احمد رباصديانات وعقائدمستجدات

تطور الحقل الديني المغربي في مواجهة تحدي العولمة (الجزء الأول)

أحمد رباص – حرة بريس

عنوان هذه السلسلة الجديدة المخصصة للحقل الديني المغربي هو نفسه العنوان الذي اختاره محمد الطوزي، أستاذ العلوم السياسية، لمقاله المنشور في موقع cairn.info، عدد 2009. ولعله من المفيد لمشهدنا الأعلامي ومن المثري له عرض هذه المقاربة العلمية لموضوع على درجة من الأهمية بالنسبة لمن يهمه دراسة المجتمع المغربي وتحولاته.
بدأ الأستاذ محمد الطوزي مقاله بالإشارة إلى أن الإسلام المغربي يقوم على أساس سني، لكن الإسلام التاريخي يعكس مدى تعقيد هذا الدين وتنوعه وقدرته على التكيف مع الطلب الاجتماعي والسياق الخاص للبلد. منذ استقلاله عام 1956، اختار المغرب بناء مرجعية إسلامية وطنية مؤقلمة (territorialisée). هذا البناء الأيديولوجي، المعزز بصياغة مبكرة جدا لسياسة عمومية دينية، يشير إلى المذهب المالكي كطقس فريد، على عكس البلدان الأخرى حيث تتعايش عدة طقوس في نفس الوقت.
يلاحظ الطوزي أن هذا الاختيار للمذهب المالكي ليس جديدا، فهو نابع من نضوج تاريخي طويل يمزج بين الدراية الفنية لرجال الدين الأندلسيين الذين تم الترحيب بهم بعد اندلاع معارك الاسترداد وتوليفة من الطهرانية الأمازيغية البراغماتية والمتزمتة في آن واحد. وهكذا يستنتج الكاتب من ذلك أن الخيار السياسي الحالي المتمثل في الإصرار على المشروع الوطني للإسلام المغربي المؤسس على المذهب المالكي، لحمايته من السلفية الدولية، لم يأت من فراغ.
في موضع تال من المقال، يؤكد كاتبه أن مشروع الدين المؤقلم، الذي أدار في البداية ظهره للإسلام الشرقي، شكل عقيدة فريدة للسلطة (الخلافة) وللهوية الوطنية.
في الواقع، يتابع الأستاذ الطوزي، بعد الشروع في البناء المؤسسي للدولة عقب الحصول على الاستقلال الوطني، وجدت الجماعات الماسكة بزمام السلطة (الملكية والحركة الوطنية) نفسها ملزمة بأخذ الدين بعين الاعتبار. ذلك أن الوطنيين، من ناحية، دمجوا بالفعل العامل الديني في استراتيجية الحركة الوطنية لتحقيق التعبئة الجماهيرية ضد الحماية الفرنسية، وأن بناء دولة قومية مركزية، من ناحية أخرى، تطلب جهدا تعبويا وأفضي إلى السعي إلى الإجماع (الوحدة) الذي كان في هذه الحالة ممكنا فقط في إطار القيم الإسلامية.
بصراحة، عارضت الحركة الوطنية الاستعمار باسم مرجعية إسلامية غير قابلة للاختزال إلى هوية أخرى وأسست خطابها عن الأمة المغربية على هويتها الإسلامية. ومع ذلك، يواصل الطوزي، تجدر الإشارة إلى أنه بين بداية الستينيات ونهاية السبعينيات، حدث تحول في طريقة تصور مكانة الدين في بناء الدولة. استخدم الإسلام أولاً في بُعد الهوية الذي يشير إلى الانتماء إلى مجموعة (العالم الإسلامي)، مع الحد الأدنى من العواقب على السياسة الداخلية، وأصبح، من خلال إعادة القراءات المتعددة، عنصراً أساسياً في الممارسة السياسية: فهو يعمل كمصدر لشرعية السلطة ونزع الشرعية عن خصومها السياسيين.
ومع ذلك، لم يستطع المغرب البقاء في مأمن من التغييرات الهائلة التي مر بها الإسلام، سواء في إنتاجه التفسيري أو في مكوناته الاجتماعية. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، شهدت البلدان الإسلامية كليا أو جزئيا، بما فيها الدول الغربية، العديد من الاضطرابات. في هذا الإطار، يندرج النمو السكاني، الذي ساهم في الانفجار الديموغرافي المذهل بالعالم الثالث، حيث فاق عدد المسلمين المليار نسمة ومعظمهم من الشباب. كما تضخمت حركة حضرية غير مسبوقة لهؤلاء السكان بسبب الهجرة الجماعية لسكان البادية، وخاصة التنقل خارج الحدود التاريخية للإسلام، ولا سيما نحو أوروبا.
ونتيجة لذلك، وجد الإسلام في طور الانفصال عن منطقة محددة جيدا بحدود معروفة. ففي أوروبا الغربية وحدها يقيم حوالي عشرة ملايين مسلم ثقافتهم إسلامية أو آباؤهم مسلمون. غالبا ما يكونون مواطنين في بلد إقامتهم أو هم في طريقهم لأن يصبحوا كذلك بسبب تخفيف إجراءات الحصول على الجنسية، دون أن يتسبب ذلك في مشاكل وجودية كبيرة لغالبيتهم.
أما في أوروبا الوسطى والشرقية د، فقد أدى سقوط جدار برلين وإعادة انتشار هوية المجتمعات المختلفة إلى زعزعة خريطة الحدود الدينية، في البلقان، وكذلك في آسيا الوسطى والقوقاز.
بدت هذه التغيرات الديموغرافية والجغرافية في المجتمعات الإسلامية للكاتب مصحوبة بتغيرات ثقافية قوية للغاية ناشئة عن نمط الإنتاج الزراعي. فمنذ السبعينيات، أنتج التعميم النسبي للتعليم تحولات جذرية في النسيج الاجتماعي، حيث غالبية الشباب الذين ولدوا بعد الاستقلال يعرفون القراءة والكتابة بينما لم يحصل آباؤهم على نصيب من التعليم أو حصلوا عليه بطريقة مختلفة.
انطلاقا من هذه الواقعة البسيطة، أصبح صراع الأجيال أمرا لا مفر منه. لقد أدى إلى التشكيك في ثقافة الآباء أو على الأقل إعادة تكوينها على أسس جديدة وانطلاقا من كفايات جديدة. وأصبح من الآن الأداء التفسيري، أي الحق والكفاءة الشرعية لقراءة نصوص التقليد وتأويلها، منفصلاً تماما عن نظام النقل المشخصن لعلماء الدين. كما ظهرت طبقة جديدة من المثقفين الذين يدعون الوصول المباشر إلى النصوص المقدسة من خلال الكتب.
ووفقا لما ذكره بيرك بالفعل في كتابه “المغرب العربي بين الحربين”، فسح الحفظ (الاستظهار) المجال للمطالعة (القراءة مع تدوين الملاحظات) والمخطوطة المحفوظة بغيرة لدى الأسرة لمجلة التقريب أو حتى للوثيقة الإلكترونية.
علاوة على ذلك، لم يختبر الجيل الجديد الاستعمار. لقد تم نزع الشرعية تماما عن القوس الوطني الذي أضفى الشرعية على السلطة الاستبدادية للآباء بسبب عدم قدرة النخب القديمة على تولي مسؤولية نموذج العدالة الاجتماعية والتغيير السياسي.
كل هذه التغييرات استدعت معايير جديدة لتحديد الإسلام وتفسيره في منظور دينامي يتعارض مع الأحكام المسبقة الجوهرية لبعض المحللين والخطاب التوجيهي للدين الرسمي.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube