حوادثمستجدات

انتفاضة 14 دجنبر 1990 عندما لعلع الرصاص وسقطوا شهداء الوطن

مرت 30 سنة على تاريخ 14 دجنبر 1990 والذي سيبقى يوما موشوما في ذاكرة الشعب المغربي، باعتباره يوما تاريخيا وضع الملك الحسن الثاني على محك الدعاية الإعلامية وادعاءات التغيير والانتقال الديمقراطي وكشف عن الرفض الشعبي للتوجهات التقشفية والتفقيرية التي رسمتها سياسة التقويم الهيكلي والتي جاءت بإملاءات صريحة من صندوق النقد الدولي، أما الحسن الثاني ملك المغرب حينها والذي لم يمض على تأسيسه للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سوى 7 أشهر فقد عمد إلى الدفع بالجيش إلى المدن مستعملا الرصاص الحي لإبادة المتظاهرين الذين واجهوا الدبابات والرصاص الحي بالصدور العارية.

البداية: إضراب عام

كانت البداية إضرابا عاما أعلنت عنه المركزيتان النقابيتان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، بسبب رفض الحكومة الجلوس إلى طاولة الحوار وتهميش النقابات في الوقت الذي كانت تعمل فيه على ضرب القدرة الشرائية وتخريب المرافق العامة وتدمير الخدمات العمومية.

وحاولت حكومة عز الدين العراقي احتواء الوضع قبل يوم الإضراب حين تأكدت من درجة الاحتقان العالية وسط الجماهير الشعبية، فدعت يوم مساء يوم 12 دجنبر 1990، لاجتماع حضره الوزير الأول آنذاك عز الدين العراقي، ووفدان عن النقابتين مع اللجنة الحكومية المكلفة بالحوار النقابي، واستمر هذا الاجتماع إلى حوالي الساعة الواحدة صباحا من يوم 13 دجنبر 1990، لكن الاجتماع لم يخرج بنتائج ملموسة فتقرر المضي قدما في الإضراب العام، أما الحكومة فأعلنت استعدادها ’’لاستعمال كل الوسائل لضمان حرية العمل والحفاظ على النظام العام‘‘.

وبينما دعت النقابات إلى التزام المنازل يوم الإضراب، خرجت جماهير غفيرة في مختلف المدن المغربية، تطالب بالعيش الكريم والحرية والكرامة وتندد بتردي الأوضاع الاجتماعية، فيما نالت مدينتا فاس وطنجة عقابا جماعيا سقط خلاله شهداء واعتقل المئات، بعد أن غادر الجيش ثكناته وخرج إلى الشوارع يواجه الشعارات بالرصاص الحي.

بعد فشل الاجتماع الذي دعا له الوزير الأول – حينها – أمر الحسن الثاني بالبدء في تشديد الإجراءات الأمنية، حيث بدأت الشرطة باستعراض عضلاتها يوم 13 دجنبر عبر تسيير مواكب جماعية للسيارات في الأحياء الشعبية وقرب الحي الجامعي بفاس، فيما تمت تعبئة الجنود لقيادة الحافلات بغرض إفشال الإضراب العام وضبط الوضع.

’’كومونة فاس‘‘:

لا يأتي تعبير الكومونة هنا كمفهوم علمي يقارب ما حدث بثورة الكومونة بباريس، لكنه تدليل على مستوى معين من التنظيم الذاتي ابتدعته الجماهير الشعبية خلال نصف يوم تقريبا لتدبير الأمور بمدينة فاس، حيث أصبحت المدينة بحلول الساعة العاشرة صباحا تحت السيطرة التامة للفقراء والغاضبين من السياسات المتبعة آنذاك.

وبينما هرب كبار مسؤولي السلطة وعلى رأسهم عامل فاس إلى إفران، نظم المتظاهرون أنفسهم ليصدوا الهجومات المتعددة لقوات القمع التي سعت إلى إخماد الانتفاضة لكنها فشلت لساعات في هذا المسعى، فيما لم تسجل إلى حدود سيطرة الجماهير الغاضبة أية سرقات للمنازل أو اعتداءات على المواطنين باستثناء المواجهات مع قوات الشرطة والقوات المساعدة.

ونظرا للغضب العارم للفقراء فقد كان المتظاهرون يحرقون السيارات الفارهة التي تعود للأغنياء الكبار، كما اقتحموا المحلات الكبرى التي كانت تبيع السلع بالجملة، وجعلوها في سوق شعبية في حي بندباب عرضت فيها السلع بأثمان مخفضة حيث تم بيع قالب السكر ب4 دراهم ولتر الزيت ب3 دراهم وكيس الطحين ب 30 درهما، ولمزيد من التنظيم عينوا أمينا على السوق يسهر على سير الأمور.

طنجة: ’’عطينا وعصينا في 14 دجنبر‘‘

’’عطينا وعصينا في 14 دجنبر‘‘ هذا الشعار الذي عرف صدى قويا في مظاهرات حركة 20 فبراير بطنجة جاء للتدليل على قوة الانتفاضة، كما يأتي شطره الآخر ’’بالرصاص قتلونا في بني مكادة‘‘ للتدليل على حجم القمع الذي ووجهت به مطالب المحتجين، فيما وصفته الصحافة الإسبانية حينها بـ ’’مذبحة الحرية‘‘.

ابتداء من الساعة التاسعة صباحا من يوم 14 دجنبر 1990، كانت جموع الغاضبين في الشارع من أجل إرغام الحكومة على الاستجابة للمطالب الاجتماعية المطروحة، في مقدمتها حل معضلة البطالة، تكريس التوزيع العادل للثروات الوطنية، محاربة الفساد الإداري، إصلاح قوانين الشغل، ضمان حرية التعبير، العمل على تعزيز الكرامة الإنسانية للمواطن.

اندلعت شرارة المواجهات في حي الجيراري، بعد أن اعتقلت الشرطة التي طوقت مداخل ومخارج بني مكادة، مجموعة من التلاميذ، الذين ردوا بالحجارة على سيارات الشرطة والقوات المساعدة التي استعملت القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، قبل أن يتم اللجوء إلى الرصاص الحي، فيما فرض حصار وتطويق كامل لبني مكادة ودشر بن ديبان.

المجزرة:

بدل الاستجابة للمطالب الشعبية بتخفيض الأسعار وإيجاد حلول جذرية للبطالة وتحسين الخدمات العمومية التي جاءت سياسة التقويم الهيكلي لتجهز عليها، قرر الحسن الثاني الدفع بالجيش إلى الشارع. ابتداء من الساعة الخامسة بعد الزوال وأمام التنظيم الجيد للمحتجين في التصدي لقوات الشرطة وتسيير أمورهم، جاء هجوم الجيش فأطلق الجنود والدبابات على المتظاهرين، وأقلعت الطائرات المروحية من ثكنة الفرق المتنقلة بقصعة الماء، وتوجهت نحو باب الفتوح وبن سودة وعوينات الحجاج لتمطر الثائرين بوابل الرصاص لمدة زادت عن 3 ساعات، فيما استمرت المواجهات إلى وقت متأخر من الليل.

وفي يوم 15 دجنبر 1990 استيقظت مدينة فاس على واقع ’’اجتياح عسكري‘‘ حيث، الدبابات مرابطة في النقط الإستراتيجية لشوارع وأحياء المدينة، ومدافعها مصوبة لمخارج الأحياء الشعبية والجنود على أهبة الاستعداد لإطلاق النار، ووجدت أحياء شعبية بكاملها وسط حصار عسكري (باب فتوح، باب الخوخة، عين النقبي، سيدي بوجيدة، عين هارون، محيط الحي الجامعي ..).

تحكي شهادات نشرت سابقا أن قوات الجيش شرعت في إطلاق الرصاص على المتظاهرين الذين عادوا للخروج يوم 15 دجنبر مدفوعين هذه المرة بالغضب على استشهاد عشرات الشباب الذين لفظ بعضهم أنفاسه في المستشفيات، فتجددت المواجهات والاشتباكات مرة أخرى طيلة اليوم، ولم يتمكن الجيش من السيطرة على الوضع وإخماد الانتفاضة المجيدة إلا في اليوم الثالث للإضراب، ليشرع في حملة واسعة من الاعتقالات فيما قدر عدد الشهداء بالمئات (من 500 إلى 800 حسب شهادات شهود نشرت سابقا حول الموضوع).

ولم تكن فاس وطنجة وحدهما من انتفضتا يوم 14 دجنبر 1990، فقد خرجت مظاهرات عارمة في جل المدن المغربية، وسجلت مواجهات في معظمها حيث نذكر على سبيل المثال لا الحصر الدرالبيضاء، آسفي، أكادير، مراكش، بني ملال، سوق السبت، عين تاوجطات، القنيطرة وغيرها

مجزرة بشعة ولجنة برلمانية للتقصي:

شكل إطلاق الرصاص على المتظاهرين هوة في أوساط الرأي العام الوطني والدولي، وتناولت الصحافة العالمية الخبر واصفة ما حدث بالمجزرة، وللتخفيف من حدة الضغط الناجم عن ذلك اقترح الوزير الأول عز الدين العراقي تشكيل لجنة للتقصي من داخل البرلمان وتم تشكيل اللجنة التي ضمت 21 عضوا، معظمهم (12 نائبا) من الأحزاب الإدارية (6 من الاتحاد الدستوري و4 من الأحرار و2 من الحزب الوطني الديمقراطي) فيما التسعة الأخرون من المعارضة (3 من حزب الاستقلال، و2 من الاتحاد الاشتراكي، و1 من التقدم والاشتراكية و1 من منظمة العمل و1 من الاتحاد العام للشغالين و1 من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل).

واشتغلت اللجنة ما يناهز سنة كاملة (من 16 يناير إلى 3 دجنبر 1991)، استمعت خلالها لوزير العدل مصطفى بلعربي العلوي، ووزير الصحة الطيب بن الشيخ، ووزير الداخلية ادريس البصري إضافة إلى عامل فاس السابق، وخلصت إلى التقليل من عدد الضحايا في صفوف المتظاهرين والتضخيم من عدد المصابين في صفوف قوات الجيش والشرطة والقوات المساعدة.

وهكذا جاءت إحصاءات اللجنة على النحو التالي:

الضحايا بمدينة فاس: 42 قتيلا منهم 1 من القوات النظامية (الحكومة قالت 5 وممثل النيابة العامة قال 23) الجرحى: 236 منهم 153 من القوات النظامية و83 من المدنيين .

الضحايا بمدينة طنجة: قتيل واحد و124 جريحا: 103 منهم من القوات النظامية.

كما خلصت اللجنة البرلمانية إلى أنه لم يستعمل السلاح الناري من قبل قوات الأمن، رغم أن كل الشواهد والمعطيات والأدلة التي تم إتلاف أغلبها لاحقا تؤكد إطلاق النار واستعمال الذخيرة الحية.

مقابر جماعية:

شاءت الصدف أن يفتح جرح انتفاضة 14 دجنبر 1990 في وقت لاحق بعد أن أعلنت هيئة الإنصاف والمصالحة أنها حددت الأماكن التي دفن بها 106 أشخاص، موضحة أن 99 من أولئك الضحايا دفنوا في مقبرة باب الكيسة ودفن الباقون في مقبرة أبو بكر بن العربي ، دون أن تتمكن من التعرف على هوياتهم، لكن حقوقيين ظلوا يشككون في هذه الأرقام.

لكن أشغال تهيئة حديقة جنان السبيل في 10 مارس 2008 فضحت كل البيانات و المعطيات التي قدمت من قبل بعد أن عثر العمال أثناء قيامهم بأشغال الحفر لتجديد شبكة دورة الماء بالنافورة الرئيسية للحديقة بوجود هياكل عظمية شبه تامة لثلاثة أشخاص على عمق نحو ثلاثين سنتمترا تحت سطح الأرض، مما أرغمهم على إيقاف الأشغال فورا، ورجحت الفعاليات الحقوقية أن يعود رفات التي اكتشفت لضحايا لانتفاضة 14 دجنبر 1990، فيما تؤكد شهادات كثيرة على وجود مقبرة أخرى بالغابة المحاذية لمستشفى الغساني، وهو أكبر مستشفى على الصعيد الجهوي، إضافة إلى القبور التي تم اكتشافها بالقرب من مستشفى الخطابي بالمدينة القديمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube