احمد رباصمستجدات

قصة حب مشوب بالشفقة

أحمد رباص – حرة بريس

واهم ذاك الذي يبني جدارا فاصلا بين الرواية والدراية ظنا منه أن إحداهما مستقلة عن الأخرى. لكن الحقيقة غير ذلك بحجة أن كتابة الرواية أو أي مادة سردية تتطلب من بين أشياء أخرى إتقان اللفة المستعملة كوسيلة للتواصل مع القارئ عن طريق الحكي الذي لا يستقيم أبدا بدون تفكير. لهذا السبب، ربما، اعتبرت ماجدة حمود الروائي مفكرا في مقدمة دراستها المعنونة ب”إشكالية الأنا والأخر: نماذج روائية عربية”.
من بين الأشياء الأخرى التي تستدعيها الكتابة السردية التحلي بقدر من الشجاعة كاف لإقدار الكاتب على الخروج من دائرة التردد كلما أراد مقاربة الوقائع التي أجل البوح بها اعتبارا لكذا و كذا..والواقع أن الشجاعة وحدها غير كافية لتبديد التوترات الناجمة عن الترددات.. فلأجل تحقيق النجاح في هذا المضمار، لا بد من تضافر استعدادات نفسية متباينة لا يتسع المجال لتفصيل الحديث عن طبيعتها وماهيتها.
أيها الراوي القابع في باطني، كفى من التبريرات التي تسوقها لنا في هذه الحصة الحكائية لتغطي بها على عجزك المزمن عن الاقتراب من جوانب في ذاكرتي، جوانب لم يشملها لحد الساعة فعل الحكي مع أنها تقيم في منطقة الشعور، بعيدة عن اللاشعور.
أدرك الكائن الأسطوري الساكن بين ضلوعي كنه النداء الذي وجهته إليه، فقال لي: تريد مني أن أحكي لقارئيك وسامعيك عن قصة حب ذات شجون عشتها في آيت حمو أوسعيد؟ أنت من اتخذ قرار هذا التأجيل، وأنت من يتحمل مسؤولية هذا التأخير.. لا بأس، سوف أستأنف الحكي متقمصا شخصيتك وناطقا بلسانك كما جرت العادة منذ البداية..
منذ الأيام الأولى التي شهدت بداية الدراسة بمدرسة آيت حمو أوسعيد خلال سنتي الأولى، تمت إحاطتي علما بالوضعية الاجتماعية لأحد تلاميذي في القسم الخامس..كان أبيض البشرة لأنه من سلالة الأمازيغ الأحرار..كانت بنيته الجسمية سليمة معافاة، لكن طويته النفسية عليلة تخفي المعاناة.. من هذا الجانب، بدا لي كحبل تقطعت أليافه لشدة ما خضع له من شد وجذب بين أب مقيم في الديار الفرنسية لا يرتمي في حضنه إلا عند مجيئه بعد غياب يدوم أمده وبين أم تمكث في الدوار سجينة بين أسوار لا حصر لها..لم تنل نصيبا من التعليم شأنها في ذلك شأن الكثيرات من بنات جنسها عبر سائر أرجاء الشساعة المغربية.
من بين الأشياء التي حكوها لي عنها أن زوجها طلقها للمرة الثالثة على التوالي..في مثل هذه الحالة، تنص الشريعة الإسلامية على أنه لا يحق للزوج استئناف حياته الزواجية مع طليقته إلا إذا ضاجعها رجل أخر على أساس أنها زوجته..الحكمة من هذا الإجراء الغريب غير القابل للهضم هي جعل الرجال يفكرون ألف مرة قبل اتخاذ قرار تطليق نسائهم للمرة الثالثة حفاظا على بيضة الأسرة من أن تتهشم.
وبلغة الفقهاء، جاءت الشريعة بتشريع حازم ليردع أمثال هؤلاء العابثين، فحرمت على الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا أن يتزوجها حتى تنكح زوجا غيره زواجا حقيقيا ويدخل بها ذلك الغير ،وذلك لإغاظة الزوج وتأديبه ليشعر بجرم ما كان منه من العبث بآيات الله، فإن الرجل ينفر من أن يعاشر امرأته غيره ولو كان هذا في نكاح صحيح ،فإذا استشعر الإنسان هذا أمسك عن العبث بالطلاق.
ولما سألت محدثي عن الأسباب التي كانت وراء هذا المسلسل من سوء التفاهم بين رجل وأمرأة من نفس العائلة، أجابني بأن حماة الأخيرة اعتادت أن تقدم لابنها عند عودته من الغربة تقريرا شفويا مفصلا عن حركات زوجته وسلوكاتها التي بدرت منها أثناء غيابه. ربما كان الذكاء الاجتماعي يعوز ربة البيت الفاشلة هاته وأمها لأنهما لم تتمكنا من كسب ود الحماة وجعلها في صفهما..
واصل قطار الحياة سيره غير مكترث بضحاياه من المسافرين على متنه وقد امتلأت صدورهم بالهم وخاصم جفونهم النوم إلى أن حل يوم زارت فيه المدرسة هذه الأم لطفل وحيد..قبل أن تدخل إلى القسم المجاور للسلام على إحدى المعلمتين، قصفتني بنظراتها التي انطلقت صوبي من عينيها كسهام ولا واحدة منها أخطأت هدفها، ولا واحدة فشلت في تبليغ رسالتها..من خلال هذه النظرات الأسرة، اكتشفت أنها منحت لولدها كل صفاتها وهو جنين في بطنها. لولا ذكورته لكان نسخة منها طبق الأصل. هنا والآن، أحسست بنفس الإحساس الذي انتاب البطل في”قصة حب مجوسية” لعبد الرحمن منيف.
منذ ذلك اليوم، لم أعد أفكر إلا فيها..لم أستطع أن أحتفظ بحبها كسر مكنون في قلبي إلا خلال أيام معدودة..بعدها، بحت به لأحد أصدقائي ممن ينتسب لعائلتها عساه يساعدني على بناء جسر للتواصل معها..حبي للمراة الأمازيغية فقد نهائيا مواصفات السر، حيث سرى خبره بين الأهالي سريان النار في الهشيم..لا شك في أنها علمت بأن نظراتها أصابت الهدف وبأني صرت عالقا بشباكها بحيث صارت شغلي الشاغل في حلي وترحالي، في نهاراتي وليالي, قلت دات يوم للشاب القريب منها: “حبي فالشلوح ولا نطيح روح”.
اهتديت أخيرا للزواج بها بدافع عاطفي صرف نابع من إحساس فياض بالحنان والشفقة حيالها، وقلت في قرارة نفسي سوف أتزوجها لأملأ فراغي العاطفي وأشبع جوعي الجنسي، وأنتقم لها من رجل خذلها وأهان كرامتها حتى وهو من ذوي القربى..فكرت ثم قدرت وانتقلت إلى ترجمة أفكاري وتقديراتي إلى حيز الفعل، خصوصا وقد بلغني أن حبيبتي راضية بي كبعل لها وما عليّ سوى التقدم لخطبتها – بكسر الخاء – من أمها وأخويها اللذين يشتغلان في الدار البيضاء كنادلين بمطعم مختص في إعداد الوجبات حسب فن الطبخ الصيني. لكن قبل ذلك، لا بد لي من اقتناء كل ما يلزم من أثاث وأفرشة وأوان إن أردت فعلا أن أستقبل حياة زوجية وأودع حياة العزوبية إلى الأبد..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube