احمد رباصتربية وعلوممستجدات

مسار حياة ابن خلدون كما رسمه ألبير حوراني

ترجمة: أحمد رباص

في سنة 1382، طلب عالم عربي في خدمة حاكم تونس الإذن له بزيارة مكة، وعندما حصل عليه أبحر في اتجاه إسكندرية مصر. وهكذا ، في سن الخمسين، هاجر – نهائيا – بلاد المغرب ( العربي) التي أدى فيها هو نفسه و أجداده دورا مهما ضمن شتى المجالات.
كان عبد الرحمن بن خلدون ( 1332 – 1406) ينتمي الى عائلة من جنوب شبه الجزيرة العربية. استطاعت الحلول بإسبانيا مباشرة بعد غزو هذا البلد من قبل العرب وكتب لها الاستقرار بمدينة اشبيلية. وعندما استأنفت الممالك المسيحية في شمال شبه الجزيرة الايبرية توسعها الكبير، رحلت عائلة ابن خلدون الى تونس. عائلات أخرى كثيرة منقطعة بالعادة للثقافة وخدمة الدولة قامت بنفس الشيء والتحقت بمدن المغرب، غرب العالم الاسلامي، لتشكل طبقة الأشراف التي استغلت العائلات الحاكمة المحلية كفاءاتها.

شارك الجد الأكبر لابن خلدون في المغامرات السياسية داخل البلاط التونسي حيث سقط في نكبة فأعدم. كان جده موظفا ساميا ، لكن أباه ، بعدما اعتزل الحياة السياسية وخدمة الدولة، عاش بقية حياته كعالم معتكف. تلقى ابن خلدون الابن نفسه تربية متقنة ضمن روح عصره – لقنه إياها أبوه وبعض العلماء الذين كانوا يدرسون في مساجد ومدارس تونس، مقيمين أو عابرين – ، وقد سافر شابا الى عدة مدن سعيا وراء طلب العلم؛ فحسب وصية نموذجية من التقليد الذي ورثه، على المسلم أن يبحث عن المعرفة عند كل الذين يستطيعون منحه إياها. في سيرته الذاتية، يذكر أسماء هؤلاء الذين سمع عنه الدروس والمواضيع التي كانوا يتناولونها، في مقدمتها القرآن الذي يعتبره المسلمون كلام الله المنزل باللغة العربية على الرسول محمد (ص)، ثم الحديث وهو مجمل أقوال النبي صل الله عليه وسلم والشريعة التي هي علم قانوني وأخلاقي مؤسس بشكل واضح على القرآن والحديث ، وهناك اللغة العربية التي بدونها تبقى العلوم الدينية مستغلقة. وهناك أيضا العلوم العقلية من رياضيات ومنطق وفلسفة.
كما يقدم بعض التفاصيل التي تخص شخصية وحياة معلميه، وقال بأن أغلبهم – من ضمنهم والداه – أودى بحياتهم الطاعون الأسود؛ هذا الوباء الهائل الذي كنس العالم كله في منتصف القرن الرابع عشر. بفضل تحكمه في ناصية اللغة العربية ومعرفته بالشريعة، دخل ابن خلدون يافعا في خدمة حاكم تونس، ككاتب أولا ثم تقلد مناصب رفيعة، وبالتالي ذات مخاطر.
هكذا تتالت عشرون سنة من النعم المختلفة ليغادر تونس ويذهب لأجل خدمة عائلات حاكمة أخرى في الغرب الاسلامي، فحل بغرناطة، عاصمة آخر مملكة متبقية من الأندلس، وهنا حاز على رضى السلطان، وتم إرساله في مهمة لدى الأمير المسيحي في اشبيلية، مدينة أجداده، لكنه عندما أثار شبهات كان عليه الرحيل بسرعة في اتجاه الجزائر. هنا أيضا، سوف يتقلد مناصب عليا، موفقا بين خدمته للدولة صباحا والتعليم في المسجد بعد ذلك.
لقد ساعد الحكام الذين كان في خدمتهم على كسب تحالف بعض الزعماء العرب والأمازيغ في الجبال والسهول، الذين كان يمارس عليهم تأثيرا شخصيا مفيدا له عندما – وقد حدث ذلك مرارا في حياته – يسحب عنه سيده الحظوة. فخلال فترة من هذا النوع عاش أربع سنوات في أحد القصور بالريف الجزائري، تحت حماية زعيم عربي (1373- 1379). وقضى هذه السنوات التي تحرر فيها من شؤون العللم في كتابة تاريخ الأسر الحاكمة في الغرب الاسلامي منظورا اليه ضمن سياق شامل.
ظلت المقدمة، وهي الجزء الأول من هذا التاريخ، تحظى بالاهتمام الى يومنا هذا. حاول ابن خلدون أن يعطي لصعود وسقوط الدول تفسيرا يمكن أن يصلح كمحك لمصداقية المحكيات التاريخية. فالشكل الأكثر بساطة وقدامة في المجتمع البشري هو،كما يقول، ذاك المتعلق بسكان السهل والجبل الذين يقتاتون من الزراعة وتربية المواشي، ويتبعون زعماء لا يتوفرون على سلطة ملزمة ومنظمة. هؤلاء الرجال يتحلون بفضائل الجبلة والشجاعة، لكنهم لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم إنشاء دول مستقرة ولا مدنا ولا حتى حضارة راقية. ولكي يصير كل ذلك ممكنا، لا بد من ملك يمارس سلطة حصرية، ولا يقدر على إقامتها إلا إذا تمكن من جمع وترؤس مجموعة من الأتباع الذين تحركهم نعرة العصبية- التي تعني إرادة جماعية للاستحواذ على السلطة والاحتفاظ بها.
يشكل الرجال الأقوياء من السهول والجبال خلية نحل بالنسبة لمثل هذه الجماعة؛ التي يمكن تأسيس انسجامها على الإحساس بالانتماء إلى سلالة مشتركة، سواء كانت فعلية أو متخيلة، أو على علاقات التبعية، وتقويتها بقبول اتباع دين واحد. إن زعيما مدعوما من طرف جماعة قوية و موحدة من الأتباع يستطيع أن يؤسس دولة. وإذا بدا حكمه على أنه هادئ ، تظهر مدن متطورة وآهلة بالسكان وتزدهر المهن المتخصصة وياتي الترف مع الحضارة الراقية. لكن كل دولة تحمل في أحشائها بذور انهيارها الذاتي. يمكن أن تصاب بالضعف بسبب الاستبداد والتبذير والاسراف وفقدان مواصفات القيادة. تنتقل السلطة الفعلية من السلطان الى أعضاء جماعته الخاصة، لكن الدولة ما تلبث عاجلا أو آجلا أن تسقط على يد دولة أخرى مشكلة بطريقة مماثلة.
عندما يحدث ذلك، يختفي ليس الملك وحده وإنما الشعب الذي كان يستمد منه قوته ونمط العيش الذي فرضه. كما قال ابن خلدون في سياق آخر بأنه عندما يحدث تغيير جذري في الأوضاع يبدو كما لو أن الخلق تبدل وأن العالم كله تحول. في مكان الإغريق والفرس، الذين شكلوا الامبراطوريتين العظميين في ذلك العصر، حل العرب الذين، بفضل انسجامهم وقوتهم، أسسوا دولة يمتد نفوذها من من شبه الجزيرة العربية الى الأندلس. لكن هؤلاء حل محلهم الأمازيغ في الأندلس وفي المغرب والأتراك في المشرق.
الحظوظ السعيدة أو السيئة عادة ما تسحب معها حظوظ أولئك العاملين في خدمتهم. فبمجرد سفره الى الاسكندرية، بدأ ابن خلدون في مزاولة مهنة جديدة. لم يؤد فريضة الحج في هذه السنة ( كان عليه القيام بها لاحقا )، لكنه حل بالقاهرة، وانبهر بها. رأى مدينة تكبر في الحجم جميع المدن التي يعرفها، وصفها كعاصمة العالم وحديقة الكون ومكان تجتمع فيه القوميات وغار نمل بشري وأرفع مكان للإسلام وموطن السلطان. كانت القاهرة عاصمة السلطنة المملوكية، إحدى كبريات الدول الإسلامية في ذلك العهد التي كانت تشمل سويريا، بالإضافة الى مصر. تم تقديم ابن خلدون الى الملك وكسب حظوته ونال منه أولا منحة وتم تكليفه بالتعليم في إحدى المدارس الملكية ثم لاحقا في مدرسة أخرى.
ليس له الآن سوى أمنية واحدة وهي لم شمل أسرته التي غرق كل أفرادها أثناء عبورهم البحر من تونس الى مصر. عاش ابن خلدون في القاهرة حتى مماته. قضى قسطا وافرا من وقته في القراءة والكتابة، لكن قلاقل حياته الماضية عاودت الظهور، بتناوبها بين فترات الحظوة ولحظات النكبة – الشيء الذي يفسره بمقالب أعدائه، إلا أنه يتعين البحث عن السبب في طبيعة شخصيته. في مرات عديدة عينه السلطان قاضيا في أكبر محاكمه؛ وفي كل مرة كان يتخلى عن مهامه فيفقدها. سافر مع السلطان الى سوريا فزار الأماكن المقدسة في القدس وفلسطين. عاد الى سوريا عندما أصبحت دمشق محاصرة من طرف تيمورلنك، أحد كبار الغزاة الآسيويين، مؤسس لإمبراطورية كانت تمتد من شمال الهند إلى سوريا والأناضول. تمكن ابن خلدون من مقابلته، ورأى فيه نموذجا لهذه القوة القهرية، المستندة بصلابة الى قوة جيش وشعب، التي تستطيع تأسيس دولة جديدة .لم يتفوق في إنقاذ دمشق من النهب، لكنه حاز شخصيا على جواز مرور للرجوع إلى مصر. في طريق عودته، تعرض للهجوم والسرقة في تلال فلسطين.
حياة ابن خلدون كما حكاها لنا تقول لنا شيئا واحدا عن العالم الذي كان ينتمي إليه. كان عالما يتم فيه دائما التذكير بهشاشة المبادرات الانسانية . يوضح مساره المهني الى أي مدى كانت تحالفات المصالح التي تحرص الدول على جعلها قاعدة لسلطتها غير قارة؛ كما أبانت مقابلته مع تيمورلنك أمام دمشق كيف أن صعود قوة جديدة بإمكانه زعزعة حياة المدن والشعوب. خارج أسوار المدينة، يبقى النظام هشا؛ من المحتمل أن يتعرض مبعوث السلطان للنهب على يد قطاع الطرق، ويمكن لشخص من البلاط مغضوب عليه أن يجد هنا ملاذا بعيدا عن متناول السلطة الحضرية.
يوحي موت أبويه في أوان الطاعون الأسود وموت أفراد أسرته غرقا بعجز الإنسان بين يدي الأقدار. شيء واحد كان ثابتا، أو يبدو كذلك؛ ألا وهو عالم هاجرت فيه عائلة من جنوب شيه الجزيرة العربية الى إسبانيا وعادت بعد ستة قرون إلى مناطق أكثر قربا من بلدها الأصلي دون أن تغادر كليا محيطها الاعتيادي. وإذن، فهو عالم يتعالى على الحدود في الزمان والمكان، ففي مجموعه تفتح اللغة العربية أبواب الوظائف السامية والمراكز النافذة؛ باعتبارها حاملة للمعرفة التي تناقلتها، عبر القرون، سلسلة من العلماء المشاهير، وتحاقظ بالتالي على وحدة الأمة. فحتى لو تغير الحكام ، تبقى أماكن الحج في مكة والقدس أركانا ركينة في هذا العالم البشري، وحتى لو انتقلت الغلبة السياسية من مدينة الى أخرى، فإن الإيمان بإله واحد خلق وصان هذا العالم من شأنه أن يعطي معنى لضربات القدر.
المصدر: Albert Hourani, l’Histoire des peuples arabes

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube