ثقافة وفنون

ســرد ونقـد (1) “الْقَرَّاء /القرّايْ النصراني”

مصطفى الزِّيــن

كنت كلما خرجتُ من الغرفة (10) ، حيث ترقد زوجي بعدما أُجريتْ لها عملية جراحية، و على مدار أربع وعشرين ساعة ؛ إلا ووجدته جالسا على كرسيه على جانب باب الغرفة (11) بأقصى البهو (الكولوار) بالطابق الأول بهذه المصحة الكبيرة..يقرأ في كتاب يبدو أنه رواية ضخمة مما لا يقل عن سبعمائة صفحة..لا يكاد يرفع عينيه عنها ؛ يقرأ جالسا، وأحيانا واقفا ، لا يتحرك إلا خطوتين أو ثلاث بمحاذاة غرفته ..كان يبدو طويلا رشيقا ، شعره أبيض .. افترضت أنه مثلي ، أستاذ مدرس.. أكثر من مرة ، تحيَّنْتُ منه إلتفاتة ، لَعَلِّي أحييه ، أو أستدرجه لتبادل التحية وبعض الكلمات تعارفا وتواصلا ..وكان شيء من الفضول يدفعني لمعرفة الكتاب بين يديه ، وإسم الكاتب أو الروائي.. إني ، منذ مدة غير يسيرة ، لم أر رجلا ، ولا امراة ، يقرأ كتابا ورقيا ، بل أنا أيضا، أنا الذي لم تكن الكتب تفارقني أبدا ؛ لم أقرأ ، منذ أكثر من سنة، إلا ما أحمِّله رقميا ،أو إلكترونيا ، على لوحي الأيپاد، وعلى هذا اللوح أكتب ، وأتفاعل مع ما يكتبه أصدقائي الإفتراضيون ، ومنهم من كانوا واقعين قبل الحجر والحظر..وتبعادالشُّقة والمسافة.. لكنه -للأسف -لم يمنحني ولو إلتفاتة واحدة.. لم يرفع عينيه ..ولم يُثره وجودي قريبا منه، جارا لغرفته، أو لغرفتهما..!؟ زوجي أفاقت من التخدير قبل نقلها إلى الغرفة ، كانت في تمام وعيها..حملتُ ثديها المجتث الموضوع في علبة تشبه علبة معجون كليوغرام واحد من صابون المطبخ، وعليبةً أخرى بحجم كأس دانون، واستقليت سيارة طاكسي وتوجهت،حيث وجهتني الطبيبة ؛إلى أحد مختبرات التحليلات الطبية.. ولما عدت كان هناك مستغرقا بين دفتي كتابه..وكذلك عندما ذهبت لاحضار أدوية من الصيدلية، ثم لإحضار شيء من الطعام ..أو عندما نزلت لملء بعض الأوراق بإدارة المصحة، أو عندما ذهبت لأتغذى صحبة ابنتنا الكبرى بمطعم أسماك بعيد..؛ كلما خرجت ،أو عدت.. إلا وكان ، هو ، هناك دائما يقرأ جالسا أواقفا، لم يعرني، لا أنا ولا غيري ، ولو التفاتة خاطفة.. أفقت صباح اليوم التالي متعبا مرهقا متوترا؛ فقد قضَّيت الليلة بين النوم والصحو، على أريكة قصيرة ضيقة، أرفع رجليَّ فوق طرفها المرتفع..أتقلب كما لو على الجمر، وكان الباب غير مقفل ،إذ بين الفينة والأخرى تفتحه إحدى الممرضات وتدخل تتفقد زوجتي وكيس المصل الوصول إلى شريان ساعدها..كنت جد متوتر، لا شك أن ضغط دمي كان مرتفعا جدا.. قالت زوجي إنها ، أيضا، لم تنم إلا قليلا وأن صوت هذه المرأة أو صوت أنينها المتوجع المتفجع المستغيث القريب الحاد ..كان يجعلها تستفيق بين الغمضة والأخرى.. قلت: إني لم أسمع أي توجع أو أنين ( عندما يرتفع لدي ضغط الدم، تنْسَدُّ أذناي، ويضعف سمعي) قالت: أنصتْ..، فسمعت الأنين المستغيث حادا متفجعا موجعا يقطع نياط القلب..تتتابع استغاثاث المرأة باستمرار..لا تحتمل.. فخرجت إلى البهو أتسمع وأستطلع ..كانت الصرخة قريبة جدا ..تأتي من الغرفة (11) ،بالضبط.. تحديدا، وكان الأستاذ يقرأ مستغرقا تماما لا يلتفت .. وعندما جاءت إحدى الممرضات سألتها بشأن الأنين المستغيث.. فلم تكد تلتفت ..ثم قالت : عادٍ ،هكذا هن بعض النساء ، أو حتى بعض الرجال..وانصرفت وعلى وجهها نصف ابتسامة ميتة.. خرجتُ إلى جهة مكتب حيث بعض الممرضات وبعض المسؤولين عن الجناح..كان الصراخ يسمع حادا فاجعا ،ولكنهم كانوا لا يشعرون ولا يهتمون.. عدت .. وبعد قليل ، سمعت خطوات بضعة أشخاص عبروا أمام باب الغرفة، خرجت توا، وجدتهم يدخلون، ويدخل “القرَّاي” في أعقابهم غرفة رقم 11..،بعدما وضع الكتاب مفتوحا مقلوبا فوق الكرسي..كان القادمون، امرأتين شعبيتين، معهما ولد في نحو العاشرة، اقتربتُ من الباب الموارب .. لم يعد يهمني الكتاب وعنوانه ..كانت المرأة لا تزال تتألم وتستغيث بِحدَّة ، وكان القادمون – لا شك- من أهلها أو أقاربها ، يواسونها ويحاولون تخفيف معاناتها.. عدت إلى محاذاة باب غرفتنا وانتظرت قليلا..سرعان ما خرج الرجل القَّراء غير متأفف ولا قلق.. وكانت مفاجأتي لما رأيت وجهه كاملا..عينيه الزرقاوين .. وبشرته وساعديه ، وعليها ، جميعا ، ذلك النمش الأجنبي الغربي.؛ كان، إذن أجنبيا “نصرانيا” في نحو الخامسة والستين من عمره .. لم يلتفت إلي ، ولا الى أي شيء آخر..وإنما أخذ كتابه واستغرق فيه من جديد.. قالت لي زوجي المنهكة الصبور إنها سمعت رجلا ، ربما شابا ، في عز الليل يحتج بصوت عال ويستنكر لا مبالاتهم بأخته التي تتقطع ألما ، ولكنهم أسكتوه..قطعا ليس هو الأجنبي القرَّاء المرابط على باب الغرفة؟ وتساءلت من يكون هذا الأجنبي ، ربما الفرنسي ، بالنسبة لتلك المرأة المتوجعة المستغيثة؟ ما علاقته بها وبتلك العائلة الشعبية المتواضعة ؟ افترضت أنه ربما من تلك الفئة من الأوروبيين من المتقاعدين الذين يستطيبون الحياة بالمغرب ، نظرا لانخفاض كلفة العيش هنا، فيفكر الواحد منهم: إ بدل استخدام خادمة ،ودفع أتعابها ..وتبعاتها ، لِمَ لا يتزوج مغربية من أسرة فقيرة، ولو كانت في نهاية شبابها أو مكتهلة ؟!، ويكفيه أن يعلن إسلام الشهادتين..؛ هكذا سيجد زوجة وخادمة، ودفءً وسط العائلة لا يكلفه الكثير..ولوفي مثل هذه الأزمات الصحية العابرة..وقلت لا شك أنه تكفل، باستعمال تغطيته الصحية، بمستلزمات علاجها ..وافترضت أن الطفل ذا العشر سنوات قد يكون ولدها من أبيه الميت.. وقد يكون افتراضي ضعيفا لا أساس له من الصحة ..لا يهم في ما يعنيني من سرد هذه الحكاية التي عشتها قبل نحو ثلاثة أشهر في منتصف فبراير الأخير..فما يعنيني ، وأريد أن يعنيك – أنت صديقي الذي تقرأ حكايتي هذه- هو هذه المفارقة : كيف يمكن لشخص أن يُستغرق تماما في القراءة ، ويُصِمَّ سمعه عن مثل ذلك الأنين الفاجع الحاد المستغيث، الذي يصدر عن شخص قريب منه ،ولو باعتبار مسافة المكان ؟ فكيف إذا كان القرب علاقة زواج أو رحما وقرابة..؟ تذكرت هذه الوقائع ، وتلك الصرخات المتضرعة المستغيثة التي تقطع نياط القلب.. ؛ وأنا ألاحظ كثيرين منا ، ومن البعيدين ، في بحر الأسبوعين الأخيرين ، وصرخات الشعب الفلسطيني تأتينا حادة مفجعة ، ولو مع أهازيج المقاومة وزغردات صواريخها الشجاعة التي أخذت تتساقط على رأس العدو الصهيوني المستفرد بضحيته، بعدما صم عنها آذانَهم المطبعون والمتخاذلون و”النصارى” قساة القلوب..وانصرفوا إلى رواياتهم، ربما الرومانسية، أو التركية أو إلى فرجات التفاهات على قنواتنا التي..لا تسمع ،أبدا في مثل هذه الحالات.. ولا ترى ..ولا تتكلم.. أستسمح في استعمال لفظ “النصارى” أو القَرَّاء “النصراني” إستعارةً، ليس بمعناه الديني ؛ ولكن بمعناه الشعبي الذي كان متداولا عندنا زمن الاستعمارين الفرنسي والإسپاني ، زمن مقاومتهما، إذ كان النصراني يعني كل قاسي القلب، متحجره الذي لا يرحم.. سواء كان مسيحيا أو يهوديا، أو مسلما .. أستغرب كيف تأتي استغاثات الشعب الفلسطيني، منذ أكثر سبعين سنةً ، حادَّةً قوية موجعة إلى سمع العالم كله ، مما يعانيه ذلك الشعب ، وما يعانيه المستضعفون المفترَسون في أنحاء الأرض ؛ ولكن كثيرا من المثقفين يصمون آذانهم ويستغرقون في عوالم الكتب والروايات والآداب والفنون..ولا يكادون يرفعون عنها أعنيهم ، إلى جيرانهم، أو إخوانهم ، أو حتى لأنين أعدائهم !؟ ما جدوى القراءة والمقروءات والثقافة والمعرفة ؟ إن لم تدفعك الى تأمل وفهم وتفهم الواقع والوقائع من حولك، وتشحذ حواسك ، إلى التَسمُّع لأنين الإنسانية الموجع الحاد القريب، أو البعيد الآتي كصدى للانفجار الكبير القادم ؟ ألا تكون القراءة الصماء أخطر مخدر للانصراف إلى اللاوعي، عن الوعي الذي يُفترض أن يميز الإنسان.

صفرو- الجمعة 21 مَاي 2021 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube