شخصياتمستجدات

محمد المباركي مع غرامشي(11) تطور مفهوم اليسار (5)

8 –الأممية الثانية

لم تكن هناك مركزية لفروع الأممية الأولي التي بقيت تنظيماتها على شكل فيديرالية كل منها مستقل في بلدها. خلافا لهذا الشكل التنظيمي الأول الذي يسمح بحرية كل تنظيم، ستعرف الأممية الثانية عند تأسيسها عام 1899 بباريس، نوع من المركزية ل23 حزب من كل البلدان الصناعية تقريبا، كلها ماركسية النزعة. من أهم هذه الأحزاب، الحزب الاشتراكي الموحد الألماني، الذي تشكل اثر مؤتمر غوتا عام 1875 بين ألصّالين و الماركسيين. ولقد خاض الحزب الاشتراكي الموحد الألماني صراعا قويا ضد المستشار القوي موحد ألمانيا أتو فان بسمارك، وهذا الى حين الاطاحة به عام 1890. في ظل الشرعية حصل الحزب الاشتراكي الموحد الألماني على مجموعة من الانتصارات الانتخابية ولعب دورا سياسيا كبيرا منذ ذلك الحين. هكذا سيظل الحزب الاشتراكي الموحد الألماني، الذي سيصبح الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني نهاية القرن التاسع عشر، أهم الاحزاب الاشتراكية عبر تاريخ اليسار العالمي. لقد مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الاتجاه الشيوعي داخل اليسار الذي اختار النهج البرلماني للوصول الى السلطة لتطبيق مشروعه اليساري.

أما في انجلترا التي تشكلت بها أول طبقة عمالية مهيكلة عبر نقابات قوية، فان اليسار السياسي كحزب سيظل هامشيا الى حين تحالفه ثم اندماجه مع نقابات عمالية جديدة، تأسست على نقيض النقابات الليبرالية القديمة التي كانت قد نشأت مع بداية التصنيع وظلت رهينة بين يدي أرباب العمل. لكن وان سمي بالحزب الاشتراكي العمالي إثر اندماج الحزب الاشتراكي مع النقابات الجديدة فان هذه الأخيرة ظلت القائدة للاختيارات السياسية والاجتماعية والذي أصبح بداية تسعينيات القرن التاسع عشر يسمى بالحزب العمالي. والذي كالحزب الاشتراكي الديمقراطي بألمانيا سينهج الطريق السلمي للبلوغ الى السلطة، عبر الاقتراع العام وهو حزب العمال الراهن ببريطانيا.

أما فرنسا فيمكن القول أن تشكيل أول حزب اشتراكي ثوري بها، يعود الى جون كيسد الذي تبنى المنظور الماركسي أثناء نفيه بسويسرا. وهذا بعد أن كان كأغلب اليساريين الفرنسيين ابرودوني المذهب. استطاع جون كيسد بنشاطه الفائق بتنسيق مع كارل ماركس فرض التوجه الماركسي على الحزب الاشتراكي الفرنسي ابتداء من مؤتمر مرسيليا 1879. لكن وحدة الحزب الاشتراكي الفرنسي لم تعمر كثيرا نظرا للانشقاقات المستمرة التي عرفها اليسار الفرنسي، عكس الاحزاب الاشتراكية في ألمانيا وبريطانيا وغيرهما من بلدان أوروبا الشمالية.

أما باقي البلدان المصنعة الأوروبية فستعرف هي الأخرى تشكيل أحزاب عمالية يسارية خلال مرحلة الأممية الثانية، التي اهتمت بالجانب التنظيمي عكس الأممية الأولى التي اهتمت أساسا بالجانب الأيديولوجي ونشره. وهكذا تأسس الحزب الديمقراطي الاشتراكي بهولندا عام 1894. والحزب الديمقراطي الاشتراكي بالسويد عام 1896. وبالنمسا تأسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 1889. والذي كوّن حوله في مؤتمر بورن عام 1899 منظمة اتحادية لمجموع القوميات التي كانت تعيش داخل الإمبراطورية النمساوية. أما الوحدة العمالية في سويسرا فتحققت عام 1887، ضمّت المنظمات العمالية الخمس الكبرى والتي كانت ذات نزعة ماركسية. نفس الأمر حصل بالنسبة للحزب العمالي الايطالي الذي تأسس عام 1880. أما في اسبانيا فتأسس حزب اشتراكي عام 1879 ذا نزعة ماركسية، لكنه ظل أقلية بالنسبة للباكونيين، أي الأنرشيين / الفوضويين.

ستتمحور النقاشات داخل الأممية الثانية، منذ مؤتمرها الأول ببروكسيل عام 1891 الى مؤتمر شتوتكارت بألمانيا عام 1907، حول العمل السياسي والتكتيك للوصول الى السلطة. حيث سيظهر اتجاهين، المعتدل الذي يرى أن التكتيك لتطبيق الاشتراكية يمر عبر الاقتراع العام والبرلمان. أما التوجه الثاني لا يلغي الاقتراع العام ولكنه يقر بالثورة كضرورة للوصول الى السلطة. أما خلال مؤتمر 1907 والى عام 1914، فان النقاشات ستتمحور حول مشكلة الحرب وسيظهر اتجاهين. الاتجاه المعادي للحرب لأنها لا تخدم الشعوب والعمال، كونها حرب بين الإمبرياليات الرأسمالية والاستعمارية. كان يضم هذا الاتجاه الداعي الى السلم، جان جورس المعتدل بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الفرنسي وفلدمير التش لينين الثوري بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. أما الاتجاه الداعي للحرب فكان يضم معظم الأحزاب الاشتراكية الكبرى.

أهمية الأممية الثانية أنها وحدت نضال العمال عبر أحزابهم ونقاباتهم في البلدان الرأسمالية ومنها الاضراب العام لفاتح ماي 1890 الذي أصبح يوما عالميا تحتفل به الشغيلة كل عام والذي طرحت فيه المطالبة بثماني ساعة للشغل في اليوم واستراحة يومين في الأسبوع، يومي السبت و الأحد.

مجمل القول، أن الأحزاب الاشتراكية في البلدان الرأسمالية التي شاركت في الحكم ستجد نفسها أمام معضلات جسام في تسيير دواليب الدولة وتحقيق مطالب العمال والفلاحين. الأمر الذي سيدفع الى مراجعة العديد من أطروحات ماركس أو تعديلها وهكذا ستظهر كتلتين في معسكر اليسار. الكتلة الشيوعية وهي المتبنية للماركسية نظريا وتطبيقا والكتلة الاشتراكية الديمقراطية التي تعاملت مع الأيدولوجية الماركسية بشكل من المراجعة والبراغماتية. وهنا تظهر عبقرية غرامشي البراكسية/العملية النظرية، حيث سيفتت مجمل الأطروحات عند كافة، يحللها ويعيد النظر فيها ليستنتج خلاصات تجمع بين كل ما هو عملي ذا وعي ثوري وتطبيق سلمي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube