ثقافة وفنونمستجدات

رحيل صاحب “سنوات الرصاص والحبر والقلم والطباشير”

مجيد مصدق

بوفاة إبراهيم لمهادي، فقد المغرب أحد عمالقة فن الكاريكاتير عن عمر ناهز 80 سنة، فقد المغرب ريشة بقامة عالية. سخر الراحل ريشته المشاغبة للدفاع عن قيم الحرية والمواطن المغربي المطحون تحت نعال القهر والظلم. يعد الراحل بلا شك، أحد الرسامين المغاربة الأوائل، الذين وضعوا اللبنة الأولى الفعلية لتأسيس فن الكاريكاتير بالمغرب.
ولد الأب الروحي لفن الكاريكاتير بالمغرب الشهير “أبو سيف” بدرب السلطان بالبيضاء سنة 1941، هذا الحي المعروف بمنارة المناضلين. مارس مهنة التدريس بسلك التعليم الابتدائي ابتداء من سنة 1958 إلى أن تقاعد كمدير سنة 1985.
نشر لمهادي أول رسوماته بجريدة «أخبار الدنيا» لصاحبها الراحل مصطفى العلوي سنة 1963 ليلتحق بجريدة «العلم» في نفس السنة، وبعد ذلك بدأت تظهر رسوماته في يومية «المحرر» لسان الاتحاد الاشتراكي
من سنة 1975الى سنة 1980، كان ينشر بشكل يومي كاريكاتيرا سياسيا يمثل الواقع المغربي والعربي والعالمي.
لقد انغمس الرسام الراحل مبكراً في مجال الكاريكاتير وسط ظروف سياسية واجتماعية حسَّاسة بصمت سنوات الجمر والرصاص، ساهمت في حظره ومصادرته ومنعه في الصحافة المكتوبة خوفاً من أي دور تحريضي قد يلعبه. فقد كانت رسوماته تنتج الفكاهة والسخرية والضحك من خلال نقد السُّلطة والمؤسسات المتواطئة معها، والتي كانت تنشر في عدة المنابر سياسية وساخرة، منها أخبار الدنيا، الدنيا بخير، الكواليس، أخبار السوق، التقشاب، الأسبوع الضاحك، أخبار الفن….
أكمل الفنان دراسة الحقوق عام 1972 فاكتملت لديه رؤيتان: رؤية الحق ورؤية ساخرة من خلال فن الكاريكاتير. فقد كانت وضعية فن الكاريكاتير معرَّضة للتضييق والخناق، بسبب انعدام حرية التعبير لسنوات. في هده الظروف تفجرت موهبة الراحل التي ستتوقف سنة1980، وهي السنة التي شهدت اعتقاله في منتصف الليل بسبب رسم كاريكاتيري بيومية المحرر انتقد فيه الخطاب الملكي للحسن الثاني، حيث دفعت ريشته ثمن الحرية بعد التعذيب سنوات من الاعتقال والاضطهاد ومحاربة الفكر لمدة 18 عاما ليعود مجددا لممارسة الكاريكاتير بأسبوعية الصحيفة، ومنابر اعلامية اخرى.
وفي ظروف اعتقال الرسام لمهادي، خصَّت صحيفة المحرِّر عمودها اليومي “بصراحة” تناول قضايا التضييق والحجز والمصادرة في مقابل حرية التعبير من خلال تجربة جريدة “الكنار أونشيني” الفرنسية التي دأبت، وبرؤية نقدية واضحة، على نقد الحياة العامة ونقد الشخصيات الكبيرة في بلدها أو في العالم. معتبراً (نص العمود) أن هذا الأمر يبرز الفارق بين ما يجري هنا وما يجري هناك على خلفية اعتقال لمهادي الذي فضح “الديمقراطية الهشة” التي ضاق صدرها برسوم كاريكاتيرية ساخرة.
خلال هذه التجربة المؤلمة، تجربة الاعتقال السياسي عاش ابراهيم لمهادي مبدعاً كبيراً، مؤمناً بفنه ورسالته، ومدركاً لأهمية الإبداع الذي خدم الإنسانية في الكثير من المناسبات، حيث وقف رسَّامو الكاريكاتير طويلاً إلى جانب الشعوب، لتجاوز العديد من النكبات والمحن، في الحروب السياسية والعسكرية وغيرها، بقدر إدراكه كون الكاريكاتير وسيلة للتأثير على أفراد الشعب، والتعبير عن همومهم وجراحاتهم وانكساراتهم وصراعاتهم اليومية مع الظلم والشطط وغياب العدالة والديمقراطية..
كان “أبو سيف”، وهو الاسم الاستعاري الذي كان يوقع به رسوماته الكاريكاتيرية، يمتلك ريشة ناقدة وساخرة تطرَّقت للعديد من المواضيع والقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية، بأساليب فنية اختزالية تعتمد الفكرة البصرية بالأساس إلى جانب تعليقات مصاحبة كثيراً ما تساهم في إنتاج المعنى، وتبليغ الرسالة عبر نقد جمالي ساخر، وكان يغترف موضوعاته من الشارع والحارات الشعبية وكواليس الإدارات والمكاتب المخزنية، وتنوَّعت هذه المواضيع وتعدَّدت حيث عالج من خلالها قضايا مجتمعية وسياسية عديدة، من بينها: الرَّشوة، والنفاق الاجتماعي، الشَّطط في استعمال السُّلطة، الفقر والجوع، البطالة، الهجرة السرية والبحث عن العيش بالضفة الأخرى، مشاكل التعليم بالمدن والأرياف، هموم الفلاحين، الإدارة العمومية والمخزن، النقل ومتاعبه الكثيرة، رداءة الإنتاج التلفزي في المغرب بمختلف قنواته، الزيادة في الأسعار، محنة المواطنين مع ارتفاع الفواتير الخاصة بالماء والكهرباء والتلفون.. وغير ذلك من القضايا التي شكلت متنفساً للطبقات المسحوقة..
وبحكم التراكم الفني الذي حققه على هذا المستوى، فقد دوَّن الرسام لمهادي خلاصة تجربته الكاريكاتيرية وجمعها في كتاب توثيقي أسماه “سنوات الرصاص والحبر والقلم والطباشير” صدر سنة 2008، وقد ضمَّ إبداعات ساخرة نُشرت على امتداد سنوات، بجرائد مغربية، مدعّمة بنصوص وآراء حول مساره الفني،الذي يختزل جانباً من التاريخ السياسي في المغرب بحسب رؤيته. يقول الفنان لمهادي في مقدمة الكتاب: “الرسام الكاريكاتيري صادق في كل ما يعبَّر عنه، يتطرَّق لمشاكل وهموم الناس دون مغالاة أو تهريج، وهو يوصل أفكاره بدقّة وسرعة مع وضع ابتسامة على شفتي كل قارئ”
يتميز الرسام لمهادي بجرأة الفكرة وقوتها، كما يتميز بالبساطة الممتنعة والسلاسة في تنفيذ الخطوط. رسومات لمهادي الساخرة كانت تنتقد الواقع بلغة أيقونية صارخة ومحتجة ضِدَّ العبث والفساد.. لغة الخط وشغل المساحات بتعبيرات صادرة عن انفعال وجداني صادق تجاه الشارع والمجتمع والإنسان المغربي. رسوماته تدفعنا إلى الابتسام والتأمُّل معاً، هي رسومات مستوحاة من المشاهد المتداولة بين الناس ومتصلة بالواقع اليومي المعيش.
ولعل امتلاك الفنان لمهادي لناصيَّة الرسم والتعبير الأيقوني الخلاَّق هو ما يجعله مدركاً لتفاصيل الواقع وفاهماً له بالعمق والوضوح المطلوب.
تفرَّدت تجربة هذا الفنان الرَّائد بملامسة مشاعر المواطن من خلال تنفيذ رسومات ساخرة تنتقد الظروف والمحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع المغربي والعربي، بل حتى العالمي، وذلك باستعمال رسم هادف وملتزم يفضح المسكوت عنه، و تعرية سوء التسيير السياسي وكشف هشاشته والاستبداد العربي وظلم القوى الكبرى، ولم يكن إبداعاً للتسلية والإضحاك، قدر ما شكل فنَّاً حقيقيّاً، جادّاً يدعونا إلى الاستبطان والتأمُّل في واقعنا وفي موضوع الكاريكاتير نفسه.
فالكاريكاتير ريشة مشاغبة تمتهن الكوميديا السوداء وتبدع السخرية. لقد رصد الفنان الراحل بريشته الساخرة وعينه الثاقبة الواقع السياسي والاجتماعي خلال فترات حرجة من تاريخ المغرب، فقد كان هذا الفن دائما مقياسا لدرجة حرارة الديمقراطية والحرية في البلاد. ويعري الواقع ويفضح قبحه وهشاشته، ينتقد الممارسات الاجتماعية والسياسية، وبريشته اللاذعة وأسلوبه الساخر يضع الأصبع على الجراح الملتهبة؛ فينتزع من الجمهور ابتسامة متهكمة ومريرة. رسوم الفنان المهادي عبرت الحدود المغربية إلى بعض الجرائد العالمية،
ونال بفضلها جوائز عالمية منها جائزة بالنمسا سنة 1966 عند معالجته موضوع حرب الفيتنام حيث كان الشعب الفيتنامي يواجه اعتى القوى الاستعمارية من أجل نيل تحرره. كما فاز الراحل بعدد من الجوائز تقديرا له ولفنه، آخرها “جائزة محمود كحيل” شهر أبريل من السنة الجارية، وشارك في عدة ملتقيات ومعارض خاصة بفن الكاريكاتير……
لروحه الرحمة والسكينة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube