احمد رباصمستجدات

مفهوم السعادة في فلسفة نيتشه (الجزء الأول)

أحمد رباص – حرة بريس

بالنسبة لنيتشه، الفيلسوف الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر، لا تميل الحياة إلى السعادة، بل تميل إلى توسيع قوتها. من منظوره، تقوم السعادة على عنصرين أساسيين: القدرة على النسيان والمصالحة مع التعاسة.
يشرح لنا نيتشه كيف ان الحياة لا تميل إلى السعادة؛ إذ يرى أن الحياة كطاقة، كقوة حيوية تدفع كل كائن حي إلى تمديد سلطته إلى ما يحيط به. إن الحياة “إرادة قوة” سواء في شكل إبداعي أو نمائي، ولكن أيضا في شكل تدميري وعدواني، وبالتالي فالحياة تسقط في تناقض وجداني. هكذا فإن هدف إرادة القوة هذه هو أن تؤدي إلى السعادة.
كل كائن حي تحركه الرغبة في السلطة، وليس الرغبة في السعادة. بالنسبة للفيلسوف نيتشه، السعادة هي “الشعور بأن القوة في تزايد، وأن المقاومة في الطريق إلى أن يتم تجاوزها”.
وماذا عن السعادة كقدرة على النسيان؟ كجواب على هذا السؤال، أقول إن السعادة بالنسبة لنيتشه إيجابية، وهذا واحد من أهم شروط السعادة على الإطلاق.
إن التعلق بالماضي أو الحنين إلى الماضي أو الاسترجاع، كل ذلك لا يؤدي سوى إلى الشلل، في حين أن النسيان يعني تحرير الذات والقدرة على التصرف. كما يجب علينا أيضا أن ننسى المستقبل، ولا نتوقع الكثير، لأن ذلك قد يصيبنا بالشلل هو الآخر. لذلك فإن النسيان له دور مزدوج في السعادة: فهو يربطنا بالحاضر ويسمح بتحقيق قوتنا من خلال تخليص الفعل مما يمكن أن يوجهه بشكل خاطئ وجعله أكثر فعالية.
يقول نيتشه: “في السعادة الصغرى كما في السعادة الكبرى، هناك شيء يجعل السعادة سعادة؛ ألا وهو إمكان النسيان، أو بمكلمات أكثر علمية، قدرة الشعور بأشياء، أيا كانت ديمومةالسعادة، بعيدا عن أي منظور تاريخي.
الإنسان العاجز عن الجلوس على عتبة اللحظة متناسياً كل أحداث الماضي، ذاك الذي لا يستطيع، بدون دوار وبدون خوف، الوقوف منتصباً للحظة، مثل انتصار، لن يعرف أبدا ما هي السعادة، والأسوأ من ذلك ألا يقوم بأي شيء لإضفاء السعادة على الآخرين. (Considérations inactuelles)
والآن، ماذا تعني السعادة كتصالح مع الشقاء؟ إن السعادة عند نيتشه تدمج التناقض الوجداني في الحياة، إنها تصالحة مع التعاسة. بالنسبة له، لا يتعلق الأمر بتجنب الشقاء عبر الانفصال أو الحكمة، بل على العكس من ذلك، من خلال الاحتضان التام لهذه التعاسة لأنها عنصر من عناصر الحياة.
أن تكون سعيدا هو أن تحب الحياة بما تتضمنه من شقاء وأن تعبرها العبور كله. هذا الموقف الجذل، هو ما يسميه نيتشه Ja sagen، أي أن “تقول نعم”، نعم للحياة كما هي وتتقدم نحو مصيرك مرفوع الرأس.

لنعد مرة أخرى لمسألة النسيان. يذكر نيتشه في كتابه “Considérations inactuelles” أن البقرة لا تعرف الملل ولا الألم، فهي غير قادرة على التذكر. المغزى من هذا المثال هو أن النسيان ليس مجرد “فقدان” للذاكرة، بل هو فعل نشط يحمل في داخله قوة تحرير.
بالطبع، فقدان الذاكرة بالكامل لن يكون أقل سوء من فرط الذاكرة. يؤكد نيتشه أن العلاقة بالماضي يجب أن تكون متوازنة: بوصفه فرزا انتقائيا حقيقيا، على النسيان أن يعقلن علاقتنا بالماضي، أن يطرح جانبا كل ما يعرض سكينة اللحظة للاضطراب.
أن تنسى هو أيضا أن تصبح لاتاريخيا: بالنسبة لأفلاطون، كان النسيان فضيحة أخلاقية وفلسفية، سعى المايوتيك (توليد الأفكار) إلى إصلاحها. عند نيتشه، على العكس من ذلك، يعيق التاريخ، على مستوى الشعوب، حرية الإبداع. التاريخ ليس، كما أراد هيجل في “العقل في التاريخ” ، أو ماركس في “البيان الشيوعي”، مبدأ وحدة، بل حمل مشترك، ثقل جماعي يمنع الشعوب من تقرير مصيرها.
المعنى لا يورث، بل يبتكر. سواء على المستوى الجماعي أو الفردي. هذا هو الدرس المستفاد من فلسفة نيتشه، التي تجعل النسيان محور السعادة.

(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube