احمد رباصمستجدات

نيتشه ينظر إلى الجسد كمركب من الأرواح (الجزء الخامس)

أحمد رباص – حرة بريس

وبينما كنت في منتصف النهار أتصفح فضاء الفيسبوك، وقع نظري على نص مصوغ بأسلوب جميل من قبل صديقي المعانيد الشرقي ناجي، أحد نشطاء التنوير في بلادنا المنضوين تحت لواء جمعية أصدقاء الفلسفة.
في الحقيقة، ما الفت انتباهي لهذا النص ليس فقط جمال الأسلوب الذي كتب به، وإنما كذلك الأهمية التي يكتسيها الموضوع الذي يتحدث عنه النص: الجسد في فلسفة نيتشه.
من الصيغة التي جاء بها العنوان، أدركت أن صديقي الشرقي المعانيد يريد تناول هذا الموضوع ضمن سلسلة من المقالات، من خلال ترتيب نصه كجزء اول، وهذا ما لم أهمله وأنا بصدد إعداده للنشر على صفحات حرة بريس.
وهل كان لا بد من أن أقف عند هدا الحد واكتفي بنشر الجزء الأول من سلسلة مقالات الشرقي المعانيد حول مفهوم الجسد عند فيلسوف كبير كنيتشه، وأتركه بالتالي يكتب الأجزاء الأخرى تباعا؟
لكن انطلاقا من الصفة الملازمة والمرادة لمنبرنا الصحفي والإعلامي والمشتقة من الحرية التي تعني المبادرة والاختلاف والحوار..إلخ، فقد تراءى لي فضل الدخول مع صديقي في حوار فلسفي حول نفس الموضوع من خلال الشروع في نشر سلسلة موازية، تروم إغناء النقاش وضمان تعددية في الرؤية وكيفية المقاربة..

إذا قلنا مع نيتشه إن الأحياء أرواح فالأكيد أننا نكون في مواجهة مفارقات جديدة! كيف ذلك؟ لنتابع إذا أردنا معرفة الجواب.
البنية التنظيمية للجسد ليست جامدة لا تتحرك. الغرائز لا تتواصل بطريقة آلية مع بعضها البعض، ولا تلعب الغرائز العليا دورا في توصيل الأوامر ميكانيكيًا إلى الغرائز السفلى. يظهر نيتشه مرة أخرى أكثر دقة في هذا الصدد: تفكيرنا متقلب لأن التراتبية الهرمية لغرائزنا هي نفسها متقلبة. هكذا نلفي، مرة أخرى، أن قابلية التحول هي المهيمنة، حتى ضمن هذه التراتبية الهرمية للغرائز.
هكذا يتحدد الخضوع بين “الأحياء” على أنه “متعدد الأشكال، وليس أعمى، أقل ميكانيكية بكثير، لكنه نقدي، حكيم، حذر، بله متمرد” [المرجع نفسه. 37 [4]]
التبادلات بين الأحياء تتعدل وفقا للتقديرات النقدية، بل “المتمردة” لمختلف الأجهزة العاملة. لهذا السبب لا يمكن لنا مماثلة الأحياء بالتروس، ينظر نيتشه إلى غرائز الأجساد كأنها “ارواح” أو “نفوس”. لذلك يقول بوضوح شديد:
ليس جسدنا سوى صرح من النفوس المتعددة”. [Par-delà bien et mal, “Des préjugés des philosophes”, §19 (in OPC, VII, trad. C. Heim, Paris, Gallimard, 1971)].
في المحصلة الأخيرة، يتكون الجسد من مركب من الغرائز، المتعددة والمتحركة باستمرار. هذه الغرائز، كما يسميها نيتشه “أحياء”. هذه “الأحياء” متراتبة بشكل هرمي، لكن الأوامر من الأحياء العليا إلى الأحياء السفلى لا تحدث بصورة آلية، أو لنقل تلقائية. يوضح نيتشه أن لكل واحد من هذه الأحياء “نفسا”. إذا، الجسد مكون من عدة نفوس. وهنا تقول لنفسك “اللعنة! ماذا بحق الجحيم؟”. هل لهذه الأحياء جسد ما هي إلا نتاجه؟ هل هذا الجسد نفسه مصنوع من الروح؟ هناك خطر الانحدار إلى ما لا نهاية. للإجابة على هذه المشكلة الجديدة، يجب أن نعود إلى ما وراء معارضة الروح والجسد، إلى المبادئ الأساسية لفلسفة نيتشه. هذا ما سوف نقف عليه في الحلقات القادمة.
الجسد وجود (كل ما هو موجود) مكون من مركب من الغرائز. هذه الغرائز (أو الدوافع) متعددة وهي في حركة دائمة: فهي تواجه أو تساعد بعضها البعض. تسمى هذه الغرائز أو الدوافع “أحياء” بسبب طبيعتها غير المستقرة والمتحركة.
هناك تراتبية هرمية تحكم هذه الغرائز: الأقوى يسيطر على الأضعف، وهذا التنظيم الأرستقراطي للغرائز يسمح للجسم بتكوين كل متماسك، يجب الإعجاب به.
لذلك يستخدم نيتشه استعارة سياسية لشرح تماسك الجسد. هذا هو السبب في أننا سنميل إلى الاعتقاد بأن نيتشه يدافع عن النموذج الأرستقراطي في تنظيم المجتمع، وهذه مسألة طرحها وناقشها بعض قراء المتن النيتشوي. إن التراتبية الهرمية للأحياء داخل أجسادنا ليست ثابتة حد الجمود؛ ذلك أن الغرائز العليا لا تنقل الأوامر إلى الغرائز السفلى وفقا لآلية ثابتة ومتكررة.
على العكس من ذلك، تتكيف الطبيعة المتقلبة لهذه التراتبية الهرمية للغرائز مع الظروف، هي التي تفسر الجانب المتقلب في تفكيرنا. هذه الأحياء، التي تغير أوامرها وعلاقاتها ببعضها البعض لأنها “متمردة”، لديها روح في عرف نيتشه.
(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube