اقواسمستجدات

الجسد في فلسفة نيتشه (الجزء الثاني)

المعانيد الشرقي ناجي

شكلت إرادة القوة عند نيتشه سبيل الإنسان الأعلى على الدوام دون النظر إلى الأمور الخفية التي لا تُعطي بالغ الأهمية للوجود بالرغم من أن الثنائية الكلاسيكية جسد / روح سيطرت على اهتمام الفلاسفة منذ غابر الأزمان، وهي ثنائية تختزل داخلها المادي والميتافيزيقي. بينما المادي هنا، هو تعبير عن الجسد الذي يمثل الإمتدام والميتافيزيقي يشير إلى الفكر أو الروح، فإذا كانت الروح بما هي البعد الخفي في الإنسان نالت حظها الكبير في التناول الفلسفي، فإن الجسد باعتباره مادة لم يحظ بكثير عناية وتفكير.
ولهذا، سنحاول الإقتراب من الجسد من المنظور النيتشوي لنجعل منه موضوع تفكير تأملي بغاية فهمه فهما صحيحا بإبعاد النظرة الإزدرائية بإزائه سواء من لدن الفقاء ورجال الدين أو من جانب النظرة العامية التي تعتبر الجسد عورة أو ماشابه ذلك من الصفات التي لا تليق به، كأن يتحول إلى سلعة أو بضاعة عبر استغلاله بشكل من البشاعة داخل تجارة للبشر.
إن إرادة القوة عند نيتشه هي تعبير عن الجسد الذي يمثل الحياة في أبهى قوتها ونصاعتها وبهجتها، إنها الديونيزوسية في أكثر مظاهرها الإندفاعية نحو تحقيق الذات بما هي جسد ومحاربة الإرتكاسية والنكوصية من حيث يأمرنا الفكر بالخطر الداهم ليصبح الجسد رهينة الفكر الميتافيزيقي. الجسد قوة من حيث هو امتداد نحو الخارج ومواجهة الواقع ومقاومته وليس اعتباره عرضا زائلا، فلولا الجسد لما قامت للفكر قائمة ولما تأمل الإنسان وجوده المادي الذي تفرضه الحياة بما هي واقع مادي متعين في المكان والزمان.
الذات المُبدِعَة هي التي ابتدعت الاعتبار والاحتقار، وابتدعت اللذة والألم. الجسد المُبدع هو الذي ابتدع لنفسه العقل يَدَاً لإرادته، لذلك يجب التّأسيس لقيم جديدة تعبّر عن القوّة و الشّجاعة و النبل وتعبّر عن إرادة الإنسان الأعلى أو بالأحرى عن إرادة القوّة التي يعبر عنها الجسد كمادة على الأرض وليس في السماء الميتافيزيقية. إن الوجود الجسماني هو كل ما يملكه الإنسان، لذا عليه أن يعيش كجسد، حياة حقيقية وجوهرية لا حياة متعالية عن الواقع. على الإنسان أن يمثل القوة ولا يخضع لإرادات قوة خارج جسده ولا ينبغي عليه ممارسة الإتكالية المقيتة حتى يتحول إلى جبان، يقول نيتشه في هذا السياق: ” إذا أردتم الإرتفاع عاليا، استعملوا سيقانكم، ولا تسمحوا بأن يحملوكم، لا تجلسوا على ظهور ورؤوس الآخرين.” إن الجسد قوة لا مثيل لها بالمقارنة مع ما يمنحه الروح للإنسان فلا وجود لقوة الفكر دون قوة الجسد.
إن أكثر الأشياء التي أغرت وأغوت الإنسان إلى اليوم، هي التفكير بأن هناك عالم آخر لا نعرف عنه إلا تمثلات في شكل صور ذهنية لا أساس لها من الوجود المادي غير الجسد الذي يتجسد كحقيقة مادية تنشطر منه الحياة بكثافة عبر الإيروس والليبيدو لإخراج الإنسان من ظُلمة الروح وشعابها الموحشة لمغادرة غرائز الموت كأقصى درجات الألم بتعبير فرويد.. فقد كان نيتشه صادقا حينما مهد لظهور فرويد وفلسفته في اللاشعور حينما قال: ” أنا في انتظار مجيء طبيب فيلسوف يدفع بأفكار كُنتُ أشك فيها. ” وبعد ظهور علم النفس التحليلي مع فرويد أرجع جل أفعالنا النفسية إلى دوافع لاواعية ذات الأصل الطبيعي في الإنسان، أليس هذا هو الجسد الذي يزدريه الكل؟ خصوصا أؤلئك الذين يحملون داخل رؤوسهم كرنبا بتعبير نيتشه.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube