فضاء الأكادميينمستجدات

وعود الوزير بومبيو والسفير فيشر: قراءة نصفيْ الكوب!

البروفسور محمد الشرقاوي واشنطن

أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا

عند التحليل النقدي للخطاب، تبرز ثنائيةُ الفهم أو التأويل، وثنائيةُ التلقّي الموضوعي أو الإسقاط الذاتي، وثنائيةُ تحليل الديناميات أو استشراف المآلات، وبينهما يكبر السؤال: هل نستوعب ما يقصده المتحدث أم نسمع ما نريد ونتجاهل ما لا نريد؟
من منطق هذا التقابل نشأ مفهوم المقارنة بين “نصف الكوب المملوء” و”نصف الكوب الفارغ”. وعلى منواله يستقيم مفهوم التقريض أو النقد البناء critique باعتماد الميزان الدقيق في قياس مثقال ما لكلّ مسألة من ناحية ومثقال ما عليها من ناحية أخرى. وقد قال أحد أصدقاء الصفحة “أفضّل أن أتابعك وأنت تناقش القضايا الدولية لأنّ واقعيتك تحبطني عندما تناقش قضايا الوطن. لا مجال للرومانسية والعاطفة السياسية كما تقول.”
هي مقارنةٌ يستدعيها تحليل مستجدات الموقف الأمريكي إزاء المغرب أمس، وإنْ كان البعض سيقاومون منطق المقارنة، ويميلون إلى ضرب عنق صاحبها بأوصاف تعسفية. وتبيّن أن أغلب هؤلاء لا يتأملون النص أو يقرأونه بالكامل، بقدر ما يصيبهم التشنج المبكّر من أول جملتين لا تتماهيان مع تصوّراتهم أو تهدّد قناعات نمطية لديهم منذ سنوات وعقود. وأحيانا يقفون عند لفظ محدد أو عبارة بعينها يقتطعونهما لنوايا في أنفسهم، فيلْوُون عنق المعنى ويغتالون الدلالة بغية نشر انطباع سلبي حول من يدعو لمساءلة وتدقيق في قرارت مصيرية، في حقبة مصيرية، وتطلعات شعب مصيرية منذ 45 عاما.
معارضو السؤال والمقارنة مثل تتار المغول في العقود القديمة، يحملون النار في رؤوس العيدان ويهرولون إلى حرق مكتبة بغداد… هم لا يضرمون النار في الكتب فحسب، بل يحرقون الأفكار أيضا، ويُجْهضون ولادة رؤى جديدة، بل ويغتالون سمعة دعاة التفكير البديل والبناء الاستراتيجي الجديد.
هناك أثرياء الحروب والأزمات، وهناك أثرياء المفاوضات والصفقات… وعندما يشع بريق المليارات والمشاريع المقبلة عبر الطائرات، تتداخل “حسابات” المصلحة و”شعارات” القضية الوطنية. فيتقمص بعضهم تارة رداء الأنبياء لنشر ديانة ” الوطنية الجديدة”، وتارة رداء شرطي المرور عند قارعة خيالهم وهم يُشهرون عصيّهم بين “طريق الخطأ” و”جادة الصواب”، وتارة أخرى هم حرس قيّم على “مزبلة التاريخ”.
أحيانا يعتلون الصوامع لإعلان احتكارهم التقوى “الوطنية” وناصية المعرفة وتحريم الأسئلة… يصنعون الفتاوى تحت الطلب بشيطنة من يخرج عن ملّة النص الواحد، وقداسة القالب الواحد، وتبعية الرأي الواحد، أو من سوّلت له نفسه في الداخل والخارج أن ينال من هيبة المقدّس الجديد: “نصر الدبلوماسية المغربية”. ينصّبون أنفسهم أئمة الديانة الجديدة، ويوزعون صكوك المواطنة وفق معايير “قائمة الشرف”!
في برلمان العهد الجديد، يصبح السؤال عن حقيقة “النصر الدبلوماسي” تهمة ينبغي أن يسجلها رئيس الحكومة على أعلى أولوياته، ويستدعي حرس النهار وعسس الليل، وحتى خفر السواحل وفرق التدخل السريع، للتحقيق والإدانة وحتى الإعدام المعنوي لمن لا يقرأ البسملة الجديدة على الاتفاقات الجديدة. وتحت قبة البرلمان في الرباط، ينتحر أرسطو وابن رشد وكانط وهابرماس وبقية دعاة الديمقراطية والتفكير النقدي عبر القرون. فلا غرابة أن يقرّر مغرب 2021 إصدار بطاقات هوية جديدة وكنانيش الحالة “الوطنية” وفق تصنيفات الحرس القديم الجديد بمعايير “قائمة الشرف”. خِتْمٌ أخضر ُ إذا أعلنت إيمانك ب”النصر الديبلوماسي”، و خِتْمٌ أحمرُ إذا صنّفوك على هواهم بأنك “لا ترفع لواء الشعار الواحد أو لا تردّد النشيد الواحد بالحماسة المطلوبة.”!
لكل صفقة جديدة محاموها اليوم وأثرياؤها غدا. أثرياء الحروب وأثرياء الصفقات من نفس الطينة يعملون بمنطق قناصي البراري، يقتلون الفيلة من أجل أنيابها، ويبيعونها قطع العاج في مزادات الأسواق الصاخبة وعبر شركات التهريب عبر القارات، وهذا موضوع آخر.
يبحث التحليل النقدي للخطاب في ثنايا النص من حيث تركيب اللغة وسيميائتها، والأهم من ذلك حمولته غير المعلنة ودلالات معانيها التي تسافر بين الكاتب/المتحدث إلى المتلقّي/المستهلك. ويتطلب برودةَ الأعصاب والتجرّدَ من شتى الحماسات الذاتية، حتى لا يغدو مجرد تبشير أيديولوجي يتخفّى في عباءة “التحليل السياسي” تحت الطلب. لكن الخبر السارّ في هذه الحالة أن ذكاء الجمهور أعلى من ذكاء الكتاب والمحللين.
وهذا هو الأمل الأخير في زمن “الجّذْبة” والشخدة” في مزارات “الروح الوطنية” في بعض القنوات وعبر صفحات الإعلام الجديد. يقول أحد المتابعين “عندما تكون عصيّا يُساء فهمك ويتم التأويل المتعسف الذي لا يغرف من دلاء المنطق والموضوعية. أنا شخصيا أتابعك وهذا لا يعني أنّني متفق معك في كل ما تنتهي اليه، أنا الذي لا أصل إلى قامتك، لكني أقرّ بانفرادك عن سرب المحللين المطبلين.”
من حسنات التحليل النقدي للخطاب في دراسة الموقف الجديد لحكومة ترمب إزاء المغرب ونزاع الصحراء، أنه لا يحدد التفكيك في بنيات محددة للنص أو الحديث، بل يرتبط بشكل منهجي ببنيات السياق الاجتماعي والسياسي. وهذا المنحى مهم في تقريب المسافة عبر المحيط الأطلسي بين ما يغرّد به وزرير الخارجية مايك بومبيو في واشنطن وما تتلقاه النخبة والرأي العام في الرباط. ويستعرض نورمان فيركلاف منظر التحليل النقدي ومؤلف كتاب “اللغة والقوة” المفاهيم التي تُعدً حيوية في التحليل النقدي للخطاب، ومثل “الخطاب والقوة والأيديولوجيا والممارسة الاجتماعية والمنطق السليم.” وبحكم الجاذبية، أبدأ بالقسم الأسفل من الكوب.
نصف الكوب المملوء


انتهى حفل التوقيع على نص الإعلان الثلاثي في الرباط، وصرف كوشنير شيك نتنياهو بسلسلة اتفاقات وتعهّد الرباط بإقامة “علاقات أخوية ودبلوماسية كاملة”، كما صرح وزير الخارجية ناصر بوريطة. وحانت اللحظة لكي تدير الرباط وجهها إلى واشنطن لمعرفة الرصيد السياسي بتسديد قيمة الشيك الموازي، شيك ترمب، بعد أن تعهد آدم بروهلر الرئيس التنفيذي للمؤسسة الأمريكية لتمويل التنمية باستثمارات تقدّر بثلاثة ملايير دولارا في المغرب.
في خطوة إيجابية أمس، كتب وزير الخارجية بومبيو تغريدة يقول فيها “تماشياً مع إعلان الرئيس ترامب بشأن الاعتراف بسيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية، تعلن وزارة الخارجية أنها بدأت عملية إقامة قنصلية أمريكية في المنطقة. ونحن سنبدأ على الفور افتتاح مركز افتراضياVirtual Presence Post للصحراء الغربية، مع التركيز على تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، على أن يتبعها قريباً تشييد قنصلية تعمل بكامل طاقتها. ستتم إدارة موقع التواجد الافتراضي هذا من قبل السفارة الأمريكية في الرباط.”
كثيرون ترقبوا أن يستخدم السيد بومبيو عبارة الصحراء “المغربية”، وليس “الغربية”، وسأل أحدهم لماذا لم يقل “الصحراء الغربية المغربية” why secretary Pompeo didn’t say in western Moroccan Sahara.
هو سؤال يعزى إلى فرضية تغيير في القاموس الرسمي الأمريكي على أساس أن الاعتراف وتغيير الخارطة تم قبل أسبوعين. ولا يمكن التقليل من الأهمية الرمزية والسياسية التي يتمسك المغاربة بها في مرحلة الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على جميع أراضي الصحراء.
نصف الكوب الفارغ


تزامنت تغريدة الوزير بومبيو عشية يوم 24 ديسمبر مع بداية إجازة عيد الميلاد ورأس السنة، وتستمر حتى الرابع من يناير، لا تتحرك خلالها المعاملات الإدارية بين مكاتب الحكومة الفيدرالية. ويعتزم السفير الأمريكي في الرباط ديفيد فيشر بدء إجراءات إقامة المركز الافتراضي في الأسبوعين الأولين من الشهر المقبل، وأنه سيكون في الداخلة “قبل العاشر من شهر يناير المقبل للبحث عن مقر القنصلية، ولقد حددنا شخصًا سيكون مساعدنا في هذه المهمة. نحن نعمل بسرعة كبيرة لتحقيق ذلك.”
وإذا استشرف المرء الأسابيع الأربعة المقبلة، قد لا يكون هناك وقت كاف لتشييد القنصلية في الداخلة قبل مغادرة الرئيس ترمب البيت الأبيض. وثمة سؤال آخر، هل سيبقى السفير ديفيد فيشر في منصبه بعد تولّي جوزيف بايدن الرئاسة في العشرين من يناير. من صلاحيات الرئيس الجديد الاحتفاظ بالسفراء الذين اختارهم الرئيس المنصرف أو استبدالهم كما فعل الرئيس ترمب في بداية رئاسته في شتاء 2017.
على المستوى السياسي الأوسع، حاول بومبيو التخفيف من مستوى توقعات المغاربة بترجمة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء إلى زخم جديد في الأمم المتحدة واستمالة دول أخرى لتنبي الموقف الأمريكي الجديد. وقال في الجزء الثاني من تغريدته “سنواصل دعم المفاوضات السياسية لحل القضايا بين المغرب والبوليساريو في إطار خطة الحكم الذاتي المغربية.” ولم يشر إلى ما إذا تم أي تنسيق مع خلفه المقبل أنثوني بلينكن أو بقية فريق بادين بشأن اعتراف ترمب بسيادة المغرب على الصحراء.
في مقابلة صحفية مغربية، سُئل السفير فيشير عن “بعض التفسيرات التي تزعم أن إدارة الرئيس المقبل جو بايدن ستتجاهل قرارات ترامب، خصوصا تلك المتعلقة بمغربية الصحراء؟”
فرد السفير فيشر يقول “يبدو أن وسائل الإعلام هي الوحيدة التي تقول ذلك. لدينا علاقات مع المغرب منذ عام 1777 من خلال الديمقراطيين والجمهوريين، ما يحدث اليوم يجعل العالم أكثر أماناً، ونحن بحاجة إلى شراكة بين إسرائيل والمغرب ودول أخرى.” وعندما يكتفي السفير بالقول “أعتقد أن الإعلان الذي وقع عليه الرئيس دونالد ترامب سيظل قائما، وستكون لدينا علاقة اقتصادية دافئة ورائعة، سواء من خلال الإدارة الجمهورية أو الديمقراطية”، فإنه لا يقدم التأكيد المنشود.
عبارة “أعتقد..” في المنحى البرغماتي الأمريكي تفيد عدم التأكد من موقف بايدن. فلا تأكيد في تغريدة بومبيو، ولا في مقابلة فيشر، وفي تصريحات بوريطة: هو سؤال لا ينم عن “التبخيس” أو “التقليل” من “نصر” الدبلوماسية المغربية كما سيقول بعض القنوعين بتغريدة ترمب وإعلانه قبل عشرة أيام. جواب السؤال يستدعي مساءلة فيشر وبومبيو وكوشنير وترمب: هل تضمنون كافة وعودكم للمغرب والمغاربة ما بعد العشرين من يناير؟ هل تنسّقون مع فريق بايدن بشأن الوفاء بتعهداتكم جميعها؟
على خلاف رؤساء أمريكا السابقين، تحتاج المفاوضات الدولية في حقبة ترمب قدرا أعلى من البراغماتية، وتمسكا أكثر بالدوغماتية، وحرصا على تسديد رصيد الشيك
كاملا غير منقوص!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube