المرأةمستجدات

سيدة الفرن

بقلم : الزهرة حمودان

يلقي الإعياء والشمس المتربعة بكبد السماء، على مشيتي، ثقلا ينضح من عرق تلفظه مسامي.. فقر الإسفلت لجدع شجرة، زاد من حمم الحر. يخيل إلي شبه لهب يصعد من سطحه الممتد تحت أرجل عابريه..تراودني شجيرات الأزقة التي تطوق بعض الحارات الحديثة للبلدة.. أتسلل إليها، راغبة عن قيظ الصيف، وتوقح الاسفلت.

ولَّيت ظهري للشريط الاسفلتي الملتهب. تدفعني قوة جذب معشوشبة، تفترش سعة زقاق أمامي. كانت الشجيرات التي تحف بها تغري بظلالها.. الشمس تلتصق برأسي، بينما ترتفع من تربة الممر رطوبة منعشة. سياج من قصب يتراءى لي عند آخر نقطة لأفق النظر.. كلما دنوت منه تبدت لي باقي وحدات الفضاء المحيطة به. الحطب المكوم..الأزهار البرية، والعوسج المزهر هو الآخر يزاحم اللولب .. شتائل خضراء متعددة الأشكال تحتمي بالسياج، من دوس الأقدام. تؤنس المكان بعض الهررة التي تمارس استقلاليتها في العيش والحياة.

خطوات أخرى في الممر؛ الملاذ الذي فررت إليه من حر الإسفلت، أوصلتني إلى حيث العصافير مازالت تبني أعشاشها، في غفلة من زحف الاسفلت.. قلعة السياج القصبي تتمسك هي الأخرى بيد مرتعشة على قبضة من آخر خطو للبادية، قبل أن ترفع الراية البيضاء، للإسمنت المسلح، وهو يغزو البلدة ( وادي لاو ).

من أقصى الزقاق المعشوشب، يتحرك ظل امرأة بدوية، منحنية، تجمع بعض الأعشاب الخضراء اليانعة..وكأنها أحست بوجودي في المكان، فاستقامت ومنتصبة، تعلو رأسها شاشية من القش، مزركشة بخيوط الحرير الأزرق، وتحيط وسطها بالمئزر الأحمر الشهير ( منديل بني سعيد المخطط بالأبيض والأحمر)، وما كدت أصل إليها، حتى كانت قد اختفت. تقدمت في السير نحوها، لأكتشف أنها دارت مع الزاوية الأخرى للسياج.. على وقع خطوي التفتت إليّ حيث التقت ابتسامتانا.حييتها ورحبت بي..

استرعت انتباهي بالمكان، دائرة من الطين البني الطري، وقد توسطتها فتحة صغيرة.. كان علو حوافيها يكاد لا يتعدى الشبرين، بينما صحنها الذي يبدو كمجسد لمسرح يوناني قديم، تتوسطه جلمودة ملساء بحجم كف اليد، تتمدد قربها حزمة من النبتة التي حشتها المرأة وهي منحنية..لثواني تأملت الدائرة الطينية، إذ سرعان ما أدركت أنه مشروع فرن.. ها هي امرأة؛ تحمل بيضة الموجودات، وتمشي بها مع الحياة، من لا يمشي يندثر. أي نوع من حبل المشيمة يربط المرأة بالأرض في حيويتها المخصوصبة..

كانت البشاشة على وجه المرأة، تطلق لساني، وتجعلني أرفع الكلفة بيننا.أسألها بفضول معرفي نوعي:

  • الحجرة الصلبة وقبضة العشبة الخضراء، اللذين ألقيت بهما في صحن الفرن، ما دورهما في بنائه؟؟؟
  • دورهما كبير – تضيف المرأة – العشبة لما أدعكها بالحجرة، أضيفها لعجينة الطين، فتتقوى، ومنها أصنع أرضية الفرن وجدرانه وحتى سقفه. هذا النوع من العشب يكسب الطين صلابة.

وكأني بالسيدة بذكرياتها تخمر أحلامها…إذ تحدثني، كيف راودتها فكرة بناء فرن على هيئته البدوية، التي كانت تبنيه بها هي ونساء جيلها، وبالطريقة والخبرة التي ورثنها من أمهاتهن.

تحكي السيدة بشغق وابتهاج:

  • أبنائي الذين تزوجوا، رحلوا عن وادي لو، منهم من سكن مدنا داخل الوطن، ومنهم من استقر خارجه بحكم عمله، يتعجبون من تمسكي بمثل هذا الأسلوب من العيش، غير أنني لحظة أفلق الخبزة فوق ركبتي نصفين، ويتصاعد فوارها في وجهي، وأنا أنتظر أول قادم علي من طفل أو رجل أو امرأة، لأذوقه إياها، ألمس الفرحة بيدين هاتين، وأتذوق طعم الحياة المشتركة.. نساء هذا الجيل يطبخن من أجل أن يملأن الثلاجة.

تستيقظ الحياة بداخلي، تنعشه البشاشة المنشرحة على وجه السيدة، وهي تبتسم بسخرية بريئة مما تعيشه الأسرة العصرية من ضغظ.

تعج نفس السيدة بالذكريات فتضيف :

  • كنا لما تحمي الواحدة منا فرنها لطبخ عجينها، تخبر جاراتها، ألا يحمين أفرانهن..ففرنها سيظل مشتعلا بعد طبخها لخبزها، من أجلهن، توفيرا للوقت والحطب.

العزم في الروح، وهي تناجي نسيماء السماء.. تلك هي روح سيدة البادية ، و أناملها تحضن ما تخرجه الأرض .

المرأة التي لا تجافيها بصيرتها حين تحاصرها أعاصير البوار والأوبئة والحروب..المرأة التي تغدو بلسما شافيا يقاوم الجذب بكل صنوفه.المرأة التي في كينونتها يكمن سر استمرار الحياة..

تنقد ما تبقى، وتنفث فيه روح الصمود. صحيح أن الاحلام داستها الحشود، إلا أن اليد الناضحة بطين الأرض، تصر ان تغزل من خيوط الذكريات حيزا للحياة بلون فرحها البدوي، تعيشها إلى أن ترحل.

أرسترجع مع حديث السيدة، الصورة النمطية لنساء يحملن فوق ظهورهن ما يفوق حملهن من حطب الغابة. هي صورة حولها الاعلام إلى مادة تسويقية، يوظفها مرة في السنة، دون أن تتغير الصورة في السنة التي تليها. يعاودني الألم الذي يعتريني كل مرة أرى فيها سيدة البادية ترزح تحت نفس الأثقال، شيء ما بداخلي يصرخ : ماذا فعلنا لهذه السيدة؟ ماذا قدمت المرأة المتعلمة لسيدة الجبال والوديان؟ متى نتكامل؟ إنها نصفي المبتور.الغيمات ترضع الوديان، والمرأة الريفية تحتضن الأرض، وترعى الظلال الخضراء..تهدهد أشجار الحقول، وتستجدي أشجار الغابة.

سيدة البادية فعلها آنس السماوات والأرض..الشمس والزمن يمشيان على محياها..أحبتها الأرض والرياح والأمطار..عشب الأرض عشبها، واللواقح تتناسل من أصابعها، والخبز هي صانعته، وفي طين الأرض عز الحياة، وهي مروضته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube