شخصياتمستجدات

محمد المباركي ” مع غرامشي (14) مفهوم الهيمنة الثقافية”

مع غرامشي (14)

مفهوم الهيمنة الثقافية

محمد المباركي

كما تمت الاشارة اليه في مقدمة هذا المخطوط، أعطى غرامشي، عبر منهجية مادية تاريخية، بعدا فكريا ونظريا لتجاوز المنهجية الاشتراكية الكلاسيكية التي تحصر الصراع الطبقي في مستواه الاقتصادي الاجتماعي السياسي عبر أنماط الإنتاج وامتلاك وسائلها. وذلك بإدخال العامل الثقافي كعامل مؤسس ومحرك للمادية التاريخية. البعد الثقافي أخرج الصراع المجتمعي من أحادية الجانب أي يشخص الوصول للسلطة عبر الصراع التناحري بين الطبقات الاجتماعية للسيطرة على السلطة سواء عن طريق العنق، ثوريا كان أو عسكري، وهو ما نعته غرامشي بالحرب المتحركة ويخص أساسا المجتمعات الاستبدادية. أو عبر تناحر سياسي ثقافي داخل المجتمعات الليبيرالية التي تعرف استقرار مؤسسات الدولة. وحيث الوصول للسلطة يمر عبر صراع سياسي وثقافي حاد وهو ما شخصه غرامشي بحرب المواقع.

أ – حول مفهوم الثقافة

قبل التطرق للهيمنة الثقافية سنحاول ضبط المفهوم الذي يعطيه غرامشي للثقافية. لك أن المفاهيم هي أساسا أدوات معرفية يتم عبرها البناء الفكري والتشخيص النظري الأيديولوجي. لم يخصص غرامشي دراسة معينة لمفهوم الثقافة. نفس الأمر

بالنسبة لباقي المفاهيم التي كان يحرك بواسطتها تصوراته الفكرية. لذا فالمنهجية الغرامشية هي أساسا استنتاج مما كتبه غرامشي قبل السجن وخاصة داخله في “دفاتر السجن”، بشكل مبعثر ضمن مختلف المواضيع التي كان يتناولها ويرجع اليها بهذا الشكل أو ذاك مرارا. في كل مرة كان يضفي عليها فهما جديدا منقحا بعضها، تاركا ومنسخا أخرى. وهو ما يدل على وجود فكر حي دائم الاطلاع والبحث. كما ينبغي الإشارة أن هناك مستويين لتناول كتابات ومواقف غرامشي. منها التي كان يسوغها انطلاقا من المراجع القليلة التي كانت بين يده، وهي كتابات ليبيرالية لا تشكل خطرا على الأيدولوجية الفاشية المهيمنة بإيطاليا أنداك. والتي كان ينقدها بشكل رمزي أو مباشر كما فعل بالنسبة لفلسفة أنطونيو كروص. والمستوى الثاني هو ما احتفظت به ذاكرته الواسعة والأحداث عاشها أو تفاعل معها سواء داخل ايطاليا أو خارجها. والتي كانت تصله أصدائها داخل السجن، فيكتب عنها آخذا بعين الاعتبار سيف الرقابة الذي كان حاضرا فوق رأسه فيتجاوزه بالتعبير الرمزي كرقابة ذاتية. لذا فمسايرة فكر غرامشي هو فسحة جميلة في بستان جميل تفنن في غرسه الفلاح عبر طريقة تتداخل فيها أنواع الأشجار والنبات. عوض تخصيص مكان لكل نوع منها غرسها حسب الظروف وما يمليه المخايل. لذي من يريد قطف نوع منها، عليه البحث عنها كمن يتشعب في مغاوير الغابة الاستوائية أو من يبحر في عمق اليمّ بحثا عن الجواهر الثمينة. كم مرة تخفى على الباحث في فكر غرامشي ما يريد الإحاطة به مما يفرض علية الرجوع مرات عديدة لنفس الغاية وهو بذا يصاحب غرامشي في رحلته البراكسية / حركة الفكر العملية دون عياء. وهو ما نفعله في جولتنا هاته من وجب تنبيه القارئ الكريم، ليفهم أننا نجول واياه في حلقة دولبية، أي تصاعدية. ذلك أن المهم في الفكر الغرامشي كونه جولة ممتعة في فلك المعرفة الغني. مما يسمح بفهم الفهم جدلي للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية مكسرا بذلك المفاهيم والتحاليل التي حنطنها الاشتراكية الكلاسيكية في قوالب ونظريات جامدة.

من هنا نفهم عدم تحديد غرامشي لمفهوم الثقافة. فهو يضفي عليه تارة فهما اديولوجيا، على منوال ماركس ولينين خاصة، وتارتا مفهوما سياسيا ليبيراليا على منوال أنتونيو كروص الذي تأثر به كثيرا وان انتقده. وأخرى مفهوما أنثروبولوجيا واجتماعيا. المهم مفهوم الثقافة ظل عنده مفتوحا وجامعا كما هو الحال عند معظم الباحثين في الموضوع منذ القرن التاسع عشر الى يومنا هذا. هناك تفسيرات لمفهوم الثقافة عند كل باحث وعند كل مدرسة فكرية أو علمية. لكن ما يمكن الأخذ بهه، كون الثقافة في مفهومها العام تتجاوز حيز التراث الفكري والمنتوج الأدبي لتشمل كل ما هو نتاج العادات والأعراف والأقوال وأنماط الحياة المتناقلة من جيل لجيل ومتطورة على الدوام. فهي بذا تحتوي على كل ما هو مادي شعوري وما هو غير مادي سيكولوجي في كينونة الاجتماع البشري أو الشعب أو الأمة. الثقافة هي القالب المشترك لمجموع أعضاء جماعة بشرية معينة يعيشون في محيط خاص بهم طبعتهم طبيعته وطبعوها من جهتم بشكل عيش معين. والتي تجدها بشكل ملموس وظاهر عند كل ن ينتسب اليها كطريقة المعاملة والنطق واللباس والأكل والسكن… أي كل ما يشكل القالب المشترك للهوية المشتركة.

هذه النظرة العامة تتجاوز ارجاع الثقافة لعامل واحد هو الأيدولوجية الوضعية أو الدينية، والتي مهما اتسع محيطها تظل ناقصة وغير جامعة لكل أعضاء المجتمع الذي تريد تميله. وان فعلت فيكون ذلك قصرا واستبداديا عن طريق الهيمنة السياسية والاديولوجية –وضعية كانت أم دينية -. الاشتراكية الكلاسيكية عند ماركس ولينين تحصر الثقافة في الأيدولوجيا وتربطها بطبقات معينة حيث كل منها يفرض هيمنته الثقافية بالقوة المتمثلة في سلطة للدولة. وهذا المنظور يفسر مثلا أن هيمنة الرأسمالية الليبيرالية تمر أساسا عبر هيمنة ثقافته الفردانية وعقلية المصلحة الخاصة عوض المصلة العامة ومنه شرعنه الفوارق الطبقية والعنصرية والاستغلال والحروب بمختلف أنواعها وتحت مختلف المبررات لفرض هيمنته الاقتصادية…. تطويرا للمفهوم الاشتراكي الكلاسيكي، لأنه الذي يهمنا، يعطي غرامشي حيزا أوسع وأساسيا لدور الثقافة الذي يمكن تلخيصه في مستويين:

المستوى الأول، كون الثقافة هي أمر عام يتجاوز محيط طبقة أو فيئة معينة وهي بذا موروث جماعي عبر تراكمات تاريخية. هذا الموروث الحضاري هو ما يميز شعبا معينا عبر اللغة وأنماط السكن واللباس والأكل والغناء والموسيقى والرقص والطقوس…. وهو تفسير أنثروبولوجي عام يضاف اليه الوعي السياسي الحي والفاعل، الأمر الذي كان لا يأخذه بعين الاعتبار الكافي التنظير الأيديولوجي الاشتراكي الكلاسيكي.

المستوى الثاني هو أخد النوع الثقافي الذي يدعو الية المنظور الاشتراكي من مساواة وعدل واخاء وتعاضد وتسامح وغيرها من المبادئ المؤسسة للفكر العقلاني الحر ونشرها داخل الطبقات التي لها مصلحة في التغيير. كما عبر عن ذلك غرامشي لما تناول مسألة الكتلة التاريخية، متجاوزا بذا الدور الكلاسيكي في التغير الثوري للبلوريتاريا كطليعة الشغيلة ليعممه على الطبقات التي لها مصلحة أساسيا في التغيير. أي كل من الشغيلة والفلاحين والمثقفين العضويين.

هذا المنظور بجانبيه المشار اليهما أعلاه يساعدا الالمام ما المقصود بالهيمنة الثقافية. والتي يلزم تحقيقها عبر نشر المشروع الاشتراكي داخل الطبقات الشعبية التي تمثل الغالبية من المجتمع وعبرها فرض ميزان قوى سياسي للوصول الى السلطة عبر الاقتراع التمثيلي الحر. أي عبر حرب مواقع. وحرب المواقع لا تعني التوسل للسلطة القائمة التنازل على جانب من سلطها كما يدعو له المسالمون من اليساريين، بل فرض ذلك عبر هيمنة ثقافية مناضلة في الميدان الاجتماعي والسياسي وطبعا والثقافي العام.

يتبع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube