ثقافة وفنون

قصة قصيرة: ًإمــارة يعقوبيــان

مصطفى الزِّيـــن

وددت لو أحكي لكم هذه القصة كما سمعناها ، نحن الإثنين : سارة أختي وأنا، من عمي رحال نفسه ..ولكن عمي رحال ليس حكاءً، ولا يحسن القص..ربما لأنه كان متأثرا جدا، متحرجا مما اقترفه إبنه..؛ لهذا سأحاول أن أقص عليكم الحكاية متجردا متخيلا كيف حدثت ..طبعا ، بزيادة ونقصان؛لأن لا حكاية دون زيادة ونقصان.. أوكذب وبهتان.. في منتصف الطريق الصاعد الحاد، إلتقيا : عمي رحال ،كما يناديه الآخرون، يسوق حماره المثقل بحمله مصعِّدا متعرِّقا، والآخر (بادُّو أو بادِّي) منحدرا ، يقود حماره النزق المتخفف من حمله..استوقفه بادِّي ،دون أن يلقي السلام ، سائلا إن كان قد بلغه خبر مقتل الحاج يعقوب؟..ولم ينتظر منه الجواب..فأردف أن الرجل وًٌجد مشنوقا في حديقة فيلته قبل أربعة أيام ..وأن التشريح أكد أن الرجل مات مقتولا مخنوقا ،وليس منتحرا ..و إن البوليس ربما أوقفوا المجرمين، أو هم في طريقهم إلى إيقافهم..وسَحب لجام دابته منحدرا..وهو يردد : المجرمين..أولاد الحرام..المجرمين.. ظل رحال واقفا مصدوما من المفاجأة ، مستديرا يتابع بنظره بادُّو وحماره..حتى أفاق على زعقة حادة لامرأة تزجر حماره الذي استغل شروده ، فشذب بأسنانه المهذبة البيضاء الشجيرتين على جانبي باب بيتها..فلم يعرف كيف يعتذر لها ، أو يوقف دعواتها على الحمار وعليه ..ولكنه دفع حماره بكلتي يديه..بل إنه لم يعرف كيف يستوعب الخبر وهو يسير بحماره مصعدا ..فكان يوقفه ويتوقف .. ويتفكر..كيف ستسير حاله بعد مقتل الرجل الطيب..الذي أقرضه ثمن الأتان(الحمارة)ثم ثمن هذا الحمار الذي يتعيش هو به، كما يتعيش منه الحمار بدوره..بل كيف تسير حال ابنه الذي كان سببا في مصرع الأتان..والذي استطاع أن يقترض من الحاج يعقوب ثمن التريپرتور..وربما أشياء أخرى.. ألا يكون الخبر مجرد كذبة أو إشاعة..ثم انتبه أن الحمار كاد يصل إلى نهاية العقبة مبتعدا عنه..فأسرع يلحقه قبل أن ينحرف إلى الجهة الخاطئة..ولكن الحمار دار في الإتجاه المقصود.. أفرغ رحَّال أكياس الإسمنت الخمسة من فوق ظهر حماره..واعتذر لصاحب البضاعة بكونه لا يستطيع نقل الباقي إلا في صباح الغد..وتوجه نحو حوشه وبراكته..وما كاد يربط الحمار ويجلس على كرسي وطيء، حتى جاءته ابنته ذات الثلاثة عشر ربيعا، تحدثه عن جريمة قتل يعقوب ، وتعرض أمامه ، من خلال هاتفها الذكي الذي أهداها إياه أسامة ، صور الرجل وأقوال وتصريحات بعض الناس على اليوتوب..وتغريدة أخيها على الفايس..ولكن رحال كان مرهقا جدا لا يتبين شيئا مما يرى..فغفا قليلا..مستندا برأسه إلى الحائط القصديري المجير.. بعيد صلاة المغرب جاءه بادِّي ..وهو مستوفز متحمس للحديث في جريمة مقتل الحاج يعقوب..يلعن ، هذه المرة، ليس فقط القتلة، ولكن من يروجون أن الحاج -رحمه الله – كان يهوديا ، وأنه كان يبعث أمواله إلى إسرائيل..وأن بنته وولده لا يوجدان في فرنسا كما كان يزعم،وإنما يستقران في فلسطين المحتلة، ..وأخذ يردد : المجرمين..من شنقوا الرجل الطيب ..وهؤلاء الأنذال الذين يروجون هذا الكلام الخبيث.. قال رحال إن هذه الإشاعات قديمة..سمعها عن الحاج منذ أكثر عشر سنوات..وسمع من يقول إن سارة و ريان ،اسمي بنته وولده، هما اسمان عبريان يهوديان..رغم أن بعض المسلمين يسمون، اليوم، أولادهم بمثل هذين الإسمين..وكذلك يعقوب أو جاكوب إسم الحاج..وسمع من يقول إن الحاج،رغم أنه كان كثيرا ما يصلي بمتجره، إلا أنه لم يُرَ أبدا يلج باب مسجد..وأضاف التهامي أن ذلك مجرد إشاعات خبيثة..وأن يعقوب ربما كان من أصول يهودية، ولكنه حج مع أناس معروفين..وكان يعلق ، خلف كونطوار متجره، لوحات هي عبارة عن آيات قرآنية ،وأنه ،عندما أقرضه ثمن الآتان ، قبل ست سنوات..لفت انتباهه إلى لوحة معلقة ، وقرأ عليه “من غشنا فليس منا”،ثم من أخرى “اتق شر من أحسنت إليه”..قال بادي: لا شك أن القتلة، وكذا من يروجون هذا الكلام الخبيث ، هم من الكلاب الذين كان الحاج يحسن إليهم، بل هم أذل من الكلاب؛ لأن الكلاب لا تعض اليد التي أحسنت إليها..ثم أخذ يردد : مجرمون..قتلة..أولاد الحرام.. كانت دمعتان متوقفتين في محجري رحال وهو يذكر صاحبه بفضله وفضل الحاج يعقوب عليه..فاعترض بادِّي متسائلا عن أي فضل عساه يكون ليعقوب عليه هو الآخر.؟! فقال رحال:ألست أنت من نصحتني بالتوجه إليه؟..بل وبالعودة إليه ثانية بعدما نفقت الأتان التي اشتريتها بالمال الذي أقرضني، دون أن يأخذ مني أي تعهد أو ضمانة برده؟ وكم كانت مفاجأتي عندما أخبرته بعد ثمانية أشهر أن الأتان نفقت بما في بطنها.. كيف تقبل الأمر..ثم أقرضني ثانية بما اشتريت به الجحشين اللذين أصبحا حمارين، أحدهما هو الذي به أكسب قوتي وقوت العيال..والآخر،كما تعرف ، بعته، وكنت أنوي أن أنزل المدينة كي أرد بثمنه دين الحاج يعقوب علي..بعد أن مر أجل الست سنوات كما وعدته..هل رددت أنت إليه دينه؟ رد بادِّي : ذهبت إليه مرتين بالأمانة، ولكنه قال لي بأنه ليس مستعجلا في رد الدين، ويمكنني أن أؤجل الدفع إلى أن تتحسن أوضاعي..ثم أخبرني بعض الناس أنه لا يسترد أبدا تلك الديون مما له على الفقراء من أمثالنا، ولا يعفي منها أحدا بصريح العبارة..وسمعت من يزعم أن ابنته عادت..وأنها تزمع جمع كل ما كان لأبيها من ديون على الناس..ولكن، كيف يمكنها ذلك، وليس لأبيها، رحمه الله،أية وثائق أو تعهدات على المدينين، وربما كانت كل حمير قبيلتنا هي حمير يعقوب الرياشي..الله يرحمه.. وإن كثيرا من الناس يرددون أن يعقوب اشترى قبيلتنا بالحمير، وأنه ينوي أن يترشح للانتخابات القادمة ممثلا لقبيلتنا وهذه الجهة.. ألا يكون محترفو الانتخابات هم من قتلوه؟ أطلت البنت ربيعة عليهما من داخل باب البراكة، وأشارت إلى أبيها أن أمها تطلبه لدقيقة واحدة ،ولكن بادي نهض قبله مستأذنا،رغم أن رحال ألح عليه أن يتعشى معهم ،ولكنه اعتذر بكون عياله ينتظرونه على العشاء وانصرف..وهو يحوقل ..ويدعو على القتلة المجرمين.. لم يصدق رحال الخبر الذي قرأته عليه ربيعة من هاتفها ..واسم ابنه أسامة رحال اليحمدي، من المتهمين المقبوض عليهم في قضية مقتل اليهودي يعقوب الرياشي..وكانت زوجه على وشك أن تصرخ ،ولكنه وضع كفه على فمها وأشار إليها أن تنكتم ..هامسا أن ابنهما بريء ،ولا شك أن هذه الأخبار مجرد إشاعة..إشاعات لا غير.. ويبدو أن المرأة اطمأنت قليلا، فنامت أو تظاهرت بالنوم ، ربما حتى ينام هو والبنت..ولكنه لم ينم إلا ساعة أو ساعتين قبيل الفجر..وبات يفكر في إبنه أسامة، وهل يكون صحيحا أنه قَتل من أحسن إليهم؟! ويستعيد كيف أن الفتى كان مستعجلا في كل شيء..في الانقطاع عن الدراسة، وفي إرهاق الأتان العشراء عندما شد إليها عربة حديدية ،وصار يحمل عليها ما لا تطيق من الأثقال والأحمال ،ويتعسف عليها في المرور عبر الطريق الصخرية الوعرة بتلك العربة العريضة، حتى دميت قوائمها ووركاها وتورمت فنفقت..وكيف استعجل القرض من الحاج يعقوب فاشترى تلك الدراجة النارية التريپورتور ..وكيف تزوج من امرأة ، ربما تكون في سن أمه.. وكيف أصبح يملك بيتا محترما في المدينة الكبيرة المدوخة ،ثم كيف أصبح، في الأيام الأخيرة، يزعم أنه غدا شريكا للحاج يعقوب الذي أصبح يعتمد عليه في كل شيء.. وأفاق مع أذان الفجر وهو تحت وطأة كابوس فكأنه تحت ثقل العربة الحديدية والحمار المنقلبين فوقه.. ******** تُرى، ماذا يجري هذا الصباح الباكر؟ ما هذا الهول الذي أصاب هذا الحي بأعلى هذا الجبل ؛ هذا الحي القصديري البئيس؟ تساءل رحال ، في رعب وحيرة، وهو يدفع حماره خارجا متوكلا على الله،.. الكل يُفيق على صراخ النسوة والأطفال..وهمهمة الرجال..؟والكل يجري ويجأر ويستجير؟!..أعاد الحمار إلى الحوش..وخرج يستطلع الأمر..ولكن أربعة جنود وعون السلطة/ المقدم ، دفعوه إلى الداخل..آمرين إياه بأن يسلم الحمارين..وهرع اثنان من الجنود يسحبان الحمار، بينما كان الآخران يهمان بولوج البراكة ..لولا أن أوقفهما عون السلطة ..قائلا إن الرجل لا يملك إلا هذا الحمار..وأنه سيعرف كيف يخرج منه ثمن الآخر الذي باعه منذ أيام.. خرج رحال يتبع الرجال الخمسة وحماره المسلوب،وخرجت ، في إثرهم ، البنت وأمها يصرخان..ولكنهم سيجدون الجنود والرجال الغرباء يجمعون كل حمير الحي وبغاله وبقراته..وأنعامه ودراجات التريپورتور ويضعونها جميعا في عربات جرارات فلاحية وشاحنات عسكرية وغيرعسكرية ، ويعتقلون بعض الرجال، منهم رحال اليحمدي..وبادو البادِّي.. في القرية المركزية الكبيرة على سفح الجبل ، ستتوقف العربات بمحجوزاتها من الحيوانات والرجال..بل هنا ستلتقي مختلف الدوريات العسكرية القادمة من الأحياء الأخرى المتناثرة على جنبات الجبل وما حواليه بأسلابها من الحمير والبغال والأبقار والتريپورتورات..مما أخذ باعتباره هبات مشبوهة من “اليهودي” المقتول.. ****** أسامة، الذي كان حدثني عنه والدي ، بالهاتف أكثر من مرة ، هو من وجدت في ذلك الصباح، قبل نحو عشرة أيام ، رقم هاتفه، في ثلاث نداءات غير ملتقطة من قِبلي، قبل نحو ساعة واحدة، فاتصلت بوالدي ولكن هاتفه كان يرن دون جدوى..وقبل أن أتصل بأسامة ، تلقيت مكالمة من البوليس ..يبلغونني الخبر الصاعقة أن والدي قد مات..وعلي أن أحضر أنا وسارة أختي في أقرب وقت..وقبل أن أستفيق من وقع المفاجأة ، اتصلت بي سارة البعيدة عني بنحو مئتي كيلومتر..كانت تنشج وتجهش بالبكاء..وتقول أنهم قتلوه.. أولاد الكلب، وأنها ستطير إلي..حالا..ثم نأخذ الطائرة من كندا إلى بلدنا.. بعد ثلاثة أيام،كنا قد وارينا الوالد التراب، بعد كل الإجراءات التي تمت بسرعة غير معتادة هنا، بعد أن كشف التحقيق أن القاتل الجاني هو أسامة بن رحال اليحمدي ، الذي اعترف بالجريمة وكشف الأموال والأوراق التي سرقها .ولكننا في اليوم الرابع..سنفاجأ باعتقالنا بتهمة التزوير في أوراق الهوية وانتحال صفتي شخصيتين أخريين، بل إنهم وجهوا التهمة إلى والدي -رحمه الله -يعقوب ميمون الرياشى..بكونه كان ينتحل صفة يهودي مغربي كندي إسرائلي يدعى يعقوب بن يعقوب ميمون طوليدانو الرياشي..الذي مات بإسرائيل؛ أي بفلسطين المحتلة، قبل تسع عشرة سنة، وأن ولديه برايان طوليدانو وأخته سارة، قد حضرا من إسرائيل ، معهما أوراق تثبث أن كل الأراضي والمتلكات والعقارات التي ندعي أنها إرثنا إنما هي في ملكية والدهما جاكوب طوليدانو ..وأن محاميا أمريكيا، يترأس فريقا من ستة محامين من إسرائيل وانجلترا وكندا..، يعملون على انتزاع ميراثنا وتجريدنا من كل شيء.. أنا محمد ريَّان يعقوب الرياشي ..المحامي، وأختي سارة المحامية الكبيرة، نوجد في السجن، ومن السجن اكتشفنا أن أسرا كثيرة أخرى تتعرض لنفس ما نتعرض له، وأن قبائل وبلدات ومدنا ، من هذه الإمارة ، تتعرض لسلب كل ممتلكاتها و للطرد والترحيل والتشريد ، بدعوى أنها تحتل أراضيَ وأملاكا لأناس قادمين من رحلة صيد استغرقت سبعين سنة.. والأدهى أن سجانينا يعذبوننا بالموسيقا، تارة بالسنفوني، تعزفه ما يسمونها اركسترا جريزاليم للغرب والشرق، أو تعزف هي ،وفرق أخرى ،وتغني أغانينا الشعبية، في أزيائنا وأهازيجنا..ويزعمون لنا أنهم أكثر وطنية منا، وأعمق انتماء لهذه الأرض وهذه الإمارة..وكي أتغلب على هذا التعذيب حاولت أن أتذكر أبياتا شعرية كان أبي يستشهد بها أن (يعقوب) إسم عربي ، يعني ذَكَر الحجل.. قد وجدت أستاذا معتقلا معي يحفظها ويقول إنها لشاعر عربي أعمى عاش قبل ألف سنة.أنا لم استطع أن أحفظ منها غير هذه الأبيات الثلاثة، ولكني، كلما أطلقوا معزرفاتهم وموسيقاهم نكايةً فينا ،فإني أرفع عقيرتي عاليا: لَوْ كُنتَ يَعقوبَ طَيرٍ كُنتَ أَرشَدَ في مَسعــاكَ مِن أُمَمٍ تُنمى لِيَعقــوبـا ضَلّــوا بِعِجلٍ مَصوغٍ مِن شُنوفِهِمُ فَاِستَنكَروا مِسمَعاً لِلشَنْفِ مَثقوبـا وَلَن يَقـومَ مَســـيحٌ يُجمَعـــونَ لَهُ وَخِلتَ واعِدَهُم مِ الخُلْفِ عُرْقــوبا صفرو : الإثنين 28 دجنبر 20 20

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube