مستجداتمقالات الرأي

وداعاً ماما ميركل (2/1)

16 عاماً في صدارة السياسة العالمية

د. محمد بدوي مصطفى

إنسانة بكل ما تحمل الكلمة من معان:

بينما يطلق الغالبية عليها لقب المرأة الحديدية أجد فيها شخص الإنسانة الدؤوبة والصديقة الصادقة الصدوقة في عملها، الأم الوفية وهكذا وصفها من عمل معها أو سكن بقربها أو جمعته سبيل الحياة الكثيرة بها. حقيقة يا سادتي ومنذ أن وطأت قدماها بساط البندستاك كل ما يهمها هو السير قدمًا بوطنها وأهلها إلى آفاق النجاح والتقدم بين الأمم. نعم، استطاعت أن تسلك طريقها بثبات وقوة جأش في مجتمع سياسي كان لغاية تلك الفترة حكرًا للرجال الأقوياء مثال فيلي برانت، هيلموت شميت، هلموت كول، وجيرهارت شرودر التي استطاعت في انتخابات عام ٢٠٠٥ من التغلب عليه بجدارة وكانت هي الانطلاقة لعهدها الذي سيشهد له التاريخ بالنجاح والتقدم، ذلك رغم بعض العفوات والاخفاقات التي صاحبته. ومقارنة برؤساء آخرين في العالم تتحصل أنجيلا على ماهية لا تزيد عن ٣٥ ألف يورو في الشهر. هذا يذكرني برئيس السودان المخلوع الذي كان يطلب ٢٠ مليون دولار في الشهر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه مقابل ماذا؟ دمار واحتكار واحتقار لكل ممتلكات الشعب، فأين هذا كرئيس من السيدة أنجلا، والأمثلة في هذا الصدد تمتد على صحراء الوطن العربي السياسية وحدث ولا حرج.

لن تنسى ألمانيا في العام الماضي ذاك المشهد: حيث ضجت قاعة مؤتمر الحزب المسيحي الديمقراطي المنعقد في هامبورغ حوالي عشر دقائق متواصلة في عاصفة من التصفيق لم تشهد لها مثيل. وقد سكب الكثيرون دموع الفراق واللوعة لمستشارة سطرت اسمها بأحرف من نور على صفحات تاريخ بلدها العريق، ولم تستطع هي تمالك نفسها حيث زرفت هي أيضا دموع تعكس شكرها لمن وقف بجانبها كل هذه السنين الطوال ولم كانوا شاكرين لعملها ودأبها طيلة فترة حكمها. تأثرت ميركل بالمشهد، بعد أن ألقت آخر كلمة لها كرئيسة للحزب. ميركل ستبقى في منصب المستشارة إلى أن يشاء الله وتتكون الحكومة الجديدة.

ولابد لنا بالرجوع إلى الوراء قليلًا لنذكر بالبديات، ففي 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2005 انتخب البوندستاغ أنجيلا ميركل لتكون أول سيدة تشغل منصب المستشار الاتحادي في تاريخ ألمانيا. في انتخابات 26 أيلول/سبتمبر 2021 سوف تخرج من التنافس في الانتخابات، بعد 16 عاما على رأس الحكومة الألمانية الاتحادية. في ألمانيا عادة ما يحدد الحزب الأقوى ضمن الائتلاف مرشحه أو مرشحته لرئاسة الحكومة، حيث يقوم البرلمان بالتصويت عليه أو عليها بأغلبية بسيطة.  الأحزاب الأكبر في البلاد أعلنت الآن عن مرشحيها للانتخابات ومن المتوقع أن يكون أحد المرشحين لمنصب المستشار هو خليفة أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الاتحادية. نستعرض المرشحين الذين اختارتهم أحزابهم على رأس ورقتها الانتخابية بالتسلسل. 

 نرى الآن أن الحقبة الرابعة على التوالي لعمل المستشارة أنجيلا ميركل توشك أن تكون قاب قوسين أو أدنى وسوف تنتهي بتكوين ائتلاف ثلاثي بين الأحزاب التي أحرزت من النتائج ما يؤهلها لقيادة هذه الدولة الرائعة والموتور الاقتصادي في قلب أوروبا النابض. كلنا رأى كيف تصدرت هذه السيدة عناوين الصحف العالمية التي لا تزال تمدح في عملها الدؤوب وفي سني تأسيسها لصرح اقتصادي جبار حيث تُشبّه بأيقونة العمل الإنساني المتمثل في الأم الكاثوليكية المشهورة تيريزا وقلّ ما نجد خارج ألمانيا أصوات ناقدة تسوق بعض الأمثلة المتمثلة في هيمنتها وتسلطها طيلة هذه الفترة وتذهب بعض هذه الأصوات اللاذعة بمقارنتها مع بهتلر.

من هم المرشحون الذين يريدون خلافة ماما ميركل:

لم تكتمل المشاورات بين الأحزاب الألمانية التي ترنو إلى الائتلاف بينها. وكانت هذه المرة الأولى في تاريخ السياسة الألمانية أن تكون الكلمة العليا في اختيار المستشار لحزبي الخضر والأحرار الديمقراطي. ودعونا نلقي نظرة لمن سيكون لهم الأمر والنهي في الفترة المقبلة كرؤساء للأحزاب الفاعلة بألمانيا:

أرمين لاشيت (CDU/SCU) 

هو الرئيس الحالي لأكبر ولاية اتحادية بألمانيا انطلاقًا من عدد السكان، نوردراين-فيستفالن، وهو المرشح عن الحزبين الشقيقين CDU و SCU. بينما يتواجد حزب CDU في جميع الأراضي الألمانية باستثناء بافاريا، ينحصر تواجد CSU في هذه الولاية فقط: حيث يشارك هذا الحزب بالانتخابات في هذه الولاية بالتحديد. لاشيت البالغ من العمر 59 عاما يعتبر من رجال السياسية الذين عرفوا بالحس التصالحي والتوازن. عمل والده طيلة حياته في المناجم، وكانت والدته ربّة بيت وهذه البيئة تعكس انتماءه للطبقة الوسطى من العمال. متزوج من سوزان لاشيت التي تعمل كبائعة كتب في المكتبات. يمكن القول بأنه سياسيا يتبع ذات الأسلوب الذي تتبعه أنجيلا ميركل، مع تركيز كبير على الاتحاد الأوروبي. وقد كان عضوا في البرلمان الأوروبي من 1999 حتى 2005.

أولاف شولتس (SPD)

هو وزير المالية ونائب المستشارة في حكومة ميركل ويبلغ من العمر 62 عاما وقد تم اختياره في آب/أغسطس 2020 من قبل حزبه، ليكون أول المرشحين الذين اختارهم أحد الأحزاب الكبيرة لتمثيله وقيادة الانتخابات والتي نجح فيه حزبه في احراز نتيجة ولأول مرّة تفوق تلك التي أحرزها الحزب المسيحي الديمقراطي. وهو متزوج من السياسية البارزة في حزب SPD، بريتا إرنست، وهي وزير التعليم والشباب والرياضة في ولاية براندنبورغ منذ 2017. عمل قبل أن يتولى منصب وزير المالية كعمدة مدينة هامبورغ ولقد أثبت خلال أزمة كورونا قدرته وتميزه في إدارة الأزمات. سياسيا ينمتي منذ 1975 للجناح المحافظ في حزب SPD 

أنالينا بيربوك (الخضر)

البرلمانية ابنة الواحدة والأربعين، العضو في البوندستاغ (منذ 2013) تترأس حزب الخضر منذ 2018 برئاسة ثنائية إلى جانب وزير البيئة السابق في ولاية شليسفيغ-هولشتاين، روبرت هابيك. وهي أم لبنتين، ومتزوجة من الاستشاري السياسي دانييل هوليفلايش. إنها المرة الأولى على الإطلاق التي يسمي فيها حزب الخضر مرشحا لمنصب المستشار، كما أن بيربوك هي ثاني سيدة تترشح لمنصب المستشار في تاريخ الجمهورية الاتحادية، بعد أنجيلا ميركل. على الصعيد السياسي تعتبر من المعتدلين وتمثل الجناح البورجوازي في حزب الخضر. 

ميركل وكارثة الحرب في سوريا والسرديات:

لقد اهتم الإعلام العربي بالمستشارة الألمانية ميركل وبالأخص لقولتها الشهيرة («سنجتاز هذه العقبة كما اجتزنا كل العقبات من قبل») عندما وقف مئات الآلاف من النازحين على أبواب بلدها ناشدين الدخول إلى جنة الخلد الألماني. وكما نعلم لقد اجتاحت في عام ٢٠١٦ أوروبا وبالأخص ألمانيا تلك الموجة العارمة والتي حملت معها ملايين من لاجئ الحرب لا سيما في سوريا والعراق ولحسن الحظ استطاعت ألمانيا من احتوائهم وجعلوا منها موطنهم الثاني وهانحنذا يا سادتي نقف على الكثير من السير الذاتية التي لم تأمل فيها الأحزاب المتطرفة النجاح لهؤلاء وأولئك ولكن رغم عن ذلك نجح الكثيرين وبلغوا برّ الأمان بأسرهم وأهليهم والفضل يرجع للمستشارة التي فتحت لهم الأبواب على مصراعيها وعاملتهم معالمة المثل في كل الحقوق والواجبات كما الألمان وفي بعض المرّات حقيقة أحسن من ذلك.

من جهة أخرى كان فضولي كبيرًا عندما قرأت رواية ماما ميركل حيث تبادر لزهني كيف جاءت الفكرة للكاتب عماد البليك ليشير لهذه المرأة الحديدية. فسألته وهاكم اقتباس حديثنا في حور بعنوان («معمار الرواية وبناؤها – الجزء ٦). سألته قائلاً:

اقتباس:

 إنّ كارثة الحرب في سوريا وتشرد ابناء الأمّة العربية والإسلامية في بقاع الأرض المختلفة جعلك تتفاعل معها بعدّة أعمال أدبية، من بينها رواية “ماما ميركل” والتي تحمل اسم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، ما هي دوافع كتابة هذه الرواية بالأساس وكيف نشأت الفكرة وتبلورت؟

>الرواية تشكلت عندي من فلسفة الهجرة عبر التاريخ البشري، وفي الفصل الأول يتكلم الراوي العليم أو الكاتب أو الراوي الافتراضي – سمه بأي شكل كان – عن هذه الفكرة، كيف للهجرة أن تعيد بناء العالم الإنساني وتصوغ قوالب المجتمعات، سواء تمت بشكل جماعي أو أفراد متناثرين أو تمت بغزوات وحروب أو نتاج مجاعات أو جدب أو الخ.. حيث تختلف الأسباب والظروف من سياسية لاقتصادية وغيرهما. فالتاريخ البشري سيبدو إذن محمولا على هذا الإطار الذي تحركت منه لتطبيقه على لحظة معاصرة هي عالم ما بعد ما عرف بالربيع العربي في البلدان العربية، حيث حصلت حالة من الهيجان والتثوير التي ظن العرب انها لحظة عظيمة للتحول وبناء فجر جديد من التحرر، ثم اكتشفوا أن ذلك كان أضغاث أحلام وكوابيس مفزعة لا غير، لكن حقيقة المشكلة أبعد من ذلك بدأت منذ أحداث سبتمبر في الوسط الآسيوي في أفغانستان وهذه المنطقة التي اشتغلت فيها الحرب، كذلك في بلدان أفريقية، كل ذلك النسيج عملت على ربطه عبر فكرة هذا النص، حيث أن البطل الحقيقي فيه هو الفكرة نفسها، لم أكن مهتما ببناء أبطال مستمرين في الرواية كلها أو قصة لها الشكل الكلاسيكي، وهذا شكّل إرباكا لبعض من قرأوا الرواية باعتبار أنها مجموعة قصص أو متواليات قصصية أو ثمة من قال بالمعنى الواضح أنها “مشتتة”، وهذا إشكال يتعلق بما شرحته سابقا حول أزمة القراءة وما يحيط بها من إشكاليات التخييل الجديد وفهم السرديات والتاريخ الخ، من هذه القضايا التي استفضت فيها.

< هل هي فقط لفتة بطولية لما قامت به هذه المستشارة التي جاءت حينها بمقولتها الجبّارة “سوف نقدر على استيعاب كل هذه الحشود” وبقيت هذه المقولة تاريخا في ذاكرتنا الجمعية، أم أنّه شيء من مؤازرة لأولئك الذين تركوا وراءهم الأوطان ورحلوا دون وجهة يعلموها، منهم من بلغ ضالته المنشودة ووصل إلى برّ الأمان ومنهم من قضى نحبه.

> أنا لست مهتما بميركل بالدرجة الكبيرة، فهي أداة في محيط تاريخ ثقافي ومعرفي وسياسي ومعين، كان لابد لهذا الفعل أن يتم إنتاجه بشكل ما، جراء المتغير على أرض الواقع الجيوسياسي في البلدان العربية، الذي جاء بتأثيره المباشر على الواقع المتوسطي والأوروبي. ميركل لم تكن إلا ثمة استعارة، ليس في الأمر أي احتفاء ببطولة أو استثناء إذن، وهي داخل العمل الروائي تصبح امرأة أخرى ليست بالضرورة هي، تلك التي نعرفها في الواقع البراني. أي انها تدخل في مفهوم “السردية” الذي يعني إعادة إنتاج الأشخاص بتصورات متعددة تجعلهم يبدون بألوان جديدة وأفكار مختلفة، بالتالي فالرواية بقدر ما تتقاطع مع الواقع والتاريخ فهي لا تحكي عنه أو توثقه، فهي ليست عملا وثائقيا أو فيلما وثائقيا كما تفعل القنوات الفضائية عندما تنتج لك فيلما عن الهجرة عبر المتوسط، حيث يتم تسطيح الأمور بشكل كبير، فالناس نعم تحتاج إلى القصة أو الحكاية لكنها لا ترغب في أن تخبرها بما تعرفه، هي تريد تصورك أنت، مقالك ومفادك الجديد، الذي لن ينتج إلا عبر وعيك الذاتي، أيضا فلسفتك الخاصة باتجاه الواقع المعين.

فيما يتعلق بموضوع المؤازرة، ممكن للأديب أو الفنان أن يمارس دور السياسي وأن يصدرا بيانا يمهره بتوقيعه بأنه يتضامن مع الفعل الفلاني أو الشخص المعين، لكن هذا لن يجعله فنانا، ما يصنعه منه فنانا أو أديبا أن يعرف كيف يصنع فنه، هنا التحدي الأساسي، واليوم لدينا مشكلة “عويصة” في الخلط بين الاثنين، إذ أن بعض الكتّاب والأدباء والفنانين يأخذون دورهم ليس من خلال منتجهم الإبداعي أو تصوراتهم الجمالية الافتراضية للعالم، يعني كتبهم، بل من خلال البيانات المدبجة التي يصدرونها للتماس مع الواقع السياسي والاقتصادي البراني، هم هنا يسقطون عن الدور، ويصبحون ذيلا للتسلط ليس إلا، ويهينون مهمة الأدب في كونه فضاء أو حقل لذاته، إذا أردت أن تكون سياسيا فلتذهب إلى البرلمان وتقول رأيك – هذا إذا كان لك برلمان من الأساس! إذن فالمؤازرة هي شيء صميمي، ينبغي أن يكون مزروعا في الأساس بجوهر الفنان وقلبه، إذا لم يكن لديه هذا الحس أو هذه الخاصية، فهو يسقط من البداية، كما لا يحتاج – كما أوضحت – أن يصرخ خارج النص، بما يجب أن يقوله داخله، من يقرأ العمل سوف يفهم إلى أي حد كنت إنسانيا أنت وموضوعيا أم لا، دون أن يكون لك أي دور “احتيالي” آخر يحوّل خطابك إلى أداء تهريجي.

(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
RSS
Follow by Email
YouTube
YouTube