مستجداتمقالات الرأي

سعيدة الكامل تكتب: حول الإفراج عن معطي منجب وسراح الإنفراج المنشود

حرة بريس -سعيدة الكامل

في لحظة مشهد سياسي وحقوقي مأزوم، لا يمكن أن يكون الإفراج عن المؤرخ والحقوقي، معطي منجب، سوى فسحة أمل تعيد بعض الأوكسيجن لفضاء شد الخناق عليه حتى صار لا يكاد يتنفس، وهو فضاء حرية الفكر والصحافة والتعبير وإبداء الرأي، الذي قيل فيه الكثير عن تشخيص حالته. وظهر بشكل سافر أن غربال التضليل والدعاية لا يستطيع أن يخفي شمس التضييق على كل منافذ الرأي المخالف والمنتقد، وأن صدر السلطة ضاق بالنقد حتى صار قول المعتاد منه في السابق كأنه زلزال اليوم سيطيح قلاعا متينة البنيان.

لا يمكن لمتتبع للنقاش العمومي إلا أن يلحظ أن تغييب معطي منجب، لما يقارب ثلاثة أشهر خلف القضبان، كان محاولة مسح أخيرة للطاولة وإعادة ترتيب المشهد وفق ضوابط تعيد رسم هوامش الحرية بخط غليظ وتضبطه. و الخطوط المرسومة، أو المراد رسمها بشكل حاسم، يمكن استشفافها من غلظة الضربات التي تأتي على الأقلام التي تتخطاها، والتي غالبا ما تبتدئ بمحاولات العزل وزرع هالة من التخويف بمحيط هذه الأقلام مع محاولات تشويه السمعة، والتي قد تمهد في الغالب إلى سلب الحرية في حالة ما لم تجد المقبلات في إيقاف شهية الكلام والتعبير الحر عن الرأي.

خاصية صوت منتقد كصوت منجب، إضافة لتكوينه الأكاديمي العالي وإلمامه بالتاريخ وخاصة منه التاريخ السياسي المعاصر للمغرب، هي أن كلامه ليس حمال أوجه، ولا يتيح للقارئ إمكانيات تأويل كثيرة، كما تسمح بذلك الكتابة الأدبية والمهتمة منها بالشأن السياسي التي تحتمي بالرمزية كلما انخفض منسوب الحرية وارتفع معدل الترهيب. بل إن اطلاعا على الكتابات التي يبدي فيها رأيه في قضايا الشأن السياسي والحقوقي في المغرب يظهر أنها لا تنفك من موقف صريح وتحديد للجهة المعنية بالنقد في خاتمة أي عملية تفكيكية لواقعة أو نازلة ما. هل يتبنى هذا المؤرخ والمحلل السياسي منهجا تفكيكيا بخلفية فلسفية أم هي موهبة أذكتها آلية التفكير التاريخية والاحتكاك الدائم بالحالية السياسية ؟ النتيجة: هي خطاب واضح الخلاصات، ومنهج يفكك أوصال السلطوية من خلال وقائع تظهر في الساحة السياسية والحقوقية والإعلامية. إنه خطاب مزعج. مزعج ليس براديكاليته، وإنما باعتداله في التحليل والتصويب، مما يجعله ذا قابيلة للنفاذ ويمنحه قدرة على الإقناع والتأثير وترك موقف واضح لدى القارئ أو المنصت لتحليلاته الشفهية سواء في الندوات والملتقيات ذات الطابع المعرفي أو المقابلات الإعلامية. وهذا من جملة ما يجعله في مصب محاولات التكميم العديدة، إضافة لسمعته الدولية وكونه صوتا يحظى بحضور وإنصات في منتديات التفكير وإبداء الرأي على مستوى دولي في مجالات تخصصه، و لدى المنظمات التي تعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير، باعتبار هذا المجال الأخير شكل مركز اهتمام واشتغال له عبر تنظيم دورات تدريبية وتكوينات للصحافيين في مجال صحافة التحقيق من خلال الجمعية المغربية لصحافة التحقيق ومركز ابن رشد للدراسات(المتوقف عن العمل).

حينما بدأت قضية معطي منجب القضائية الثانية، كتبت أن التصعيد في حملات التشهير والضغط القضائي على منجب يحمل علامات المرور إلى المراحل النهائية في تشميع الأفواه المنتقدة، وهو صوت يمثل قنطرة مهمة بين الإعلامي والحقوقي والأكاديمي والسياسي، وأن المرور للحد الأقصى في التعامل معه تم بعد أن تم الانتهاء من تحنيط الصحافة وإضعاف العديد من الأصوات..وأنه إذا مرت هذه القضية كما يراد لها أن تمر بلا ردود فعل في مستوى ما تعنيه، فستكون المحطة الأخيرة للمرور إلى مرحلة أخرى حالكة أكثر ليس فيها حتى هامش الهامش.. وسيعود المشهد تقليديا ليس فيه، من نفس الموقع، من يسمي الأشياء بمسمياتها ويضع الأصبع على ذوي المسؤوليات بالتحديد دون لغة عامة ودون مواربة، بل حتى ذلك الشرخ الذي لعب دورا أساسيا في معالجته بين الإسلاميين واليساريين قد يعود إلى بادئ عهده أو أكثر وكانت بوادره ظاهرة، لهذا اعتبرت أن قضيته مفصلية ولو ما كان يلعب كل هاته الأدوار مجتمعة ما كان ليُجلد على أعمدة صحافة التشهير كل يوم، وما كنا لنسمع له عن قضايا كل حين.

وحقيقة أن تصعيد السلطة، في محاولتها لجم مزعجيها، أدى إلى بتر مكتسبات في مجال إبداء الرأي وتعدده وإلى طمس دينامية النقاش السياسي والدستوري الذي كان إلى سنوات قريبة علامة صحية في تدبير النقاش العمومي، هي حقيقة قابلة للرصد بسهولة في مجال الصحافة حيث تراوحت الخسائر ما بين الاعتقالات والتكميم وانزياح خطوط التحرير وانزلاق بعضها قسرا تحت ضغط الجو السياسي المختنق وحالة الترهيب العامة عبر وسائل الضغط المالي واستعمال الحياة الخاصة، حتى يكاد المشهد أن يصير نمطيا باستثناءات قليلة جدا زاد طينها بلة الغياب الكبير الذي تركته جريدة “أخبار اليوم. وهي حقيقة قابلة للرصد كذلك، في أوساط النخبة الأكاديمية والمثقفة التي كانت تغذي النقاش العمومي والتي انسحب الكثير منها إما يأسا أو خوفا مما لا يحمد عقباه..وهو انسحاب بقدر ما تتحمل الجهة التي تثير الخوف مسؤوليته، تتحملها كذلك هذه النخب، حين أبدت عدم قدرتها على حماية مكتسبات تطلبت عقودا من الصراع مع السلطة في تاريخ المغرب المعاصر، وفضل الكثير منها، حينما ضاق الخناق، الخلاص الفردي على تحمل ثقل الهم العام، وبعض تلك المكتسبات التي تم التفريط فيها كان ثمرة ربيع المغاربة الذي حمل دستور 2011 جزء منه، والبعض الآخر ظل حالة تفكير وأثرا نفسيا مجتمعيا لدى من استهلكوا منسوب الحرية بشكل أخص منذ زمن 20 فبراير2011، وهو الأثر الذي ظل منفلتا من أثر الردة. وكان أن كشف تشدد قبضة السلطوية الخوف الكامن لدى مراكز نفوذ في السلطة من خطر المضي في مسار الدمقرطة على إرث استفادتهم من البنية الملتبسة الحالية، وأن كشف في الآن نفسه ترددا بل وخذلانا في صفوف المنسحبين الذين ظهر أن عملية ضبطهم لا تعني بالضرورة لجما للديناميات الاجتماعية التي ظلت مستعصية على التحكم، لأن رابطة الوصل كانت منهكة من الأصل وهشة، لنقف في الأخير على حقيقة مشهد سياسي بآليات وساطة شاخت وروح مجتمعية تعيش مخاض صنع تعبيرات جديدة تجايلها..

في هذا المشهد تظل الأصوات القليلة التي قاومت الإسكات تؤدي الثمن باهضا لوحدها، ومن ضمنها ما دفعه المؤرخ منجب طيلة سنوات من التضييق انتهت بسجنه، إلا أنه منذ اليوم الأول لخروجه من السجن نزع كمامة السجن ليعبر بشكل حر عن رأيه وفق مقاربته. لا يمكن نكران أن هذا الانفراج الجزئي في هذه القضية خلق حالة أمل جديد وبعث انتعاشة في جو متعطش لنسمات الحرية، ولا يمكن نكران أن قارعي الأجراس الذين ظلوا ينبهون إلى خطر المضي في نهج تنميط المشهد السياسي والإعلامي على صورة المغرب وعلى تجربته، أن صوتهم وإن كان مزعجا وأقلامهم وإن سيجت(بضم السين) فإن كلمتهم تجد من يتلقفها ولو بعد حين، حتى ولو استمر مسلسل تهميشهم ومحاصرتهم، وهو على كل جزء من السلوك السيكولوجي في كل البنيات السلطوية. كمالا يمكن نكران أن كلمة حرة من أستاذ جامعي من على باب السجن، وإن اختلف حولها المختلفون، فإنها لعبت دور ومزيل آثار صناعة الخوف وكسرت حالة الرهاب العام التي تجند لخلقها كذلك إعلاميون، وأعادت صورة دور “المثقف العضوي”، حسب تعبير أنطونيو غرامشي، في مسارات الانتقال الديمقراطي.

وختاما، لا يمكن أن يغيب عن كل من يرغب في رسم صورة مشرقة للتجربة المغربية هذه الحاجة الملحة لطي صفحة كتم الحريات وإطلاق بقية معتقلي حراك الريف والحركات الاحتجاجية ومعتقلي الرأي من صحفيين ومدونين، وهي حاجة بالقدر الذي يجب أن تفطن السلطة لأهميتها، على ما تبقى من نخب سياسية ومدنية وأكاديمية مستقلة أن تعبر كذلك على انخراط مسؤول في حلحلة هذا الوضع نحو الانفراج عبر تخصيب تربة النقاش العمومي التي تكاد أن تصير قاحلة، وهذا بالطبع لن يتأتى بالفرجة على الأصوات القليلة التي تقوم به والتصفيق لها من بعيد، بل عبر تحمل المسؤولية تجاه مسار دمقرطة المغرب وبناء دولة الحق والقانون، حتى لا يتم تحميل الكمامة أكثر من دورها الصحي تجاه الوباء

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube