مستجداتمقالات الرأي

عربيا، ماذا لو كان في شيء من العلمنة حاجة إيمانية؟!

عادل كوننار

بداية أعلم جيدا إلى أي حد سيكون التساؤل الذي يحمله العنوان صادما لدى شريحة واسعة من أبناء المنطقة العربية، و ذلك بالنظر إلى مدى تغول المد المحافظ و تغلغله في البنية الثقافية العربية من جهة، ثم بالنظر من جهة أخرى إلى تلك الحمولة القدحية التي ترسخت في أذهان الناس حول العلمانية كتوجه كُفرِي يعادي الدين، خصوصا إذا  تعلق الأمر هنا بشعوب تتصف بأنها شعوب متدينة بطبعها، لا ذلك فحسب، بل زيادة على ذلك تَعتبر هذه الشعوب تدينها مرٱة للهداية و الرشاد، أي لامتلاك الحقيقة، و بالتالي فإن الإدلاء بأي رأي أو إلقاء أي خطاب مخالف لما تهوى النفوس سيقابل بالامتعاض الشديد، و ربما يذهب الأمر إلى ما يتعدى الامتعاض، غير أننا مع ذلك نصبو من خلال هذا المقال إلى مناشدة الممتعضين للتوقف لحظة قصيرة، يُسمح لنا فيها بمحاولة إلقاء القليل من الضوء على تدينهم الذي لا نشك لحظة أنه أثمن و أغلى ما يملكون.

و لعل ما سيشفع لنا في نيل شيء من سعة صدورهم هو تناولنا هنا لمطلب العلمنة في سياق حاجة إيمانية، أي في إطار ربط بالدين لا إطار فصل، و هنا قد يقول قائل، و أي ربط يمكن أن تقيمه العلمنة أو العلمانية مع الدين و هي ما أتت إلا لتقويضه، و نسفه أو في أقل الأحوال لعزله عن الحياة الدنيوية و تحييده عنها..

في واقع الأمر نحن نعلم جميعا أن العلمانية في مهدها هناك في أوربا، كانت قد جاءت كثورة على الكنيسة كمؤسسة و لم يكن الأمر صراعا ضد الدين، و الأديان السماوية إنما نزلت لكي تلعب دورا تحرريا عظيما في حياة الإنسان، لكنها حينما تتجذر بعد ذلك مؤسسيا في المجتمع فإنها تصبح أسيرة لعبة الحكم و التسلط، و ذلك لما يثيره الإيمان الديني من حماس و عواطف لدى الناس، و لذلك فقد شكلت العلمانية في الأساس رفضا للكهنوت الديني الذي يسعى للسيطرة على مقدرات الأرض من خلال توظيف تلك السيطرة و تصويرها كرغبة أتت من السماء، و ليس صحيح هنا تلك الخصوصية المزعوم حصرها في الدين الإسلامي باعتباره الدين الوحيد الذي لا يمكن فصله عن الحياة الاجتماعية و السياسية، و بأنه شامل المدى يحتوي الأمور الروحية و الزمنية معا، مُدَّعو هذه الخصوصية كثيرا ما يتناسون ذلك الموقف الذي ظلت العقيدة المسيحية تقول فيه و لقرون طويلة أن فصل الدين عن الدولة مخالف لتعاليم الدين الجوهرية، فأي ما دين إلا و يجب مقاربته من منظورين مختلفين، منظور فلسفي بوصفه جملة من الأفكار التي أخذت طابع المعتقد حول قضايا الخير و الشر و الخلق و العقاب و الثواب و جملة طقوس يقوم به المؤمن للتقرب من الإله، ثم بين الدين كإديولوجيا نشأت في ثناياه على شكل تعبير عن صراعات بشرية لكن بتسويغات دينية ما تفتأ تستمد قوتها من فكرة المقدس الديني الذي يؤمن به البشر، و ما أحوجنا اليوم في العالم العربي إلى تفكيك تلك الازدواجية التي تضع إيمان الناس تحت تأثير استلاب إيديولوجي يأخذ تدينهم كرهينة  للعبة القوى و السلطة في بلداننا خدمة لمصالح الأنظمة الحاكمة و لبقائها في الحكم ، و قد كان من تبعات هذا الاستغلال الإيديولوجي أن أضحى استعمال الدين بين الناس استعمالا اغترابيا يتنافى مع عمق الدين، حيث أن الإيمان يكون اغترابيا إذا لم يسمح للإنسان بأن يفرق و يفصل بين إيمانه و بين لعبة الأدلجة السلطوية في مجتمعه التي يستعمل الدين فيها كأداة خصبة للتوجيه و التنميط، من هنا و في هذا الإطار ذي الخصوصية العربية تصبح العلمنة مطلبا منشودا لأجل تحرير تدين الناس من أغلال الاستلاب الذي يقف حائلا بينهم و بين روح الدين، ذلك أن الإيمان و التنزيل اللذين لهما حرمتهما شيء، و استعمال الدين في الحياة المجتمعية شيء ٱخر لا حرمة فيه لأنه من صنع البشر، و كلنا نرى ما وصلت إليه حياتنا المجتمعية من شتى صنوف العوز القِيَمي بالرغم من كل ادعاءاتنا الأخلاقوية، فلئن حضر الدين و طغى على مختلف مناحي حياتنا فإن هذا الحضور قد غدا سطحيا، غير معبر سوى عن استعمال نفعي دنيوي، و الأمر لا يقتصر على المعاملات و العلاقات الإنسانية، بل حتى الشعائر و العبادات ما عادت تسلم بدورها من هذا التعامل المصلحي المفتقد لكل بعد روحي صادق، من هنا فالعلمنة المتوخاة هي تلك التي ستسمح للدين بأن يلعب دوره الصحيح في حياة الإنسان الاجتماعية بتقوية عنصر الإيمان و هو الأهم في الدين على حساب المظاهر الاجتماعية للدين، و أول خطوة على هذا الطريق ستكون بترسيخ الحرية كقيمة هي الأعلى في سلم القيم، بداية من الحرية السياسية للقطع مع أي استعمال للدين لكسب الشرعية السياسية كما هو الحال اليوم لدى نخبنا الحاكمة، وصولا إلى حرية الاعتقاد، لا في معناها المرتبط بحرية الانتماء الديني من عدمه و حسب، و إنما بالأساس في حرية الاختيار بين الطاعة و المعصية حتى داخل الدين الإسلامي نفسه، بما يسمح لتعاطينا مع الدين أن يكون تعاطيا حقيقيا يخضع لرقابة ذاتية لا تعاطيا مزيفا يخضع لرقابة خارجية، إن هذا التصالح مع قيمة الحرية و مع إمكانية ممارستها هو ما سيمكن الناس من الانفلات من أسر الاغتراب الذي يقف بينهم و بين حقيقة ذواتهم في خضم التوجيه المؤدلج الذي يخضع له تدينهم، و كذا في خضم انصراف هذا التدين إلى اتجاهات أبعد من أن يربطها رابط بجوهر الدين.

إن العلمنة في هذا السياق التحرري، و بهذا الشكل المتصالح مع الدين لا يمكن إلا أن تمكن الإنسان العربي من استرداد حريته في السلوك و التعبير، و حريته في الفهم و الإدراك و رفضه لكل اشكال الوصاية عليه، و لكل سلطة فوقه ما عدا سلطة العقل و الضمير، عند هذه النقطة فقط سيتسنى لنا الرجوع الى المضمون دون الشكل والى الجوهر دون القشور والى الصدق دون النفاق والى وحدة الانسان دون ازدواجيته والى الانسان دون غيره.

هنا فقط سنتمكن من الاهتداء إلى مخرج من مأزقنا الوجودي، و الارتقاء بحياتنا الخلقية و الروحية من مستوى العرف الذي يفرضه نمط تديننا الحالي، إلى مستوى الضمير الذي يتطلب تدينا أكثر عقلانية و أقل استلابا، و ما أحوجنا في أزمنتنا هذه إلى بلوغ هذه الدرجة المتناسبة في سياق مجرى التاريخ مع مستوى تطور الوعي البشري المعاصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube