ثقافة وفنونمستجدات

المشهد الأخير من المسرحية

بقلم د. أحمد بالغزال

طق، طق، طق … انتظر القاض ان تهذا القاعة ثم تابع: “باسم صاحب الجلالة، حكمت المحكمة حضوريا في الملف المدني عدد 20221، بإثبات العقوبات المطعون فيها”.

انتهى كلام البطل المسرحي، ومعه ختمت المسرحية وأسدل الستار. أمام الستار تعالت التصفيقات، من هنا وهناك يسمع صوت زغرودة احتفاء بنجاح العرض. خلف الستار يتبادل الفنانون عبارات المديح، يختلط صخب الممثلين وصوت كؤوس مختلفة الأشكال والألوان. الممثل الذي لعب دور القاضي يتلقى كل الإشادة. كان أدائه اليوم مبهرا. داخل القاعة بدأ الجميع بمغادرة المسرح بروية، أحاديث ما كان وما كان يجب أن يكون ومالم يجب ان يكون تطول وتتمطط إلى حوار آخر مجموعة تنزل آخر درج. الكل يجمع على أن العمل الفني كان متقن و ثم بحرفية عالية. تجسيد الممثلين للنص المسرحي تفوق حتى على الحبكة التي نسجها الكاتب المشهور وأخرجها مخرج مبتدئ. تتناسل التعليقات وتتعالى القهقهات في الخارج. عند انصراف اخر مجموعة، عمت القاعة عتمة قاتمة. بعد الفرح، تملكت القاعة كأبة قاتمة. في أقصى جانب القاعة بعد ان غادر الجمع سمع نحيب خافت لامرأة تكاد ملامحها أن تتماهى مع ظلمة المكان. امرأة طاعنة في السن تعتمر جلبابا أسود ومنديلا أصفر باهت، يكاد لونه يضمحل. بيدها المرتعشة تقبض طرف المنديل لتضعه على فاهها. وفي كل هنيهة تمده إلى أعلى الخد المتجعد، لتمسح شذرات دمع عصي يهبط على استحياء. في طريقه إلى أسفل الذقن، يلتوي حد التيه في ألف شق رسمته المحن على وجه العجوز.

  • يلاه أ مي زليخة غادي نسد، را بقيتي غي نتي عوتان… – سمع صوت القيم على القاعة مناديا العجوز وكأنه يحقها حق المعرفة- … ها الباب، واش تلفتي عوتاني.

تلملم على مضض أطرافها، تتكئ على العكاز المتهالك وتمضي بخطى متثاقلة نحو الباب. يمسك القيم يدها اليسرى الهزيلة ويأزرها لتخطي آخر درج. يرقبها وهي تمضي ببطء بالممر الرئيس الخالي، رويدا رويدا إلى أن تصل إلى الباب الخارجي. قبل أن تخطو إلى الخارج، تلتفت مي زليخة إلى القيم وبصوت خافت تستفسره:

  • شمن قاعة الماجية أ وليدي …

دون أن يتركها تكمل السؤال قاطعها القيم وهو يعرف مسبقا التتمة: ” الدار البيضاء “. منذ تسعة عشرة عاما، مي زليخة تطرح نفس السؤال كلما أعيد تمثيل المسرحية وحضرت الفرقة المشهورة المدينة لأداء العرض. عشرون سنة مضت والمسرحية تلقى إقبالا منقطع النظير. وتسعة عشر عاما ومي زليخة تتتبع جولات الفرقة. لا تكل من إعادة المشاهدة، وكلما ارتحلت الفرقة بين الحواضر، تحمل مي زليخة جسدها المتهالك لمشاهدة العرض وعند كل نهاية تستفسر عن المدينة والقاعة التاليتين.

  • الدار البيضاء، -يعيد القيم، قبل ان يسترسل في الشرح-… عين السبع … واش نعيط ليهم يقطعو ليك لبيي.

تطأطئ مي زليخة رأسها، تخطو خطوة مترددة وتشير بيدها اليسرى للقيم بالإيجاب. تتحامل على نفسها، وتجر جسدها المتهالك وخطاها المشبعة بالسنون إلى زاوية الزنقة. على حجر متسخ، عبثت بملامحه المدينة تجلس مي زليخة كمن أنهكته رحلة بحث طويلة، تضع ذقنها على العكاز المتهالك وتطلق نظرها في شوارع وأزقة الرباط الكئيبة. فرح الناس وزينة الأضواء تبدو كمساحيق التجميل الرخيصة على وجوه عاهرات النوادي المبتذلة. مدينة متعفنة تجوبها صراصير بشرية تهيم في الوجود كالأموات الأحياء.

تبتلع مرارة المنظر مع اللعاب، تتنفس بصعوبة. نوبة الربو اللعينة دائما في الوقت الغير المناسب. تخرج البخاخ وتستنشق رشفتين من الدواء. تتنفس بعمق كمن يريد ابتلاع أفكاره المشتتة مع الهواء. لحظة سكون… تم تستجمع قواها. تنهض وتتابع المسير. في الطريق إلى محطة الاتوبيس تلملم ما تبقى من شتات أفكارها. “كان يمكن للمؤلف أن يسمي المدان ناصرا” تقول لنفسها. “ماذا كان سيخسر؟ أوليس المذنب في المسرحية أعتقل لأسباب تتعلق بحفظ النظام؟ أ ولم يدن بعشرين سنة؟ ماذا كان سيخسر هذا الكاتب الأناني إن يسميه ناصر؟ أ وليس اسم ابني جميل جدا؟ وماذا كان سيخسر المخرج إن هو غير النهاية؟ لأن تتكرر الإدانة في النص المسرحي عشرون سنتا امر لا يطاق.”  تتوقف حافلة الاتوبيس فتخرج مي زليخة من شتات أفكارها. تعود متثاقلتا إلى الواقع. تتنهد وتصعد درج الحافلة.

يمضي الاتوبيس بمي زليخة إلى المحطة الطرقية بالقامرة. حافلة مهترئة تطوي خلفها اشباح بشر وخط لا متناهي من مشاهد البؤس في الطريق إلى حي يعقوب المنصور. “طز على لعاصمة يا ودي اودي … -تردد في نفسها-“. تنحشر في كرسي فقد، كما بقية الركاب ملامحه. خربشات فصائل الالترا جعلت الكرسي يبدو هرما كما جالسته. يتماهيان مع المنظر العام. الكل يبدو منهكا. تتذكر مي زليخة صورة الصراصير البشرية والأحياء الأموات. هنا أيضا تطغى على الوجوه مسحة الاضمحلال. وجوه تتمايل مع حركة الأوتوبيس. تشعر مي زليخة بالقيء يغالبها. تتنفس عميقا، تشيح بناظرها بعيدا باحتتا عن ملجأ يأويها من زحمة المكان وضيق النفس. لا شيء في المكان. تعود لتختبئ في أفكارها كما بقية الراكبين، تلقفها في الطريق الى دفئ الذاكرة نفس الأسئلة: “ماذا كان سيخسر الكاتب إن سمى البطل ناصرا؟” كانت على الأقل مي زليخة قد تفهم كل خيوط الحكاية وكيف أن ابنها أعتقل وحوكم في غيابها. هي لم تقوى على حضور جلسات المحاكمة. هي كانت تمسك قلبها كلما رن جرس الهاتف. هي أغمي عليها ولازمت الفراش شهورا لا تقوى الحراك عندما أذيع خبر الحكم. هي تعتمر حقيبة الأدوية منذ ذاك اليوم. هي لم تفارق صورة ناصر جفنها كلما أغمضت عينها وحتى في يقظتها. هي، باحتتا عن إعادة تشكيل خيوط حكاية الإدانة لم تتغيب عن أي عرض للفرقة المسرحية. منذ تسعة عشرة عاما ومي زليخة تبحت عن الحقيقة. اليوم في الرباط وغدا في الدار البيضاء وبعد في مراكش أو الناظور. لم تعد تذكر يقينا من اوعز لها الفكرة، المهم انها وجدت ضالتها في اعادة مشاهدة المسرحية المبتذلة. هي لا تعلم علم اليقين ما الذي جرى. تتجاهل عمدا أو عن غير قصد أن للمتخيل الأدبي حدودا. هي تعتقد أن احداث المسرحية حقيقية. هي لا تسميها حتى مسرحية. تعتقد أن النص المسرحي قد يعيد تركيب مرارة ما حدت. تأمل فقط أن يغير المخرج الأسماء لتفهم حقيقة ما جرى. مشهد أخير ربما. مي زليخة لا تعلم أن كل ما يحدث في الواقع يتعدى حدود الخيال. أن الواقع إن هو إلى صورة مشوهة لمتخيل، وأن في الحقيقة أسوار قاعة المسرح متناهية لا حد لها وأن الوطن صار مسرحا، مسرحا مبتذلا ردي، يضيق بمرتاديه.

تغلق مي زليخة عينيها هاربتا من قرف المكان ومن قرف الوجوه الكئيبة في الأوتوبيس ومن قرف العرض المسرحي… كانت تريد أن تقول من قرف الوطن ايضا.  لكن التزمت الصمت حتى وهي في خيالها. أحكمت إغلاق عينيها حتى لا ينبس خيالها يما كان يخالجها. فاجأتها صورة ابنها المرمي في غياهب السجن. اختلطت صورته مركونا في الزاوية بصوت قهقهات الممثلين عند نهاية العرض وأصوات الكؤوس والقنينات المختلفة الأشكال والألوان. دوامة لا متناهية، تنتهي على وقع مفاجئ. تحكم مي زليخة إغلاق عينيها. تحس ضغط الجفنين المتهالكين. تمعن في الضغط حتى لا يبقى في الجهد جهد، وتستسلم لصورة الممثل الذي صار حقيقة في خيالها، وهو يرفع يده حاملتا المطرقة الخشبية وهي تهوى على قلبها قبل المنصة الخشبية: “طق، طق، طق -يسمع الصدى صمتا مطبقا في ذاكرتها. “-  لازالت مي زليخة تحكم إغلاق جفنيها عندما غالبتها دمعة بعد أن سمعت  من أعماق جرح غائر صدى الجملة الأخيرة “باسم صاحب الجلالة …”

لازالت مي زليخة تجوب ذاكرتها باحتتا عن المشهد الأخير، تلملم شظايا صورة ابنها الذي رمي في السجن في كل العروض المسرحية التي حضرتها خلال التسع عشر سنة. تعتقد أنه ربما يوم ما ستنتهي المسرحية وتلتقي الكاتب المرموق والمخرج المبتدئ لتسألهما ماذا كان سيخسران إن هما غيرا اسم المدان في النص. او ربما إضافة المشهد المفقود، كانت على الأقل ربما ستعرف حقيقة ما وقع. فتحت عينيها ووجدت أمامها قامة ضخمة، كتلة لحم لا شكل لها. لا يميز من ملامحه إلا عينان غائرتان لا تحيلان على شيء. أغمضت عينيها في محاولة لتغير المشهد، فتحت عينيها مرة أخرى فوجدت نفس المنظر أمامها كتلة لحم هائلة وعينان غائرتان. مر لبرهة بذاكرتها المنهكة صورة ابنها، ثم الممثل المقتدر الذي جسد دور القاضي، ثم الكاتب المرموق ثم المخرج المبتدئ، ثم احداث المشهد الأخير كما كانت هي تريده أن يكون، فصورة الشرطي بزي مدني. اعتقدت، بعد أن أمعنت النظر هذه المرة، أنه المشهد الأخير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube