أو مقالة، (كان الكاتب نشر جلها على صفحته بالفايس) * سجالات:وتستغرق باقي الكتاب،أي 58 صفحة، تتضمن 11 نصا ،أو مقالة سجالية.. ب) مفارقة المفارقات : صفرو ماضي التوازن بين العمران والمجال الزراعي الطبيعي،وصفرو حاضر الاختلال: دمار وخراب ،وتداعي المدينة ، واكتساح آفة جشع الاستثمار العقاري والإسمنت المسلح للمجال ولواحة صفرو /حديقة المغرب..يبدأ محمد كمال المريني رصده وإدانته لهذا النمو السرطاني ،وما يوازيه من تخريب وتدمير وإهمال لصفرو التاريخية العتيقة ومجالها الزراعي من نهرها “أَگَّايْ “هبتها، أو بالأصح، أگاي التي هي هبته ، على ضفته قامت وعلى منابعه مياهه الزلال وسواقيه ورحيه وهباته تأسست ، وعاشت وتنعمت وتجملت ، ويسرد أسطورته أو أسطورة موسى أو صالح -التي سأعود إليها فيما بعد- و يعرض اتفاقيات توزيع سواقيه على المدينة وسقاياتها وحاجياتها ،وعلى ري حقولها من حولها ، أسماء وجهات تلك السواقي والحقول والجمعيات التي قامت من أجل ذلك .؛ ولكنه بالمقابل يذكر ،بأسى وغضب وحزن التلوث والموت الذي لحق ، منذ بداية الاستقلال ، هذا النهر ، بدءً من حفره وتعميقه بين جدارين ،هو الذي كان ينساب في مجراه طبيعيا بين جانبيها..ولست أدري كيف كان يمكن لأكاي أن يستمر كذلك، وسط الضيق العمراني ومشاكل الفيضانات ..! وينتقل ، طبعا إلى أحياء المدينة العتيقة، وفي طليعتها حي الحدادين،أو حي الصناع التقليدين،ليبرز أن المدينة وحياتها ومعيشها إنما قامت على ذلك التوازن بينها وبين مجالها الزراعي الفلاحي، فمهن ومهنيو الحدادة والنجارة والنسيج والخرازة وغيرها، والتجارة والتجار إنما قامت على تلبية حاجيات الفلاحين ،سواء من حولها، أو من المنحدرين إليها من الضواحي والجبال والقبائل القريبة والبعيدة نسبيا.. ولكن هذا الحي انمسخ اليوم ،ووتحول إلى مجرد حي من المطاعم الشعبية.. وفي مقدمتها مطاعم” البيصارة”.. ويتوقف ،بالخصوص، عند حي الملاح ومسار اندثاره، إلى هجرانه من يهوده المهجرين ، وإلى تعميره وتفقيره وإهماله وتركه للخراب والتداعي ،ومفارقة تسميته،رغم ذلك، ب “حي الأمل”! ويعرج الكاتب على سوح المدينة وسقاياتها التاريخية المنطمسة المنبعثة، وعلى أبواب هذه المدينة، الأصلية والمستحدثة في مراحل مختلفة ، وعلى قلاعها ومعالمها التاريخية ،وعلى مسجدها الأعظم،؛ تاريخ بنائه ومعماره وساحته ومنبره ومآثره التي نهبت وكراسيه “العلمية” وعلمائه وفقهائه ، وأذانه ومؤذنيه ..وكيف حوصر وأوذي ، كما أوذيت قلعة باب بني مدرك ومعالم أخرى غيرها.. ومما نقرأه في هذا القسم أو الباب من الكتاب، ما يسرده الكاتب ويعرضه حول النقل الحضري وإدارته ومكتبه ب”باب المقام” ، وشركاته وحافلاته ومشاكله المتجددة مع المجالس البلدية والمنتخبين سواء في صفرو أو فاس ونقلها الحضري الممتد إلى صفرو وضواحيه. ومحمد كمال، خبير كبير بهذا الملف، وبملفات أخرى كتدبير التراث المادي واللامادي لهذه المدينة وصيانته والمحافظة عليه ،ومنه “الفيشطة دي حب الملوك”وتاريخ هذا الاحتفال ،بل وتاريخ حقول الكرز الذي اندثر تماما من مجال المدينة وأصبحت إسما على غير مسماه، وكيف كانت الفيشطة احتفالا كرنفاليا ،عيدا تسعدبه المدينة وأهلها، وكيف تحول إلى مجرد موسم تجاري تستجلب له السلع والتقاليد وتستجلب له حتى الملكات العرائس فيما لم يعد يشبه الفيشطة دي صفرو، وصفرو التي ما عادت تشبه نفسها ..وفي هذا القسم الأول نقرأ،أيضا، عن بعضٍ من تاريخ أمراض الجهاز التنفسي بصفرو وضواحيها..وأشياء أخرى تندرج في مثل هذه الهموم والشؤون والشجون التي تؤول جميعا إلى مجال التديبر الجماعي والصراع السياسي وما وراءه من صراع مصالح وأهواء ، صفريوية وغير صفريوية.. ونقرأ عن السينما و أشياء أخرى ؛ عن “سينما المغرب العربي” بالخصوص ؛ تلك المعلمة الفنية الثقافية التي بصمت وجدان جيل الكاتب خاصة، قبل أن تغلق أبوابها ، فتركت للإهمال والنسيان والخراب والتداعي..وإن المحافظة عليها وإحياءها أو بعثها ، لمن هذ الهوى الصفريوي الذي يشغل الكاتب ..ويشغل الرأي العام الثقافي الصفريوي الذي كان يعول على المجلس البلدي..ولكن،إن كان كان المجلس،كما يبدو ، عجز عن شراء تلك المعلمة ،وما يقتضيه إحياؤها، فإني،شخصيا، قد شهدت الشخصية الاستثنائية التي ربما لا يفوقها صديقي المريني في الهوى الصفريوي،وفي هوى سينما المغرب العربي، والسينما والمسرح وفنونه؛ فقد قيض الله لسينما المغرب العربي، فتى صفريويا كاتبا ومخرجا مسرحيا فنانا كبيرا هو (جواد السنني)، وقد تشرفت بالتعرف عليه شخصيا.لقد آل على نفسه أن يضحي ويغامر بكل ما يملك ، فاقتنى هذه المعلمة، وهو صاحب مشروع ورؤية للاستثمار الثقافي ، مسلح بمعرفة دقيقة ،وأحلام عريضة،لن تقرصنها عصابات العقار وآفة الأبراج والتجزئات والإسمنت المسلح، مما يخشاه الصديق الكاتب محمد كمال المريني، ولا يحتاج هذا الفتى إلا إلى الدعم المعنوي، والى تنحية العوائق البيروقراطية من طريقه في تحقيق هذا الحلم الكبير. ج)سجالات: سجالات القسم الثاني ،من هذا الكتاب، كانت كامنة في قسمه مفارقات صفريوية ، كانت متدثرة بالحنين والهوى الصفريوي ،بالتأريخ والتوثيق، بالتسجيل والسرد و، وبالجدال غير المباشر الذي تناسبه المفارقات ؛ولكن السجال الثقافي السياسي سيتجلى صريحا مباشرا في هذا القسم الثاني، منشدا إلى قضايا وموضوعات من قبيل : المخطط الجماعي لصفرو: أية مقاربة للتأسيس.. البحث العمومي المرتبط بفتح مقلع.. ديبلوماسية موازية في خدمة التنمية.. وإلى مثلها مما يتخذ طابع السخرية المرة،كما “عن حليمة عاداتها القديمة”،أو عن” المقيم العام البلْدي للشؤون الثقافية”،بل نجد في هذا القسم وسجالاته ما يبتعد،ظاهريا ، عن صفرو وهواها،كما في “الطاعون القادم من انزكان” أو “ما هكذا تورد الإبل ، يا علي”!

3- الهوى : من قيود وحدود الجدل والسجال إلى آفاق السرد القصصي [وروائي صفرو الذي في خاطري] :

ليس “صفرو التي في خاطري” أبدا مجرد خربشات، وإنما هو عمل مؤلف ؛ هو جماع مقالات ونصوص . نعم، نجد فيها كثيرا من معالم تاريخ وذاكرة صفرو..إحالاتٍ على وثائق ومستندات..هموما وشؤونا وشجونا صفريوية..مقترحاتِ تدابير في المحافظة على التراث والذاكرة والمجال وتوازنه..كلها من مثقف مناضل مستميت في هوى مدينته ومجالها ؛ ولكن الكتاب ظل في حدود الجدل والسجال السياسي الثقافي،بروح النقد والمعارضة البناءة طبعا( فمما يعيبه الكاتب على خصومه اتهامه وأمثاله بالمعارضة الهدامة)؛ وفلا نستطيع أن نصنف الكتاب لا في التاريخ ولا في السسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا..،لا في العلم ولا في الأدب ؛ مقالات ذات هوى صفريوي ،يحكمها الجدال والسجال،مباشرا وغير مباشر ،محكومة إلى يوتوبيا صفرو مثالية مفقودة، ويوتوبيا محلوما بها لصفرو كما يريدها الكاتب في خاطره وهواه أن تكون .لكن الديستوبيا الخائبة المخيبة ؛ ديستوپيا صفرو الحاضرة ،الراهنة ظلت عند م .كمال المريني مقتصرة على المدينة العتيقة داخل أسوارها وعلى جانبي نهرها الملوث الأخدود ، يعانيان الدمار والخراب والإهمال والتداهي ، وهي وإن كانت تنمو فإنها تنمو في ما لا يشبهها ، حتى أن ما تم تشيده من أحياء وتجزئات وعمارات ، إنما هو تلك الديستوبيا على حساب حقول صفرو وجنتها وفردوسها المفقود، فلا تكاد تحضر أحياء صفرو الجديدة ،من قبيل بنصفار والسلاوي والرشاد ،حي سيدي بومدين ،للا مولاتي ،لا أمينة، الشعبة ، الرفايف ،مساي.. بحياتها وأحيائها من الأجيال التي ولدت هنا، وفتحت أعينها على صفرو بهذه الصورة المتنامية ،ولا تذكر أن هذه الأحياء قامت على جنان ،أو جنات،من حقول وبساتين الكرز والزيتون والبرقوق ومختلف الأشجار والمزروعات والسواقي التي تجري ظاهرة وخفية، وإن سمعتْ أو قرأت عن ذلك..لا يستحضر الكاتب أن هذه الأجيال تشبهه هو ،أو تشبه حاله عندما فتح عينيه على صفرو مزدوجة ما بين المدينة القديمة و”لڤيل” المدينة الحديثة التي شيدها الاستعمار في أحياء مثل : حجر الهواري ، ستي مسعودة، المقاسم، حبونة ،وربما درب المتر ،في ما بعد ..وأن أجيالا قبله لم تكن تعرف صفرو إلا في حدود أسوارها وداخل أبوابها،ما عدا حي القلعة الذي كان بمثابة مدينة مستقلة قائمة بذاتها.. إن هذه الديستوپيا وهذه الإزدواجية وهذا النمو السرطاني المرضي عرفت مثله كل المدن شبيهة صفرو ، كفاس – مكناس ، سلا ، الرباط، تطوان، الشاون، أصيلا .. وغيرها كثير.. كيف يمكن الحديث عن مدينة ، واسترجاع هواها، فقط ، باستعادة مبانيها وأسوارها وأحيائها وأبوابها وبعض مؤسساتها ومعالمها..دون ما هو أهم من ذلك جميعا، وهو استعادة ناسها وشخصياتها وأصواتها،أي استعادة حياتها وحيويتها وروائحها وألوانها.. ؟ و هذه الإستعادة بذلك الهوى والحنين، لا تتم إلا عبر السرد،عبر القصص والرويات..وإن محمد كمال المريني، في تقديري، يملك ما يؤهله لذلك أن يكون روائي صفرو الأول وقاصها الأديب، وهو ما تفتقر إليه صفرو لحد الآن؛ ربما، لصفرو شعراؤها، وباحثوها الأكاديميون ، مسرحيوها ، مثقفوها؛ولكن ليس لها،بعدُ، كتابها الساردون القاصون الروائيون ، ولا حتى كتاب السيرة الذاتية الأوتوبيوغرافيون…. والمريني قارئ نهم للروايات والقصص،وللتاريخ ومختلف السرديات ..وكم كان ممكنا أن ينتقل محمد كمال المريني من الجدل والسجال إلى التخييل السردي الروائي الذي يمكنه أن يسرد هذه التحولات بتعددية الأصوات، وبالحوارية التي يتيحها الفن الروائي، والتي يمكن أن تتضمن،بشكل غير مباشر ، ذلك الجدال والسجال من منطلق تعدد الخطابات والشخصيات والرواة والرؤى السردية؛ فالفضاءات متعددة منغلقة أو مفتوحة ،قديمة أو حديثة أو هجينة ، والمخيلة بإمكانها أن تحيي شخصيات تاريخية وتغامر بها تخييليا، كشخصية موسى أوصالح التي منها يبدأ الكاتب بداية سردية أسطورية عندما يغضب من أهل صفرو عندما يتهمونه بسرقة “دُولة”صفرو، فيتجه مصعدا بعكس مجرى واد أكاي، فتنفجر الينابيع من مواقع عكازته على يسار الوادي..والشيخ العيساوي البهلولي الذي يخصه الكاتب بنص من نصوصه، كان بالإمكان أن يكون شخصية روائية ، وكانت الفيشطة أو سينما المغرب العربي،وأسواق صفرو كان يمكنها أن تكون ملتقيات ومفترقات لتعدد المسارات والمصائر الروائية.. إن اللغة،بل اللغات، واللهجات لن تخذله أو تعوزه، وإن فن الرواية يستوعب مختلف الخطابات والأساليب.. ولهذا، أقول ختما: إن محمد كمال المريني هو روائي صفرو المفترض، [روائى صفرو الذي في خاطري] وفي خاطر صفرو وخاطر أهلها وقرائها.

. صفرو- الجمعة 25 يونيو 2021 .‎

* “صفرو التي في خاطري : خربشات صفريوي الهوى”- محمد كمال المريني-الطبعة الأولى 2021-مطبعة وراقة بلال-فاس/المغرب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube